صحيفة المثقف

هابيل يبعث حياً .. جذور التسامح والقسوة في التاريخ العراقي (1)

 الوجود البشري الأول الذي تشكلت منه كتل مجتمعية انتقلت الى اطوار اعلى في وسائل عيشها كما في انماط حياتها، ومن ثم نجاح تلك المجتمعات في ايجاد نظم تداخلت فيها سبل السيطرة على الكائن البشري وترويضه عبر قوانين أرضية يحرسها نظام صارم اطلق عليه مصطلح (الدولة) مع تشريع سماوي اتخذ شكل آلهة متعددة المهام والقدرة في عقاب الكائن البشري وثوابه .

التزامن في تطور الدولة، رافق الارتقاء في تطور المعتقدات الماورائية التي تحولت عبر السيرورة المتلاحقة الى اديان توحيدية شهدت بدورها انماطا مختلفة .

التصور البشري للآلهة ارتبط واقعا بالبيئة الجغرافية ، فآلهة الأغريق والرومان عاشت في أعالي الأولمب وهي الموكلة بأمر مراقبة أعمالهم والتدخل في مصائرهم، أو هي في اعماق البحار مسؤولة عن مصائر السفن ومراكب الصيد والعواصف البحرية التي قد تسلطها لمعاقبة مدينة أو حاكم لمخالفته أمرالآلهة، كذلك تصوروا آلها للبراكين والزلازل قد تستخدمه الآلهة لتنفيذ عقابها.

كان زوس كبير آلهة الاغريق، ودوداً مرحاً في الغالب، لايمانع ان ينزل الأرض ليغازل فتاة بشرية أعجبته، لكنه كذلك شديد الصرامة يستخدم الصواعق الفتاكة سلاحاً.

لاشك ان نظرة فاحصة لمجموعات الآلهة الاغريقية تشي بتأثيرالجغرافيا على المعتقدات، فآلهة الشرق عموماً – والجزيرة العربية بشكل خاص – تختلف في تفاصيلها ومهامها عن آلهة الأولمب،انها في الشرق – مصدر الاديان اللاحقة – تسكن السماء ولا وجود فيها لآلهة من نوع (بوسيدون) الهة البحار الاغريقي و(فولكان) الهة البراكين بل ويختفي كذلك آلهة الغابات والينابيع، ليحل محله إله الرعي في الحضارات الرافدينية .

انبثقت التصورات عن مهام الآلهة في الحضارة الرافدينية من الارهاصات  الاولى لتطور الحياة الاجتماعية، فمع اكتشاف الزراعة ومساهمتها الفاعلة في اجتذاب مجموعات بشرية اكثر عددا، للانتقال من الحياة  البدائية واقتصار وسائل العيش على ما تهبه الطبيعة ومايمكن الحصول عليه من الطرائد، الى تجمعات بدأت بانشاء مستوطنات يتعاون سكانها على استحصال وسائل عيشهم بطرائق اخرى يمكنهم من خلالها جمع الزائد عن حاجاتهم من القوت انتقالاً الى امكانية استبداله بسلع وادوات أخرى يحتاجونها لزيادة غلتهم مما تمنحه الارض .

الموروث الديني لم يخل من مقابل أجتماعي عكسته الحياة اليومية للناس في وسائل عيشهم، فموت هابيل على يد قايين التوراتي أو قابيل القراني - وهو تكثيف رمزي لصراع البداوة والحضارة كما تذهب  بعض الاراء- لم يكن موتاً دائماً، اذ انهما تبادلاً فعل القتل بمعنييه الرمزي والمجسد  على امتداد التاريخ – الديني والأسطوري  على السواء- .

ولما كانت الزراعة والرعي، هما المهنتان الاساسيتان للمجتمعات للبشرية اللتان اشتقت منهما كافة النشاطات اللاحقة تبعاً للتطور الحضاري، ومع التقاسم التدريجي لمهمات العمل ونشوء الوسيلة التي بإمكانها السيطرة على تنظيم العمل والزام الطاعة بالتنفيذ – اي الدولة – نشأت تبعاً لذلك  مهام جديدة كانت تتوسع بإطراد، فتبادل السلع تطلب ايجاد مهنة التجارة واحتياج الدولة الى قوة فرض اوجد الموظفين والشرطة، ومتوجبات الدفاع عن الدولة اوجد وظيفة الجيش، وصنع الأدوات المساعدة اطلق بدوره فئة الصناع، أما زراعة الارض والعمل على استخراج خيراتها  بما يتطلب من حرث وسقاية ورعاية ومايزرع  بما فيها  شق القنوات وكريها وصيانتها ومن ثم جني المحاصيل، فتطلب انبثاق فئة تتخصص بهذا النوع من العمل-المزارعين -  بمعنى ان الزراعة هي صاحبة البصمة الأولى في نشوء المدن وماتبعها من مفاهيم الدولة والقانون والدين والصناعة والفنون وسواها، لكن أهمية الرعي لم تتراجع ، بل بقيت حاضرة باستمرار في منطقة تتقاسمها الخصوبة والتصحر، وهكذا  طبعت هاتان المهنتان تاريخ المنطقة بما أفرزتاه من موروثات أسطورية ومعتقدات دينية وحروب ووقائع ملأت صفحات التاريخ وأنعكست على تشكل الإنسان، ابتداء من صراع دوموزي الراعي ومندو المزارع، مروراً بالمواجهة الشرسة بين جلجامش رمز المدنية وأنكيدو سليل الرعي ورفيق الماشية قبل ان يتصالحها ويتآلفا في ايحاء لتشابك الرمزين، وليس انتهاء بمنح الأولوية العليا لإله المطر(أنليل) في الحضارة السومرية ونزعها بالتالي عن آنو إله السماء، لأن انليل منح الانسان إضافة الى المطر وما يعنية من إخصاب الأرض – وهو ما ينعكس تأثيره على الزراعة والرعي معاً – الفأس والمحراث، وهما أدوات الزرع الأساسية، ثم مافعله مردوخ من ثورة اطاحت بكل الآلهة القديمة وتربع على العرش الذي أقامه على الغمر بعد ان انتهى من خلق الكون في ستة أيام، وقد ترافقت ثورته السماوية مع قدوم القبائل السامية (الأكدية) من قلب الصحراء واستيلائها من ثم على المدن السومرية لإقامة دولة موحدة يحكمها ملك واحد (راجع كتاب : البابليون – ه. و. ف . ساكز – ترجمة سعيد الغانمي  - الصفحات 58 الى 62) .

في الموروث الديني لتفسير الجريمة الأولى على الارض (قتل قابيل لأخيه)  ان الربّ تقبّل قرابين هابيل الراعي من الماشية، فيما رفض قرابين قابيل من الأثمار والخضار،  لكن تلك القصة لم تنته عند ذلك، فقد أصبحت قرابين هابيل  هي المعتمدة لقبول الرب، وهو مادعى النبي  ابراهيم الى افتداء ابنه اسماعيل (أو اسحاق كما في التوراة) بتقديم كبش لتصبح تلك الأمثولة طقساً متبعاً في الأعياد الدينية المخصصة للتضحية، ثم حدثت المواجهة بين موسى الراعي الذي استخدم الحجر والمقلاع – وهما رمز الرعي – ليصرع  المزارع المعلاق جيليات المسلح بهرواة، لكن هزيمة جيليات تحولت الى نقيض  متصالح في عهد سليمان حين سخّر الطيور لاستطلاع احوال الصحراء وملكتها بلقيس .

وفي (الألياذة) الملحمة الأغريقية من هوميروس، تغزو ملوك الجزر الاغريقية، مملكة طروادة – وهي الحدّ الفاصل بين ممالك الرعي في آسيا وممالك الزراعة في اليونان واوروبا  كما كانت عليه بابل التي غزتها القبائل السامية الصحراوية - وكان السبب في وقوع الحرب الطروادية، الراعي باريس ابن ملك طروادة (فريام) حين خطف هيلين زوجة احد ملوك الجزر الاغريقية الذين تعاهدوا قبل ذلك على حمايتها مجتمعين فيما لو تعرضت لمكروه، ثم تتجلى رمزية الملحمة بعد معرفة ان باريس حصل على هيلين بواسطة ثمرة تفاح قذفتها آلهات الجمال الثلاث – ديانا آلهة الحكمة وحارسة الرعي وهيرا زوجة (زوس) كبير الآلهة وافروديت آلهة الجمال .

في المسيحية، خاطب السيد المسيح تلك المرأة الكنعانية التي تبعته طلباً لشفاء ابنتها "(انما أرسلت لخراف اسرائيل الضالة)" ولم يكن من دون دلالة ذلك الوصف في شعب مارس انبياؤه مهنة الرعي .

 

عندما جاء الإسلام ، اختار الله نبياً مارس بدوره مهنة الرعي، وقد دخل الاسلام طوراً آخر في اتباع آلية الحكم  حين حدثت انعطافة كبرى في المفاهيم بعد انتقال الخلافة من مدن الصحراء – مكة والمدينة المنورة – الى الكوفة أولاً التي عاشت مرحلة الإضطراب ثمناً لذلك التحول حين انتقلت القبائل الى مدينة مستحدثة لم تستطع اكمال تشكلها على قيم مدينية بعد، كما دفعت تجربة الإمام علي في الحكم، ثمن ذلك المخاض الذي عاشته الكوفة في إطار تحولها،فدفعت المدينة والتجربة ثمن الصراع بين نمطين للحياة  مختلفين،  بداوة قبلية يسيرها عرف راسخ ومتوارث، ودولة أريد لها ان تتشكل وفق قانون لم يكن مألوفاً في حياة العرب، اذ يمكن اعتبار تجربة الخلافة السابقة (الراشدة) بأنها حافظت على المستوى القبلي في الحكم بوجهه العام ، ضمن مدن مألوفة للعرب في حفاظها على العرف (المدينة المنورة ومكة)، الا ان انتقال الخلافة الى الشام – بهويتها المستقرة مدينياً – جعلت سلوكيات الحاكم تنهج ما سنّه أكاسرة الفرس وأباطرة الرومان حيث الزراعة هي المهنة الرئيسة في امبراطورياتهم .

التصور البدئي الأول للانسان عن الإله، انما حددته طبيعة البيئة، فسكان الصحارى كان لايرون من الآلهة سوى غضبها وقسوتها المتمثلان  بالعواصف والرياح الحارقة والجفاف والرمال الشاحبة، لذا كان طبيعياً ان ينشأ معتقد يرى ان الآلهة خلقت الإنسان وتخلت عنه تاركة إياه لمواجهة مصيره بنفسه، لذا كان لزاماً عليه ان يحاول اتقاء غضبها بنذور وطقوس وصلاة استسقاء وماشابه، في وقت يكرر فيه الفتك بأخيه الانسان في صراع من اجل البقاء لارحمة فيه يستمد قسوته من تصوره لإله قاس، وقد وصفت تلك المعتقدات بأنها (ربوبية) تقوم على الفصل بين الآلهة ومخلوقاتها رغم ان الإله هو من خلق الكون وجميع المظاهر المرافقة بمافيها الانسان، الا انه لايتدخل في مسار مخلوقاته بشكل منهجي منظم .

فيما ساد  بين  سكان المناطق الخصبة حيث وفرة الماء وسهولة العيش مع عطاء الطبيعة وما تمنحه من خيرات، معتقد آخر اطلق عليه وحدة الوجود أو (الحلولية) وفيه يكون الإله حاضراً في طبيعة مخلوقاته، وما الإنسان الا قبس من روح الله يمكنهما التواصل بالمعرفة وما وهب الإنسان من نور العقل وتجلي الروح، اما في المناطق التي تتجاور فيها البيئتان معاً  - الصحارى الجافة والاراضي الخصبة – فقد انبثقت معتقدات من نوع (الألوهية) حيث الآلهة قوة علوية تتحكم في الكون ومصير البشر، لكنها متصلة معه بعلاقات روحية يحتمها الإحساس الدائم بحضور القوى العلوية راعية الحياة بكل مظاهرها (راجع كتاب: الرحمن والشيطان – الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية – فراس السواح - الصفحات 18 / 22).

يتبع ---

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1379 الاثنين 19/04/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم