صحيفة المثقف

وخزُ الإبر في (بابا...بابل)

الجميع سواء أكانوا مبدعين أم نقاداً أم متلقين. لكنَّ الخشية تأتي من نتائج الاختلاف في الرؤية، إذ يظنّ ُبعضنا أنَّ النقد الموضوعيّ قد يسبب قطيعة ً بين طرفي المعادلة (الشاعر والناقد) فبعض الشعراء لا يحبّذون ذكر ما عليهم، إنّما يرغبون في إيراد الذي لهم ليس غيرا، وقد سبب اختلاف رؤيتي النقديّة لبعض النصوص أيّام عملي في جامعة الموصل ما سبّب لي من غضب بعض الشعراء وزعلهم (إن لم أقل ضغينتهم) حتى هذه الساعة، لذلك حاولت ُبعد تلك التجربة ألّا أتناول في كتاباتي النقديّة إلّا النصوص التي تثيرُ فيَّ الإدهاش، وتجرّني هي إلى الكتابة برغبة واندفاع يؤطّرها الرضا التام (وإن لم تكن لتُثير غيري.)

وليس معنى هذا أنّني تناولتُ النصوص التي كانت خلواً مما عليها، إنّما كان ما عليها (وفقاً لرؤيتي) قليلاً بالقياس إلى الذي لها.

واستجابةً لدعوتكَ الكريمة في قراءة نص الأخ الشاعر صالح الطائي الموسوم بـ(بابا... بابل) أقول:

إنه نصّ ٌ مكتنزٌ بلوحات الفزع، يصوّر الشاعر الفجيعة وكأنّ القيامة قامت، وأنّ الله قد قلبَ عالي الأرض سافلها، أو أنّ ساعة الحشر قد أزفت، وحلّت، حتى لم يعد في الأرض مأمنٌ لأحد: (البوم ترعرع) و(الحلوى دماء) و(اختلط القاتل بالحابل) و(السافل بالنابل) و(في القلب تمارين قنابل) و (الدمع تآمر..) و (الخرائب تجتر أحجارها) و(الصدر جهنّم) و(العين تقايض كلّ الرؤى بتوابيت نهار) و(الليل توسّد ليلاً آخر) و(هرب العاشق من دمه) و(عويل خواء) و(رأى جثثاً متناثرة) و(أرواحاً راحلة) و(طابوق المدينة معجون بالدم والطين) و (الغيوم ثعالب)...

لقد كان الشاعر ذكيّاً في تصوير ما حدث في مدينة بابل (الحلّة) على هذا النحو من الفجيعة الجماعيّة، وكأنه زلزال لم ينجُ منه بشرٌ أو شجرٌ أوعمران، لكنّ مبالغته في إيراد صور الفزع القاتمة شكلت انقطاعاً للحياة، وألغت الحلم في الامتداد الذي يسعى إليه الفن باعتباره يحملُ هدفا ً لديمومته، ومعنى لصانعه بوصفه أداة للتغيير، لهذا قيل :إنَّ الشعر نبوءة ورؤيا، وليس كلاماً موزوناً مقفّى فقط.

غير أنَّ الذي شفع لهذا الإطناب بالصور القاتمة، هو ورودها على لسان طفلة ٍ على نحو صراخٍ مكبوت، فخيال الأطفال خيالٌ جامحٌ لا مجال لكبحه وترويضه. وهنا ينبغي أن نشير منبّهين إلى أنّ تكرار الطفلة لندائها: (بابا...بابل) بين الفينة والأخرى كان (كما نزعم) وخز إبر الأبناء (تورية ً عن الأمّة) في جسد الآباء (تورية ًعن قادتها) كي يلتفتوا إلى ما حلّ من خرابٍ في جنائنهم التي يعشقون، وهي تورية أخرى عن الوطن كلّه، وليس المقصود كما قد يظنّ بعضنا أنّ الطفلة كانت تنادي أباها بابل، فبابل مدينة، والمدن مؤنّثة، لذلك تنبّه الشاعر لما قد يقع فيه بعضنا من لبس، فوضع بين المنادى (وهو بابا) والمدينة (وهي بابل) نقاطاً لأمنِ اللبسِ ليس إلّا.

داخل الشاعر بين أسلوبي قصيدة التفعيلة، وقصيدة النثر، ففي التفعيلة استخدم إيقاع الخبب المخبون (فعِلن) بكسر العين، والخبب المضمر (فعْلن) بسكون العين، كما في قوله على غير توال ٍ مستغلاً ما أتاحه له الإيقاع من ضروبٍ مختلفة:

 

الطفلة ُ تصرخُ في صمت ٍ

فعْلن فعِلن فعِلن فعْلن

والشارعُ ثعبانٌ أعمى

فعْلن فعِلن فعْلن فعْلن

في آخرِ ساعاتِ الصبر ِ

فعْلن فعِلن فعْلن فعْلن

بابا...بابلْ

فعْلن...فعْلن

لم يبقَ سوى أسَد ٍ

فعْلن فعِلن فعِلن

في يدهِ هيكلُ لبوتِه ِ

فاعِلُ فعْلن فعِلن فعِلن

والطفلة ُ ما زالت تصرخ ْ

فعْلن فعِلن فعْلن فعْلن

بابا...بابا

فعْلن...فعْلن

 

والخبب إيقاعٌ متموّجٌ راقص (فعِلن فعِلن فعِلن فعِلن) ولعلّ ما فيه من إيقاع متحرّك هو الذي حدا بالدكتور عبد الله الطيّب المجذوب أن يقول:" وقد استفاد منه الصوفيّة في بعض منظوماتهم التي تُنشد لتخلق نوعاً من الهستيريا " مشيراً إلى القصيدة المنسوبة إلى الغزالي:

 

الشدّةُ أودت ْ بالمُهَج ِ

يا ربِّ فعجّلْ بالفرج ِ?¹?

 

وكما أنَّ الشاعر داخل بين الإيقاعات، فقد داخل في التقفية أيضاً، ويبدو أنّ ذلك جرى عن وعيٍ ٍ عامدٍ وتصميم فنّي، ليجعل َمن تلك الإيقاعات أشبه بطبول حرب حزينة صارخة تعلن وقوع الزلزال المدمّر، فكانت قافية اللام هي المجلجلة، وهذه أمثلتها على غير توال ٍ:

 

لقد اختلط القاتلُ بالحابلْ

والسافلُ بالنابلْ

بابا...بابلْ

وفي القلب تمارينُ قنابلْ

والأحزابُ توابلْ

للآن َلم تدخل ْ فيها السنابل ْ

أو في الوطن الراحل ْ

أم نحنُ لحم ُ المقاصل ْ

 

وكانت قافية الهمزة هي التي تكفّلت بالمد الصارخ، وهذه أمثلتها على غير توالٍ كذلك:

والحلوى دماءْ

وعويلُ خواءْ

حمورابي بدونِ غذاءْ

والأسرى هم الزعماءْ

وابتدأ البكاءْ

 

بينما تكفّلت قافية الراء بتوكيد امتداد الصراخ المكبوت بالقياس إلى المدّ الذي كانت عليه الهمزة من آخر الحنجرة:

 

على روحيَ بالانهمارْ

بتوابيتِ نهارْ

والنخلة ُ قد بِيعتْ منذُ ُ مدارْ

 

إنّ الصراخ المكبوت الذي ولّدته الطفلة في هذه القصيدة (كما ألمعنا) كان أشبه بوخز إبر الأبناء (الأمّة) في جسد الآباء (القادة) تحفيزاً لصنع الدريئة التي يحتمي بها الجميع، وبذا يُصبحُ الفرديّ ُ في الفن عاماً، وهو ما يُنشدهُ الإبداع.

 

.....................

الهوامش

(1) يُنظر كتابنا: موسيقى الشعر العربي قديمه وحديثه، ص 82.

 

للاطلاع على باب النقد الادبي

http://www.almothaqaf.com/new/index.php?option=com_content&view=article&id=14152&Itemid=119

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1408 الاربعاء 19/05/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم