صحيفة المثقف

حوارٌ مع البخل

اقتربتُ  منه على مضضٍ وبدأتُ معه حواراً عن نفسه لأشبع فضولي  :

أيها الراكب أقدامه بلا نعل هل لك أن تمنحني قليلاً من وقتك؟  تمتم بعبارة لا افهمها ولكنه في الآخر التفت إليّ وقال وهل لدي وقت ٌ حتى أُعطيك منه قليلا، ألا تراني ابحثُ بين الناس لأرى أياً منهم اتخذه إليّ خليلا؟ هيا قل ماذا تريد، ليس عندي ما أُعطيك؟

قلتُ لا أريد شيئاً ولكنني  أحببت أن اعرف من أنت فقط .

ضحك طويلا وقال كأنك لم تسمع بي من قبل . لقد ورد ذكري في كتب السماء وعلى ألسنة الأنبياء والأولياء والصالحين وتندر بي الأدباء والظرفاء والشعراء. أما أتباعي فمنهم الملوك والسلاطين وأصحاب الفكر والأدب والناس البسطاء، فأنا الصفة الذميمة التي لا تجتمع مع الإيمان أبدا ولا ترتضيها أخلاقيات المجتمع. أتباعي محرومون في الدنيا والآخرة، مكروهون من قبل الله سبحانه وتعالى ومبغوضون من الناس.. وقد قيل ما قيل فيَّ وفي أتباعي. وقد تتسع دائرتي حتى تشمل امتناع الناس عن أداء ما اوجب اللهُ عليهم. 

لما انتبه إلى حيرتي قال كأنك ما عرفتني حتى الآن؟ قلت وهذا ما زاد من حيرتي. قال لا عليك، فانا البخل، هل سبق و سمعت بي؟

قلت نعم سمعت بك ولكني اطمع في معرفة المزيد . أردت أن اعرف أولاً رأي الإسلام فيك...

كما تعلم لقد نهى الإسلامُ عني لأنني لستُ من صفات الإنسان المسلم. وهناك الشحُّ وهو اشد في الذم مني. وقد ورد فيه عن رسول الله (ص) أنه قال: إياكم والشحَّ فان الشحَّ اهلك من كان قبلكم.

قلتُ وماذا قال الرسول فيك أنت بالذات؟

قال: قال فيّ (ص)  البخلُ جامعٌ لمساوئ القلوب وهو زمامٌ يُقاد به إلى كل سوء .

قلت وماذا بعدُ؟ قال وقد يبخل الإنسانُ على نفسه واشد من ذلك دعوة الآخرين للبخل. قال الله تعالى:

(الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناسَ بالبُخْلِ ويَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِه) سورة النساء - الآية 37 .

وقد نزلت فيَّ آياتٌ بينات تذمُني:

قال تعالى: (وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُوُنَ بِمَآءَ اتَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرَاً لَهُم بَلْ هُوَ شَرٌ لَّهُم سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخَلُواْ بِهِ يَوْمَ القِيمَةِ وَلِلّهِ مِيراثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُوُنَ خبيرٌ) سورة آل عمران - الآية180

ويبين سبحانه وتعالى مردود البخل على النفس فقال:

(ها أنتم هؤلاءِ تُدْعونَ لتُنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وانتم الفقراء وان تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم)  سورة محمد - الآية 38

وغيرها من الآيات التي تذمني.

قلت أعجبتني صراحتُك ولكن ماذا قال فيك رسولُ الله (ص) والأئمةُ  عليهم السلام؟

قال: مِن دعاء رسول الله عليه الصلاة والسلام:

(اللهم إني أعوذ بك من الهمِّ  والحزن والعجز والكسل والبخل والجبن  وغلبة الرجال)

وورد عن الإمام علي (ع) :  سيأتي على الناس زمانٌ عضوضٌ، يعضُّ الموسرُ على ما في يده ولم يؤمر بذلك . قال:  قال تعالى ( ولا تنسوا الفضل بينكم)

وورد عن الحسين عليه السلام (قال: قال رسول الله (ص)  البخيل من ذُكِرْتُ عنده ثم لم يصلِّ عليّ)

استعذت منه بالله العلي العظيم وسألته:

وهل أنت ظاهرة سلوكية مكتسبة أم سمةٌ وراثية؟ وهل لك من علاج؟

بعد أن طاب له الحديثُ معي أخذ نفسا عميقا وأطلق لنفسه العنان:  

أنا لا علاج لي يا هذا..........!!

و في الحقيقة أن هناك وجهاتُ نظرٍ متباينة، فالبعض يرى أن لي عوامل وراثية فمن كان آباؤه وأجداده بخلاء يورثونه هذه الخصلة الكريهة ويقولون إن فلان الفلاني كان بخيلا وأنجب أولادا كلهم بخلاء مثله.  وان قوما هجاهم الشاعر كلهم لبخلهم . والبعض الآخر يقول أن المرء يولد وفيه هذه السمة وخيرُ مثالٍ على ذلك ما قالتْهُ اُمُّ حاتم الطائي لإبنها  الآخر بعد وفاة حاتم حيث قال لها أنا جوادٌ مثل حاتم فقالت هيهات ذلك لأنني حينما ولدتُ حاتم امتنع عن الرضاعة لمدة سبعة أيام ولم يرضع إلاّ بعدما أرضعتُ ابنَ جارِنا ولما ولدتك أنت كنتَ ترضع بثديي الأيمن ويدك على ثديي الأيسر.... وهذا يدل على  أني مثل الجود والكرم والسخاء نولد مع الشخص. ومنهم من يرى أنني ظاهرة سلوكية مكتسبة تنتج جراء عوامل عديدة وخبرات سلوكية متراكمة من الطفولة يؤول سببها إلى الحرمان وعدم إشباع حاجات في النفس، ويقولون  أن لا ظاهرة سلوكية مطلقة أبدا ولكنني أنا شخصيا أؤمن  أني أُولد مع الإنسان.

طيب يا سيد بخل هل لك أن تحدثني عمن تناولوك وتناولوا أصحابك؟

قهقه عاليا وقال ألم تقرأ كتاب الجاحظ فلقد افرد لي كتابا اسماه (البخلاء)  ضم بين دفتيه قصصا مثيرة عن أتباعي.....، أما صاحب كتاب المستطرف في كل فنِّ مستظرف أفرد لي فصلا جميلا ذكر فيه أتباعي وما قيل فيهم.......

قلتَ وألان يا بخلُ هلا حدثتني عن أشهر أصحابك؟

قال اسمع اذهب للمستطرف ستجد ما يشبع فضولك، قلت لا استطيع فلا وقت لدي ولكني أتوسل إليك بصفتك الكريهة الذميمة أن تحكي لي أنت بنفسك  عن نفسك فقال:

 كتب سهل بن هارون في مدحي كتاباً وأهداه إلى الحسن بن سهل فوقع على ظهره: قد جعلنا ثوابك عليه ما أمرت به فيه .

وقال  ابن أبي فنن:

ذريني وإتلافي لمالي فأنني    أحب من الأخلاق ما هو أجمل

وان أحق الناس باللوم شاعرٌ  يلوم على البخل الرجالَ ويبخل

 

وكان عمر بن يزيد الأسدي من أتباعي المخلصين أصابه القولنج في بطنه فحقنه الطبيب بدهن كثير فانحل ما في بطنه بالطست فقال لغلامه:

اجمع الدهن الذي نزل من الحقنة وأسرج به.

وكان أبو جعفر المنصور من خيرة أصحابي  . مر به مسلم الحادي في طريقه إلى الحج فحدا له يوما بقول الشاعر:

أغر بين الحاجبين نوره

يزينه حياؤه وخيره

ومسكه يشوبه كافوره

إذا تغدى رفعت ستوره

فطرب المنصور حتى ضرب برجله المحمل ثم قال يا ربيع إعطه نصف درهم. فقال مسلم: نصف درهم يا أمير المؤمنين ! والله لقد حدوتُ لهشام فأمر لي بثلاثين ألف درهم .

فقال المنصور: تأخذ من بيت مال المسلمين ثلاثين ألف درهم؟ يا ربيع وكِّل به مَنْ يستخلص منه هذا المال . فقال الربيع ما زلت امشي بينهما وأروضه حتى شرط مسلم على نفسه أن يحدوَ له في ذهابه وإيابه بغير مؤونة.

وكان الحطيئة إذا مرّ به ضيف وهو على باب داره وبيده العصا، فقال أنا ضيفٌ أشار الحطيئة إلى العصا وقال لكعاب الضيفان أعددتُها.

و حُميد الأرقط كان هجاءً للضيفان. نزل به مرةً أضيافٌ فأطعمهم تمراً فهجاهم وقال أنهم أكلوا التمر بنواه.

وأما خالد بن صفوان كان يقول للدرهم إذا دخل عليه يا عيارُ كم تعيِّر وكم تطوف وتطير لأطيلنّ حبسَك، ثم يطرحه في الصندوق ويقفل عليه.

واستأذن أحدُهم على صديق له بخيل فقيل هو محمومٌ فقال كلوا بين يديه حتى يعرق.

وكان أبو العتاهية ومروان بن أبي حفصة بخيلين يُضرب بهما المثل.

ومن الموصوفين بالبخل أهلُ مرو. يُقال أن من عاداتهم إذا ترافقوا في السفر أن يشتري كلُّ واحدٍ منهم قطعةَ لحمٍ ويشكها في خيط ويجمعون اللحم كله في قدر ويمسك كل واحد منهم طرف خيطه فإذا استوى  جرَّ كلّ ُواحد منهم خيطَه واكل لحمَه وتقاسموا المرق.

وقيل لبخيلِ: من أشجع الناس؟  قال من سمع وقع أضراس الناس على طعامه ولم تنشق مرارتُه .

وقيل لبعضهم: أما يكسوك سيدُك؟ فقال والله لو كان له بيتٌ مملوء أبرا وجاء يعقوب النبي ومعه الأنبياء شفعاء ومعه الملائكة ضمناء يستعيرون منه إبرة ليخيط بها  قميص يوسف الذي قُدَّ من دبرٍ ما أعاره إياها فكيف يكسوني وقد نظم فيه من قال:

لو أن دارك انبتت لك واحتشت

ابراً يضيق بها فناء المنزل 

واتاك يوسف يستعير إبرةً

ليخيطَ قد قميصه لم تفعل 

وهذا دعبل يقول كنا عند سهل بن هارون فلم نبرح حتى كاد يموت من الجوع . فقال ويلك يا غلام آتنا غداءنا، فأتى بقصعة فيها ديكٌ مطبوخ تحته ثريد قليل فتأمل الديك فرآه بغير الرأس ¸ فقال لغلامه وأين الرأس؟ قال: رميتُه . فقال والله أني لأكره من يرمي برجله فكيف برأسه؟ ويحك أما علمت أن الرأس رئيس الأعضاء ومنه يصيح الديك وعينه التي يضرب بها المثل فيقال شراب كعين الديك ودماغه عجيب لوجع الكلية ولم نر عظما أهش تحت الأسنان من عظم رأسه؟  وهبك ظننت أني لا آكله ¸أما قلت عنده من يأكله؟ انظر في أيّ مكانً رميته فأتني به.

وقال رجلٌ من أتباعي لأولاده: اشتروا لي لحما. فاشتروه له فأمر بطبخه فلما استوى  أكله جميعه حتى لم يبق في يده إلا عظمة وعيون أولاده ترمقه فقال:  ما أعطي أحدا منكم هذه العظمة حتى يحسن وصفَ أكلِها. فقال ولدُه الأكبر: أمصُّها يا أبتِ حتى لا أدع للذر (النمل) فيها مقيلا. قال: لستَ بصاحبها.

فقال الأوسط: ألوكها يا أبتِ وألحسها حتى لا يدري أحدٌ لعامٍ هي أم عامين. قال الأبُ: لستَ بصاحبها.

فقال الأصغرُ: يا أبتِ، أمصُّها ثم أدقُّها وأسفها سفا. قال: أنت صاحبها وهي لك، زادك الله معرفة وعلما.

وقيل وقف إعرابي على أبي الأسود وهو يتغدى فسلم فرد عليه ثم اقبل على الأكل ولم يعزم عليه. فقال الإعرابي أما أني مررت بأهلك، قال كذلك كان طريقك. قال وامرأتك حبلى قال كذلك عهدي بها . قال قد ولدت  قال لابد لها أن تلد. قال ولدت غلامين  قال كذلك كانت اُمُّها، قال مات احدهما قال ما كانت تقوى على إرضاع اثنين قال ثم مات الآخر قال ما كان ليبقى بعد موت أخيه. قال ماتت الأُم  قال حزنا على ولديها. قال ما أطيب طعامك، قال لأجل ذلك أكلتُه وحدي ووالله لا ذقته يا أعرابي.

وقيل أعرابيٌ ولاّه الحجاجُ بعض النواحي فأقام بها مدة طويلة فورد عليه احدهم من حيه القديم فقدّم إليه الطعام وكان إذّاك جائعا فسأله عن أهله وقال:

ما حال ابني عُمير؟  قال على ما تحب قد ملأ الأرض والحي رجالا ونساء. قال فما فعلت أُم عُمير؟ قال صالحة أيضا. قال فما حال الدار؟ قال عامرة بأهلها. قال وكلبنا إيقاع؟ قال قد ملأ الحي نبحاً. قال فما حال جملي زريق؟ قال على ما يسرك . فالتفت إلى خادمه وقال ارفع الطعام فرفعه ولم يشبع الرجل. ثم اقبل عليه يسأله وقال يا مبارك الناصية اعد علي ما ذكرت. قال سل عما بدا لك . قال فما حال كلبي إيقاع؟ قال مات. قال وما الذي أماته؟ قال اختنق بعظمة من عظام جملك زريق فمات. قال أوَ مات جملي زريق؟ قال نعم. قال وما الذي أماته؟ قال كثرة نقل الماء إلى قبر أُم عمير. قال أو ماتت أُم عمير؟ قال نعم . قال وما الذي أماتها؟ قال كثرة بكائها على عمير. قال أو مات عمير؟ قال نعم . قال وما الذي أماته؟ قال سقطت عليه الدارُ. قال أوَ سقطت عليه الدار؟  قال نعم. فقام عليه بالعصا ضاربا حتى ولى الرجل هاربا .

قلت يا بخل هلا أسمعتني قليلا مما قيل من شعر في أصحابك؟

قال: قال أبو نؤاس:

رغيف ُسعيدٍ عنده عِدل نفسه

يقبله طورا وطورا يلاعبه

ويخرجه من كمه فيشمه

ويجلسه في حجره ويخاطبه

وان جاءه المسكين يطلب فضله

فقد ثكلته أُمُّه و أقاربُه

يكر عليه السوط في كل جانب

وتٌكسرُ رجلاه ويُنتَف شاربه

وقال احدهم:

إذا جئته في حاجةٍ سدّ بابه

 فلم تلقَه إلاّ و أنت كمينُ

 

وقال الآخر:

يا قائما في داره قاعدا

من غير معنى ولا فائده

قد مات أضيافُك من جوعهم

فاقرأ عليهم سورة المائدة

وأنشد بعضُهم:

وهبني جمعت المالَ ثم خزنتُه

وحانت وفاتي هل أزاد به عمرا ؟

إذا خزن المالَ البخيلُ فإنه

سيُورثه غما ويعصُبُه وزرا

 

-------------------- 

(*) الكثير مما ورد  مقتبس من كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف للأبشيهي).

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1438 الجمعة 25/06/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم