صحيفة المثقف

نوافذ على قصائد الشاعرة الرصينة د. ناهدة التميمي / سردار محمد سعيد

في سيطرة الذكورة المتعسفة تتجلى شتى معالم القسر والإضطهاد، وأقساها وأمرها كبت وسجن المشاعر الروحية للمرأة على الرغم من أن أصحاب هذا الفكر يتعاطون الروحانيات والغيبيات لا بل يتخذونها منهجا، في حين يراد من المرأة أن تكون أنثى حقيقية تمارس أنوثتها بحرارة.

 طغى وتمادى الفكر الذكوري، و أصدر فتاواه في تحريم بث المشاعر نثرا أو شعرا أو بأي شكل أدبي، ولا أجد في ذلك غرابة، فالفكر الذي يدعي عورة صوت المرأة لا يتحرج أن يكون هكذا،والفكر الذي يفرض على الذكر والأنثى منهج إلجام ما يسميهم بالعوام عن علم الكلام لا يتحرج من ذلك، ولا شك أن اندحار هذا المنهج واقع لا محالة.

ظهرت جرأة المرأة الأنثى في مجتمعنا وبقوة تفصح عن مشاعرها الإنسانية ورفع لواءها كاتبات وقاصات وشواعر، فإزددن منزلة ومكانة على عكس ما كان الفكر الذكوري يلمح إلى أن هذا يقلل من شأنهن أو يجعل الآخرين ينظرون لهن بمنظار التهتك والشرف المطعون، فماذا تقول اليوم أيها الفكر الذكوري وأنت ترى العكس ؟ فقد بتن أحلى وأجمل وأقوى،أم تراك قد خفت هذا؟ وخشيت أن يزحنك عن الكراسي التي شغلتها وحدك دهورا بلا حق أنزلته على نفسك وصيرته حقا سماويا وما هو هكذا بتاتا.

دعوني أنقل لكم هذا المقطع من تجليات الفكر الذكوري على سبيل المثال لا الحصر والذي أباح لنفسه ما لايـباح تحت ذرائع واهية وحججا بليدة :

لكي يتمكن الذكر من إداء وظائفة الدينية الشرعية و تحصيل العلوم (التي هي سبب السعادة الدينية وتشييد المباني الشرعية) فلا بد أن يتجه إلى روحه ويعمل على (إسعافها بالمفاكهات الأنيقة و الأخبار اللطيفة الرشيقة لتنشط من عقال التعب) وهذا طبعا للذكر ومحرم على الأنثى فيحق له الكلام عن (أغصان القدود ورمان النهود........ ورياض الوجوه ونرجس اللحاظ وورد الخدود..... وقلائد النحور) راجع تزيين الأسواق في أخبار العشاق للأنطاكي، أعتقد ان الكاتب هنا يتحدث عن النساء أم هناك شك ؟.

للحديث عن نتاج الدكتورة ناهدة التميمي نحتاج إلى وقفة طويلة وسأحاول بسط ما أراه مهما.

بقراءة متأنية لشعرها نلاحظ تميز قصائدها بوحدة الموضوع، ولا يشتط بها الخيال ولا يسرح بها بعيدا عن الفكرة التي تريد تجسيدها، وتتميز بجرأتها في الإعلان عن مشاعر الأنثى وصدقها وحرارتها بأسلوب مهذب رشيق.

 

 آثرت ان يتمحور حديثي من خلال قصيدة (كلماتي التي فاضت بحبك) ومنها أتشعب نحو ما يتحلى به شعرها وأقتطف منها:

 

كلماتي التي فاضت بحبك

اعتبرها لا تخصك

حتى لا يجرحني ردك

إن كان ذاك يريح قلبك

لا أحبك

لا تبالغ في الغرور

وبانك أنت الجسور

تستطيع كتم وجدك

ما أشدك

عدها محض خيال

عشت فيها في وصال

في قصور من زمرد

 

 

إن كان هذا حد حبك

كن لوحدك

عالمي سحر ونور

ورياض وطيور

كم بنيت من قصور

في رحابه كي تظلك

ويح قلبي ليس فيه مايشدك

دنيتي دنيا جلال

فيها زهو ودلال

كم بنيت في الرمال

من جنان كي تسرك

دنيا فيها غير صدك

كنت فيها أنت وحدك

كل هذا لا يهزك

يا لقلبك.

فحوى القصيدة صرخة أنثوية بوجه الذكورة بلغة مهذبة وفكر مهذب ولا تخلو من عتاب فالمرأة هنا أعطت للرجل الكثير، الوصال والسحر والنور والرياض والطيور والجلال والزهووكل هذا له وحده، ثم تطلب منه أن ينسى حلو عباراتها التي كانت تسّره بها لأنه تصور نفسه الفارس البطل والفاتك اللهج، و بقوة وجرأة تطلب أن ينسى، بل تقول له: لا أحبك، وتصفه بالشدة وقساوة القلب إذ لا شيء يهزه، كل هذا بكيان موضوعي واحد متهيكل تحت صرح الوجدان الإنساني،فكيف خاطبت بطلها ؟:

لا تبالغ في الغرور

وبأنك أنت الجسور

تستطيع كتم وجدك

ما أشدك.

لم يفت الشعراء مخاطبة المغرور، مثل:

أيها الشامت المعير بالدهر ءأنت المبرأ الموفور

أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهل مغرور

أو القول:

من ظن أن الدهر لن يصيبه بالحادثات فإنه مغرور.

الغرورالذي تحدثت عنه، هو غرور الذكورة، لذا يكتم وجده ولا يريد الإفصاح عنه بسبب من عنجهيته الذكورية إذ يتصور نفسه الجسور لأنه

 فاز بها، وربما أنهكه التعب حتى فاز بها وربما ثمة من راقبه ومات غما كما في القول:

من راقب الناس مات غما وفاز باللذة الجسور.

لكن العشاق لم يكتموا وجدهم يوما، فكان يفضحهم، فقال أحدهم:

أكتم وجدي والدمع يظهره بواكف كالجمان منسجم

أو كالقول:

قد كنت أكتم وجدي بعد بينكم فاليوم ياحادي الأضعان قد علنا

أو القول:

أكتم وجدي فما ينكتم بمن لو شكوت منه رحم.

ويبدو أنه عنيد فضلا عن غروره، ففي قصيدة أخرى تفصح عن هذا :

غير انك لاتريد

أن تصرح بالمزيد

قد عرفتك كم عنيد.

 

بالنسبة لوصفها له بقولها: ما أشدك ؟ أستذكر قول الشاعر:

قل للحبيب أطلت صدك

يا قلب من لانت معاطفه علينا ما أشدك. والشديد وصف قرآني ولي عودة له.

وأ ُنشد لإمرأة:

ثلاثون يوما كل يوم وليلة أموت وأحيا إن ذا لشديد

( راجع بلاغات النساء لإبن طيفور).

إن د. ناهدة لا تكتم وجدها، ولـِم َ تكتمه ؟ فهو الوجد العفيف و الطاهر الشريف، فتفصح عن ذلك بقوة في قصائدها عامة، ففي قصيدة

يا قمرا أطل من بعيد تقول:

إشتقت لك، اشتاقت لك روحي.

بمعنى أنها اشتاقت له جسدا وروحا، ولا شك أنه الزوج، رفيق العمر، وهذا هو الشوق الحلال الذي يجعل الذكورة خجلى من هذه الأنوثة الطافحة، بل تزيد فتقول:

يا أيها الحب الذي لا غيره وعليه أوصدت ابواب جنتي.

وتؤكده في موضع آخر:

غير أني رغم غدرك

أنت أحلى أمنياتي

كنت وما زلت وتبقى

أحلى شيء في حياتي.

هل من صدع أنثوي أقوى من هذا ؟

قال قائل:

لقد كنتم لنا جذلا وأنسا فما بالعيش بعدكم انتفاع

هنا رفض للحياة غب البعاد لكن ناهدة ترفض الرفض بدليل قولها:

 (كنت وما زلت وتبقى)، وتبقى تعلن وتتسائل:

أين الحب والشوق العتيا ؟

أين الغرام وذاك الوجد ؟

وقلبك الحاني اليا.

وقولها:

أهديتك وردا

بلون العجب

حمراء بلون عشقي.

وقولها:

يا ناسي الود

يا قاسي القلب

يا ناكث العهد

سأظل أحبك

إن أجبتني أم لم تجب.

والعبارة الأخيرة تذكر بـ:

فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل فلست أرى قلبي بغيرك يصلح.

في قصيدة خلت اني من غير حبك:

لا أكون

من دون لهوك

من دون شعرك

من دون نثرك

لن أكون.

إن د. ناهدة بسبب من بيئتها وأكاديميتها متاثرة بالبلاغة والوصف القرآني،

دليل ذلك كما ورد في القصيدة - محور الحديث - قولها:

لا أحبك.

وهو بمعنى أحبك.

ففي قوله تعالى:

(لا أقسم بيوم القيامة) القيامة 1

أجمع الفقهاء أن المعنى: أقسم

واستشهدوا بقول الشاعر:

تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع.

بمعنى: يتقطع.

كذلك جاءت في الآيه 1 من سورة البلد:

(لا أقسم بهذا البلد)، بالمعنى نفسه: أقسم.

أما الشدة تقال للبطش وتقال للحب ويبدو ان هناك من يجمع الإثنين.

قال تعال في البروج آية 12:

(إن بطش ربك لشديد).

وفي العاديات 8:

(وإنه لحب الخير لشديد).

في قصيد ة: إسأل ولو كذبا عليا، مطلعها:

وقل مابها غابت عليا.

بدأت بلفظة: وقلْ.

جاءت هذه اللفظة في واحد وعشرين موضعا في القرآن الكريم: آل عمران 20، النساء 63، التوبة 105، هود 121، الحجر 89، الإسراء 23، 24، 53، 80، 81، 111، الكهف 24، 29، طه 114، المؤمنون 29، 97، 118، النور 31، النمل 93، الشورى 15، الزخرف 89.

في قصيدة : إلى متى هذا العذاب ؟ تقول:

إلى متى الخوف المقمع بالحديد.

في سورة الحج الآية 21، قال تعالى:

(ولهم مقامع ُ من حديد).

 في قصيدة عنترة يحاور عز العرب:

جلس عنترة العربان يحاور قسورة

و

كأنكم حمر مستنفرة

يتبعها قسورة.

وهذا من قوله تعالى:

(كأنهم حـُمـُرٌ مستنفرة، فرت من قسورة). المدثر آية 50 و 51.

وكما ترى فقد أحسنت حين جعلتها في مقطعين.

في موضع آخر تقول:

وغرامك أضحى نسيا.

من قوله تعالى:

( وما كان ربك نسيّا) مريم 64.

 

وفي قصيدة: وتريدني أن أستجيب تستلهم الجرس القرآني:

وتريدني أن أستجيب

وزعمت في عقلك رقيب

على باب أهوائك حسيب

وأراك يا غريب

كل يوم لك حبيب

وقالت:

انتظرت طل فجرك

لأقم فيه صلاتي

الصحيح: لأقيم وليس لأقم،و معنى إقامة الصلاة هو إدامتها. كقوله تعالى

الذين يقيمون الصلاة.

المبالغة لها وجودها في شعر ناهدة:

كقولها

عشت فيها في وصال

في قصور من زمرد

لاحظ كثرة حروف الجر ثلاث مرات (في) ومرة واحدة (من) أي أربع مرات مقابل أربع كلمات - عاش - وصال - قصور- زمرد - في بيت واحد.

المبالغة هنا بوصف القصور بالزمردية، فالزمرد معدن ثمين نادرلا تبتنى به القصور، بل توشى به الصولجانات والبسط. (راجع المستطرف في كل فن مستظرف للإبشيهي).

ووصفت به جذوع أشجار الجنة. راجع (صفة الجنة لإبن أبي الدنيا).

كذلك وصف به أحد الحصون التي يحاط بها المؤمن. راجع (حياة الحيوان الكبرى للدميري).

ومن هذا يظهر أن وصف د. ناهدة القصور بالزمردية وصف لطيف وغريب أرادت به تبيان عظمة وصالها.

وفي المبالغة والأيغال بها والإفراط والغلو حديث طويل، فمن الفقهاء من أستحبه ومنهم من لم يستحببه ومنهم من استحبه في موضعه (راجع العمدة في محاسن الشعر وآدابه لإبن رشيق القيرواني، خزانة الأدب وغاية الأرب لإبن حجة الحموي، تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر لإبن أبي الإصبع).

 

 

في شعر ناهدة تكرار ألفاظ بعينها في قصائدها وهو ليس بعيب، إنما وجوده يعلن عن نفسه للقاريء الدقيق، منها لفظة الدفء:

تقول:

واشتهيت دفء حبك

في الأماسي الباردات

قال تعالى في النحل آية 5

(ولكم فيها دفء ومنافع)

والدفء نقيض البرد، والحديث هنا عن الأنعام، الدفء: على وفق التفاسير هو اللباس أو الثياب أو اللحف لدرء البرد و تستثمره فتصف الحب بالدفء، وأحسنت إذ أوردت النقيض، وهو البرد، وقد نتبين هنا ماالذي دفع المفسر إلى تفسير الدفء باللباس، ألأن مصدره الأنعام، أم لوصفه تعالى حالة الزوجين ؟ كما في قوله:

(هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)

وتفسيره هن سكن لكم وأنتم سكن لهن وأيضا هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن على قول الربيع بن أنس.

في قصيدة أخرى تقول:

ووجهها دافيء المحيا.

وفي أخرى:

فصدرك الدافي لم يعد كوكبي.

وفي أخرى:

قد تعبث الدنيا بنا فتجافي قلبا دافيء التدفيقا.

 يقال: دفق الماء دفقا ودفوقا واندفق وتدفق واستدفق وورد في القرآن الكريم (من ماء دافق) واللفظة هنا نصيبها الجر لا النصب.

ومن تكرارات الألفاظ: النجوم والثريا والكواكب، ويبدو ان السيدة ناهدة متطلعة نحو السماء، وقد يسأل سائل ما علاقة الدفء بالسماء ؟ أقول: ان كل الطاقة والحرارة والدفء على ظهر البسيطة مصدره الشموس، والنجوم هي شموس، والكواكب ليست شموسا إنما تعكس ضوء الشموس.

تقول:

أوصدت أبواب جنتي

ياقمرا أطل من جديد

ياكوكبا خمريا بهيا

ونجما مهيبا

ولعينك الحيرى تسافر نجمتي.

وتقول في أخرى:

بل قمري وسنا الثريا.

وفي أخرى:

كالنجم في الظلمات.

وفي أخرى:

ومضت بعينيها كومضة كوكب.

وفيها:

وغصت سمائي بالنجوم.

الوميض: هو اللمع الخفي فيقال: أومض البرق إيماضا إذا لمع لمعا خفيا ، وأومض بعينه إذا غمز بها. (راجع الأمالي للقالي)، والحقيقة العلمية تؤكد أن الكوكب يومض أيماضا، فإذا كانت تقصد هذا فقد أفلحت.

في (الهوامل والشوامل للتوحيدي): المعاني والأحوال التي تتصور للنفس كثيرة وانها بلا نهاية فاما الحروف الدالة بالتواطؤ والمركبات منها فمتناهية محصورة محصاة بالعدد . و (من الالفاظ ماتوجد متباينة وهي التي تختلف باختلاف المعنى،ومنها ماتوجد متفقة وهي التي تتفق فيها ألفاظ واحدة بعينها ومعانيها مختلفة، ومنها ما توجد مترادفة وهي التي تختلف ألفاظها ومعانيها واحدة).

 لعلي أسرفت في بعض المواضع فقسوت على السيدة المبجلة ناهدة، لكنها تبقى شاعرة رصينة، ويكفيها فخرا انها لم (تستعمل لفظا مستكرها ولا مستنكرا)، فلغتها كما قلت مهذبة، وأفكارها مؤدبة، وإن - تمامية الإنسان وفضيلته - بتسامي النفس على الجسد، وكلاهما موجود،إنما من يتغلب على من هو الذي يعنى به - الأكثر إنسانية -، هو من تسامت روحه على جسده، وهكذا السيدة الشاعرة ناهدة.

......................

 للاطلاع

وتريدني ان استجيب ..!!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1452 الجمعة 09/07/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم