صحيفة المثقف

الوان أخرى "رواية أورهان باموك الجديدة" .. / أحمد فاضل

هذه الاشارات الحسية موجودة اصلا في معظم اعماله فهو يبدو مشدودا بقوة الى ماضيه وأرضه، فهناك تفجر نبع تخيلاته واختلط جريانه بواقعه، ومع انه حاز على جائزة نوبل وهي وحدها كفيلة ان ترفع صاحبها الى قمة المجد، وتمنح اعماله جواز سفر للعالمية، إلا انه لم ينتظر ان تخفت جذوة انتصاره ذاك ففاجأنا برواية جديدة تبدأ احداثها من نقطة طفولته ومع انها تختلف إختلافا جذريا عما قدمه في " القلعة البيضاء " أو " اسمي احمر " أو " اسطنيول " أو " ثلج "، إلا انها تعزز مسيرته التي بدأها مع تلك الروايات التي تحدثت عن المكان والزمان دون ان يتناول فيها مسيرته الحياتية بصورة تفصيلية كما تناولها في " الوان اخرى " حيث سوّق الى قارئه جزءا آخرا من عالمه الخاص، ذاتا، وزمانا، ومكانا .(1)

ومع انها ليست آخر رواياته فقد صدرت مؤخرا بطبعة إنكليزية جديدة احتلت لها مكانا متقدما وسط رواياته السابقة، وهي الأقرب الى قلبه كما صرح بذلك نظرا لما احتوته من اوراق خاصة كان يحرص على ان لا تظهر بسهولة .

احداث الرواية تبدأ من نقطة ولادته في اسطنبول عام 1952 ونشأته البرجوازية مرورا بالتحاقه في المدرسة الثانوية ثم كلية روبرت حيث مسقط رأسه، هذا الشريط الحياتي صوّره باموك على شكل سيرة موثقة حفلت حتى بالمنغصات التي اعترضته اثناء مكوثه في نيويورك .

في مقطع الرواية الأول يحدثنا باموك كيف ابصر الحياة ليتبين بعدها الوانها: (بعد ولادتي باسبوع أخذت الى هاييلياذا وهناك قضيت صيف 1952، كانت جدتي تملك بيتا كبيرا مؤلف من طابقين وسط الغابة وبالقرب من البحر، بعد عام التقطت لي صورة فوتغرافية وأنا أخطو أولى خطواتي في شرفة هذا المنزل التي كانت فسيحة للغاية، وفي عام 2002 إستأجرت منزلا في نفس المكان الذي أخذت اليه وعشت فيه وأنا طفل، قضيت العديد من الاصياف الخمسين التي مرت منذ ذلك الوقت وحتى الآن اكتب روايات عديدة أعود فيها الى تلك السنوات ويختلط فيها الواقع بالخيال) .

يمضي باموك في سرد تلك الاحداث ففي المقطع الثاني يكتب كلاما عن مكانه الخاص وأمكنة بطله " غالب " في اسطنبول: (وبينما جلست في ذلك المكان البعيد، أعمل على هذا الكتاب الذي لايريد ان ينتهي، بدأ خوف غريب يشوب فرحتي بالكتابة ووحدتي، خوف يشبه ذلك الذي يعانيه " غالب " فبينما يبحث هو بإخفاق عن زوجته في كل مكان من اسطنبول، يصادف كل انواع المفاجآت ولكنه لا يستطيع ان يشعر بمتعة حقيقية في آنفاق حقيقية تحت الأرض، كل صور " تيركان شوراي " تبدو متشابهة أو كل المقالات التي يتمعن فيها،عظيم هو حزنه على خسارته، وبالمثل بينما استمرت الكتابة واصبح الكتاب اكبر، اصبحت متعة كتابته أعمق، لكني لم اكن قادرا على الإستمتاع بتلك الحقيقة بسبب الهدف الذي اصبح هاجسا يراودني، كنت وحيدا بشكل محزن مثل " غالب " تماما، كنت أهمل حلاقة ذقني اليومية ولا أهتم بملابسي، وأتجول كشبح في الشوارع الخلفية لإرنكوي) .

في مقطع ثالث من " ألوان أخرى " تأخذ القراءة والكتابة حيزا كبيرا من حياته دون أن ينسى المكان، أو بالأحرى بلده تركيا، يقول : ( ولأنني اعيش في بلد محروم تقريبا من الكتب والمكتبات، فأنا على الأقل استثناء، ان الكتب التي تبلغ اثني عشر الف في مكتبتي هي ما يجبرني على أخذ عملي بجدية)، في هذه المقاطع وغيرها لاتدع مجالا للشك بأن أورهان باموك لم يستطع بعد الانتصار على ذاته أو تجاوز مرحلة من حياته الابداعية، لم يتحرر الرجل بعد من سحر اسطنبول وسيطرة شوارعها وسحر ليلها ونهارها وهوائها وتربتها . (2)

المقاطع الأخيرة من الرواية تعزز بوضوح وقوف باموك في مربعه الروائي الأول، إذ نجده يكتب اجزاءا من سيرته الذاتية، كما اشار اليها في مقدمتها التي ضمنها صورا من حياته الخاصة لم يكشف عنها في رواياته السابقة مؤكدا على تخلصه من جزئيات كثيرة واختصار جزئيات اخرى، كما اشار الى أنه استعار بمقتطفات من المقالات والمذكرات، ومنها الاحاديث الثلاثة التي نشرت ككتاب منفصل بالتركية تحت عنوان "حقيبة أبي " .

في كل ما كتبه باموك من روايات كان يُطرح عليه سؤال : لمن تكتب؟ جوابه كان قد تأسس منذ ثلاثين عاما وهي الفترة التي استغرقته ولا تزال الكتابة مع أنه كان يطمح بأن يمتهن الرسم كما أوضح ذلك في كتابه " اسطنبول "، كان في هذه المرحلة يرغب ان يخرج للشوارع ويرسم فضاء المدينة، لكنه في سن الثانية والعشرين قرر ان يكتب رواية وهكذا هو الآن يكتب ويكتب حتى يتوضح الجواب على ذلك السؤال الكبير، الوان أخرى جزء من ذلك الجواب .

 

أحمد فاضل

 

...................

هوامش /

(1) رشيد يلوح / كاتب / الدوحة

(2) المصدر نفسه

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1468 الاحد 25/07/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم