صحيفة المثقف

مدن الضوء (قصة من الخيال العلمي)

الأول أني وجدت بعض القراء يعدونها من أفضل القصص التي اطلعوا عليها في المجلة، والسبب الآخر هو أني اطلعت قبل مدة على رأي في جريدة الصباح العراقية الرسمية ينفي صاحبه أن لدى العرب والعراق كتابا في حقل القصص العلمي.. عجيب أمر هؤلاء فقبل سقوط النظام السابق كانوا معذورين لأنهم عُزِلوا و حُرِموا من التواصل مع الخارج فلم يطـّلعوا ولم يتثقفوا لكن ماهو العذر بعد السقوط؟ ويبدو أن الغبي يبقى غبيا سواء من قبل ومن بعد ولله في خلقه شؤون!"

 كل ماعليه أن يترك الملف الكبير أمامه ويخلد للراحة بضعة أيام في منزله الريفي.

بهذه الطريقة فكّر البروفيسور " ك "، والحق إن ملف الحالات الغريبة التي ظهرت مؤخراً كان يستحوذ على جلّ تفكيره، هذا الملف الذي يمكن أن يظل مفتوحا لاستقبال حالات أخرى غريبة. لم يشاهد تلك العوارض بعينيه في الوقت نفسه أثبتت الفحوصات المخبرية الدقيقة أن هؤلاء المرضى سليمو البنية أصحاء الأجساد ، واستبعد أن يكونوا مرضى وهم فما من مرض وَهْم ٍ مزعوم يداهم عشرات المتعبين والمحبطين بالدرجة ذاتها فيتفقوا على أن يقدموا وصفا واحدا له على الرغم من أنهم لم يلتقوا من قبل أو يعرف أحدهم الآخر. رجفة كما يدعي الجميع شعور بالعدوانية هياج وصراخ ثم هدوء وسكينة تامين.

  لقد انتبه البروفيسور " ك " إلى أن جميع مرضاه من سكان القرى، ومن المفترض أن تظهر الحالة - إن صح ادعاء مرضاه – في المدينة المزدحمة حيث الصخب والضجيج ، إذ لم تسجل حالة واحدة لمريض من المدينة إلى الآن. لايريد أن يستبق الأحداث فيتهم مرضاه بالقلق ومرض الوهم فيحيلهم إلى زميله وتلميذه الطبيب النفساني الدكتور " ن " الذي اشترك معه في كثير من التجارب العلمية لذلك فكر بالخلود إلى الراحة قبل أن يخطو مثل هذه الخطوة  الجريئة. إن اقناع مريض واحد من قبل جراح مشهور كالدكتور  " ك " باللجوء إلى طبيب نفساني يتطلب روية وجهدا كبيرا، فغالبية المرضى يفضلون أن يكونوا مصابين بمرض عضوي على أن يتهمهم الطبيب بالهلوسة كيف إذاً  وهو يقف أمام أكثر من مريض كلهم يعانون من مرض واحد والملف لما يغلق بعد بانتظار حالات أخرى.

  لذلك كله صمم  أن يترك الملف جانبا ويأوي إلى منزله الريفي ليستعيد بعض نشاطه لعله يجد حلا لهذا اللغز المستعصي الغريب!

  كان بيته الريفيّ أشبه بالمنتجع المنعزل ،منزل ورثه عن أبويه  وكثيرا ما آوى إليه في حالات التعب أو حين تواجهه مشكلة ما لينعم بالهدوء والراحة فيستعيد ذكريات طفولته وصباه ويتذكر كل ماضيه ... غرفته التي يرقد فيها الآن... النافذة ... ليالي الصيف الساحرة ... والدته وهي تغطيه ليالي الخريف وتغلق النافذة بإحكام  ثم تسدل الستارة السميكة لكي لايصاب بالبرد أو تخيفه العواصف والرعد كما تقول أو وهي تزيح في بعض ليالي الصيف الصافية  الستارة ليداعب ضوء النجوم والقمر  عينيه.كان المنزل  يبعد عن مركز القرية مسافة بضعة كيلومترات حيث يبدو هو وبعض البيوتات عند سفح التلة المشرفة على الحقول الواسعة والغابة القريبة أشبه بالعيون التي تطل منها القرية على الفضاء الخارجي الواسع البعيد إلى درجة أنه كثيرا ماكان يضيق ذرعا بظلام قريتهم الدامس بخاصة ليالي الشتاء الطويلة غير أن انزعاجه لم يتحول قط في يوم ما إلى خوف.

 كان ذهنه مشغولا بذكريات الطفولة التي تلاشت قبل أن يغفو أمام الحالة الجديدة الغريبة التي أبت إلا أن تفرض حضورها  عليه حيثما حل، فيصبح العالم كله في إطارها مصابا بالوهم. من الممكن أن يشكو مريض ما من ألم غير حقيقي في يده وآخر يتصور وجعا في رجله وثالث يتألم من مكان مجهول، أما أن يتفق الجميع على حالة واحدة لا يجد لها اساسا في أي من تحاليله وفحوصاته والأعداد في ازدياد فربما يعني ذلك أن العالم كله بعد سنوات سوف يصاب بالوهم !

  تلك الليلة ذات الجو الخريفي البارد أسدل الستائر الكثيفة، وبدأ  جفناه يسترخيان  للنوم بعد حال من التفكير والتأمل الطويل....

  لكن أمرا ما حدث له بصورة مفاجئة حالما انطبق جفناه واستسلم لنوم عميق هاديء... فجأة شعر بشيء ما يهزه هزات عنيفة .جلده يتنمل ، أنفاسه تضيق تتهدج، وإحساس غريب يدفعه إلى أن يدمر كل مايعثر عليه في طريقه إنسانا كان أم أي شيء آخر في هذه اللحظة الغريبة رآى كل المشاهد  تثيره وتستفزّه وماعليه إلا أن يلجأ للعنف.كانت اشبه بنوبة عصابية تجتاح جسده، أما عيناه فلم تبصرا شيئا وسط الظلمة سوى أنه تعثر بالمنضدة الصغيرة جنب سريره فصب عليها جام غضبه وركلها بقسوة وهو يتلمس  طريقه نحو الباب حيث الزر الكهربائي.

  ثم في أقل من لحظة إذ غمره الضوء المنبثق من المصباح عاد إلى هدوئه السابق.تنفس الصعداء كأن شيئا لم يكن.إنها الأعراض ذاتها التي يعاني منها مرضاه، فهل أصيب بالعدوى منهم، وأية عدوى ولاأحد منهم مصاب بمرض عضويّ.لعله كابوس. جلس على حافة السرير يتأمل،ووضع احتمالات مختلفة تراوحت بين عامل المصادفة التي جعلته يعاني من أعراض أصابت مرضاه وحلم بغيض أو كابوس، ورجع به تأمله إلى عصر اليوم وهو يزاول المشي في طريق القرية وطعام العشاء لعله يجد علاقة وسببا بين كل ماسبق والكابوس البغيض الذي أيقظه من النوم ولم يتحرر منه إلا حين أنار المصباح، وحين حصر ذهنه فيما قبل لحظات الكابوس وجد أنه حلم من قبل حلما لذيدا . وجد نفسه يسير في الغابة القريبة . أطلت روحه على جو ساحر دافيء،فقادته قدماه إلى الساحل.كانت قريته بعيدة عن البحر، أما الغابة فتحاذيها جبال عالية. ليس هناك من منفذ نحو الماء سوى عبور سلسة الجبال وذلك يتطلب وقتا طويلا، ثم وهو ينظر إلى السماء وجد الشمس تميل إلى الغروب .انساب قرصها القاني رويدا رويدا في الماء أشبه بوجه شاحب ذي ظفائر ذهبية يبتسم له قبل أن يغطس في البحر، في الوقت نفسه شعر بتنمل يجتاح جسده، شيئا فشيئا كدبيب النمل يصعد الخدر من رجليه المغمورتين بالماء !

  كانت تلك اللحظة قبل أن يهجم عليه الكابوس بكل ثقله القاسي.

  لم يمر وقت طويل على الكابوس الأول إذ ايقظه من نوم لذيذ حلم آخر عنيف له وقع الكابوس الأول حيث راودته الأعراض الأولى من تهدج وضيق في النفس وعدوانية حادة تجاه أيّ شيء ، وفي المرة الثالثة أيقن أنها ليست المصادفة وليس ماينتابه من حالة غريبة يمكن أن يطلق عليه كابوسا بغيضا بل هو شبح ما أو مخلوق من عالم الخفاء يقبض على الجسد ويربض على الأنفاس ولايهرب إلا حين يفاجؤه الضوء.

  بعد الكابوس الثاني مباشرة،وهو يقبع داخل النور المعتم حصر ذاكرته لعله يجد أي رابط بينها،تذكر أنه منذ زمن لم يستقل أيّة حافلة، وعند الصباح وهو لمّا يزل في المدينة ذهب ماشيا إلى السوق المركزي الضخم، واجتاز قبل أن يصل الزحمة موقف الحافلات حيث انحل خيط حذائه فانحنى لحظات ليربطه. قبل الكابوس الثاني نعم بحلم لذيذ.كان يستقل حافلة كادت تغص بالركاب. الوقت ظهرا. الحر يلهب الأنفاس.فجأة انتقلت الشمس من الظهيرة إلى الزوال.هرول من الحافلة يحاول اللحاق بها فوجد نفسه عند النهر يبحث في الماء عن صورة الشمس. ظل يبصر وود لو تطاله يده ليغسل وجهه ورجليه فيطرد الدبيب الذي بدأ يسري في جسده من قدميه ثم انتبه إلى مصابيح الشارع وهي تنير حالما انزوت الشمس خلف الجبال، فداهمه الكابوس الثقيل.

لايشك أنه الآن أمام حالة معقدة ربما انتقلت إليه من المرضى زوار عيادته، أو لعل العالم بدأ يعود إلى زمن الأساطير والأشباح والقوى الخفية التي تحدث عنها أجدادنا قبل قرون بعيدة لابدّ أن يسبق الكابوس حلم لذيذ يشعره بالدفء وغروب الشمس يعقبها قدوم الجنيّ أو المارد مكبلا الجسد بثقل مرعب قابضا بيده على العنق واضعا ركبتيه الثقيلتين على الضلوع،فيهرش جسده كمدمنٍ ، فهل تسبق كوابيس مرضاه أحلام لذيذة تتجسد في مشهد منسوخ بطريقة ما لما فعلوه وقت العصر قبل حلول الكابوس؟

  بدا أمام افتراضاته مثل طالب الطب المبتديء الذي تشابكت عليه العقد والأمراض فيلتمس طريقه بياس كي يقع على بصيص يوصله إلى سبب المرض الحقيقيّ.

  بعد أن تأكد من سلامة جسده أدرك أنه أمام حالة غريبة بعيدة عن أن تكون مرضا عضويا. أما مرضاه فلعلهم أيضا عاشوا أحلاما لذيذة قبل اجتياح الكوابيس والأشباح غرفهم. ربما لم يلاحظوا أن هناك أحلاما رائعة تسبق الكوابيس الأشباح، والحق أنه وجد صعوبة في اقناعهم  بالرجوع إلى طبيب نفساني لكنه وجد من اللائق أن يسبقهم ويقر بمرض ٍ يسمى الوهم يعانيه  وهو في حالة نوم، مرض  يربض على صدره ويقبض على أنفاسه فيدفعه إلى  العنف .قبل حلول النور  يجد أن شيئا ما ينقصه هو مخير بين نوبة صرع تشبه الصرع أو مرض الرقص  وإدمان على شيء ما وما دام يعرف نفسه جيدا فلا يجد حرجا في الاتصال بتلميذه السابق وزميله في بعض الأبحاث الدكتور " ن " عالم النفس الشهير.

  قد يكون في بعض المواد التي نتاولها مخدر ما لكن لم تظهر النتائج في أثناء النوم؟

  وقد يكون مرض وراثي مخفيّ بدأ يتحرك الآن!

  كل افتراض  يحتمل الخطأ والصواب مادمنا لم نصل إلى حل بعد!

  أما رأي عالم النفس الشهير  الدكتور " ن " وهو تلميذ البروفيسور " ك " وزميله في المستشفى حيث يعمل فقد ذهب  إلى أنها حالة نفسية عابرة ربما يكون مصدرها عقل باطن يؤطره حلم عميق يتعلق بالطفولة وذكريات بعيدة يختزلها هذا المنزل الريفي القديم، ومع أن رأي الدكتور " ن " بدا مقنعا لأيّ مريض آخر إلا أن البروفيسور رسم حوله أكثر من علامة استفهام. لم يعاني من أعراض مرضاه ؟. المرضى كانوا من مختلف الأعمار.هل هي حالة صرع ؟ كيف ظهرت الآن خلال زيارته البيت الريفي؟ لِمَ يختفي الشبح الذي يقبض على صدري حالما أشعل الضوء؟ أسئلة كثيرة وافتراضات يضعها الدكتور " ك " أمام الطبيب النفساني أما الدكتور " ن " الذي لم يراوده الشك بعد طول تأمل في أن أستاذه البروفيسور بدأ يعاني بسسب الكبر والعمل المضني من حالات عصبية قد تؤدي به إلى حالة هستيرية فأخفى علامة امتعاض كادت تلوح على وجهه ليتفق الاثنان على زيارة المنزل الريفي فينعما بالراحة  لبضعة أيام هناك.

  وكان هدف الدكتور " ن " أن يثبت هواجسه التي راحت تحوم في فكره عن استاذه البروفيسور ولم يجد الجرأة الكافية ليواجهه بها.

  في تلك الليلة بقي البروفيسور " ك " يقظا، احتسى بعض القهوة، وغالب النوم، واكتشف للمرة الأولى أن زميله الدكتور " ن " يشخر عاليا في أثناء نومه، لكنه لم يعرض عليه أن يستخدم جهاز قياس الذبذبات إي إي ج، والحق إنّ لديه شكا غير مؤكد من أن شيئا ما سيدث خلال عملية النوم العميق وفترة نشاطات العين خلال حركتها السريعة  أر إي أم...فجأة حدث مثلما توقع ، تهدجت أنفاس النائم وارتعش عدة رعشات تصلب جسده وقفز من نومه محاولا أن ينتقم من كل شيء يعثر فيه. ظلّ  يهرش جسده أشبه بمدمن مُنع فجأة عنه المخدر .دفعته وسط العتمة حالة للانتقام من زميله البروفيسور الذي وقف عند الزر الكهربائي وأخذ يتطلع بوجه زميله المرعب:

هكذا كنت البارحة ويبدو أنني لم ألتفت إلى شكوكي.

  خلال أقل من لحظات بعد انطلاق النور عاد " ن " إلى وضعه الطبيعي، وهو يتساءل:

ماذا حدث لي؟

بالضبط ماحدث لي عدة مرات " ثم انبرى متسائلا":

تذكر هل كنت تحلم حلما جميلا قبل مداهمة الكابوس؟

  لم يكن زميله البروفيسور يعاني وفق توقعاته الأولى من تعب نفساني أو خرف الشيخوخة إذ كاد ينسى ذلك الحلم اللذيذ الذي غمره مثل نسيم منعش وهو في نومه العميق.رأى أنه يهرول باتجاه قرص ما شيء مدوّر.كرة قدم ..الكرة الطائرة..، وعصر ذلك اليوم قبل أن يلتحق بالبروفيسور شدته باهتمام مباراة لكرة التنس نقلت مباشرة عبر القناة الفضائية. بدت الكرة كبيرة وهو يتبعها وحين اقترب منها أدرك أنها الشمس التي راحت تنحسر نحو المغيب. واصل الركض باتجاهها متسلقا تلا ما ثم هابطا منحدر سهل. على يقين من أنه يقدر أن يلحق بها وهي تنط أمامه تصغر ككرة التنس والمنضدة وتكبر فيصير لها جسد غزالة . وجهها فقط قرص أحمر ، أخيرا خانته رجلاه .. اختفت الشمس الغزالة، وعمّ ظلام اقتحمه نور خافت . مصابح تومض وتنطفي بلمح البصر. الثواني تعجز عن اللحاق بها، ودبيب كخربشة النمل يستولي على رجليه ويصعد نحو جسده فيستقر فوق عنقه وصدره.  وكأن البروفيسور الجراح المختص في جراحة الأنسجة قرأ – من خلال تجربة سابقة -  أفكار صديقه فاقترح عليه أن يبقى في الغرفة ويعود إلى النوم، أما هو فقد خرج  كي يرقد في الغرفة المجاورة، وهو مصمم على ألا ينام في عتمة تامة أشعل شمعة واسترخى على الفراش . كان فكره يستعرض الحيوانات التي أخضعها لتجاربه السابقة، الفئران قصيرة العمر تحمي نفسها بالأنفاق والقطط ذات عمر أقل من الإنسان... الأرانب الحشرات، الخيول تنعم بظلام كاف وهي تأوي إلى اسطبلاتها،  أما نحن البشر فالقضية في هذه التجربة تتعلق بأجيال كاملة وبعمر الإنسان نفسه .تعاملنا مع النور يمكن أن تكشفه أحلامنا وأدواتنا الدقيقة وحين يعود إلى المشفى سوف يواصل تجاربه على النائمين في عتمة شديدة ليقع على عين اليقين.كانت صور الضوء تلوح أمامه باشكالها المختلفة. لاتنظر مباشرة إلى الشمس في حال كسوف إذ يمكن أن نصاب بالعمى، صانع اللحام يضع قناعا على عينيه ليتقي الضوء الساطع القريب، يعشينا الضوء البعيد البعيد من الشمس الشاحبة عند الكسوف ونور اللحام القريب، وننشرح لضوء القمر حتى إن كثيرا من النساء الحوامل يستلقين في الليالي الصافية  تحت نوره ليلدن أطفالا أصحاء من ذوي الجمال، وكان القمر نفسه سميره في ليالي الصيف، ومامر به من أحداث يمكن أن يكون أدلة تصله إلى استنتاج ناجع مثل ضابط الشرطة الذي يجمع اصغر الأدلة ليهتدي بها إلى خيط الجريمة مع فرق شاسع بين دليل يوصل إلى شبح وآخر يتتبع كابوسا أو روحا شريرة ، تلك الدقائق وهو يرقد في غرفة والديه وعلى فراشهما، ويجمع الأدلة ،أدرك أن الأمر لم يكن مصادفة بل هو أشبه بالمرض إنها الحقيقة التي ربطت بين اكتشاف أديسون ووفاته وبيت والديه  الريفي البعيد عن مركز القرية وليالي الصيف الرائعة التي كانت تسمح فيها والدته للقمر والنجوم أن تداعب جبينه من النافذة ثم هبوط الظلام الكثيف وقت الخريف والشتاء،ذلك الوقت من ثلاثينيات القرن الماضي فتح عينيه في هذه القرية ذات البيوت المتناثرة. لم تكن هناك شوارع تحتشد فيها أعمدة الكهرباء كانت الإنارة تغطي البيوت فقط فيرقد سكانها عند الليل وسط ظلام دامس،وهاهي مدن العالم التي أصبحت منيرة بفضل اكتشاف المصباح تأبى في العام 1931 أن تعيش في ظلام دامس بضع دقائق حدادا على أديسون المكتشف الكبير على النقيض مما تفعله بيوتات قريته إلى الآن، فأية مفارقة عجيبة جعلته يتساوى مع مرضاه بل جعلت الجميع يتساوون في المرض ذاته من دون أن يدركوا ذلك .

  كان ضوء الشمعة الخافت يوحي إليه ببعض الطمأنينة ،وهو ينظر إليها يطمئن وكانت والدته حذرته من أن يبصر إلى الشمس يوم لاح عليها كسوف بعض الوقت . كانت تخاف عليه أن بفقد بصره، وفي حلمه المتواصل يظل يرى الشمس مباشرة من غير نظارات يكاد يلمسها ، ويبدو أن ذكرياته أسلمته إلى نوم عميق قطعه عليه زعيق زميله الدكتور " ن " في الغرفة المجاورة وهو يصرخ إني أكرهك أكرهكم..، فهرول إليه وهو يهتف في أعماقه: لقد وجدتها عثرت عليها. وجدتها بالتأكيد!

  حين ضغط على الزر الكهربائي وغمر الغرفة ضوء المصباح ، وجد زميله الهائج يعود إلى وضعه السابق بعد أن رآه  يقف منه موقف المهاجم وهو يهرش جسده أشبه بمدمن عاودته النوبة، ثم وهو يجلس على حافة السرير - بعد انبثاق الضوء - هادئا ودودا أليفا كأن شلالا من سائل غير مرئيّ مرّ على جسده وتوغل في أعماقه فأعاده إلى طبيعته الأولى، فأعاد البروفيسور سؤاله السابق:

هل سبق الحلم اللذيذ الكابوس المالوف؟

فتمهل برهة وأجاب:

هو ذاته مع بعض التحوير!

في هذه اللحظة تراقصت أمام ذاكرته صورة القرص وانبسطت الأرض بشكل حقل وبقي القرص محافظا على حجمه، وكانت الشمس تنحدر إلى المغيب في حين عم الظلام وانبثقت مصابح أنارت وانطفأت قبل أن يهجم الكابوس، فعقب البروفيسور وهو يبتسم:

الحلم لم يتغيّر تماما لأن الكابوس اقتحمه عليك في الليلة نفسها ولو أنك نمت في الليلة التالية في المكان ذاته ضمن الظروف نفسها لسبق الكابوس حلم يستمد مواده من معايشتك لأحداث عشتها في اليوم ذاته.

 فتمعن في وجه البروفيسور كالمستغرب متسائلا:

غريب أية تسمية تطلقها على هذا الكابوس؟

هز البروفيسور كتفيه قائلا:

سمه كابوس العتمة أو الشبح أو بالتأكيد الضوء!

فرد وهو يبتسم ابتسامة العاجز:

يسعدني أني اشتركت معك في كل التجارب أما هذه فلما أزل عاجزا عن فهمها بالرغم من أني خضعت لها مرتين.

أنا متأكد باليقين القاطع أنها حالة إدمان من نوع آخر.

 لولا أني وقعت تحت هذا التأثير لشككت بل وأقول لك لكي لايظل ضميري يؤنبني إني في البداية ظننته إرهاقا وربما بالغت فظننت خرفا أو بعض الهوس .

- بإمكان أي أحد أن يشك مثلما شككت في مرضاي وفكرت أن أحيلهم إليك وللمرة الأولى أصارحك أن هناك أكثر من مريض زارني في المشفى لكني حين ربطت بين بيتنا الريفي وشوارع المدينة حيث نعمل ومن قبل مدن ولاية نيوجرسي هناك حيث توفي أديسون المدن التي رفضت أن تعيش في ظلام دامس بضع دقائق وما اعترى مرضاي الذين ظننت أنهم مصابون بالعصاب وما اعتراني أنا ومن بعدُ أنت كل تلك الظواهر  أكدت لي الحقيقة المرة.

- هذا يعني أن العالم يعاني الآن من ثقل موجة كهرومغناضوئية قد تودي به إلى الجنون.

- أبدا لا بل لها علاقة بالكهرباء " تأمل لحظة ثم واصل في حين راح زميله يتطلع إليه باهتمام ":

في المدينة ياعزيزي تنتشر المصابيح على الارصفة وفي كل مكان وحين نأوي إلى النوم في شققنا يبقى بعض من ذلك الضوء الصناعي يتسلل الينا عبر النوافذ والستائر ، أما في المنزل فالضوء يرافقنا إلى ساعة متأخرة نذلك يعني أن خلايانا والأنسجة تشحن نفسها من خلال الضوء الخافت فلانشعر بالاضطراب" وواصل وهو يزدرد ريقه " بحساب الأجيال نحن نمثل الجيل الثالث بعد اختراع الإنارة الصناعية، أما الجيل الرابع والخامس....

  هنا بدأت الفكرة تتضح للدكتور " ن " فقاطع أستاذه :

- تقصد أن خلايانا التي اعتادت في ظروف طبيعية  منذ الأزل على نسب محددة من الظلام والضوء بدأت بمرور الزمن تعتاد على العيش في الضوء الصناعي تماما فتغيرت طبيعة الخلايا والانسجة في حالة تشبه الإدمان.

- بالتأكيد وأظنك الآن فهمت لِمَ لم نصب بالهيجان ونحن ننام في المدينة لأن الضوء المتسلل إلينا من النوافذ والستائر كاف لمغنطة أنسجتنا وخلايانا ، ولم يكن بإمكاني أن أجري التجربة على الفئران كونها تعيش على الأرض وتأوي إلى الجحور والأنفاق أما خلايانا نحن فقد خضعت لتراكم ضوئي زادت نسبته عبر قرن من الزمن عن العتمة التي يفترض أن نعايشها، وهي الظواهر ذاتها التي بدأت تعتري مرضى عيادتي القرويين الذين يعانون من العصاب حالما يرقدون في ظلام دامس ولو كنا في مدن الشمال حيث الطول المفرط لليل والنهار خلال فصلي الشتاء والصيف لقلنا إنها الكآبة.

- إذاً هل تسمي اكتشافك الجديد إدمان الضوء؟

 فنفث البروفيسور الهواء عميقا وأكد:

- المشكلة ليست في التسمية فقد تكون التسمية صحيحة إلى حد ما.

   لم يكتف بما حدث في المنزل الريفيّ ، ولكي يزيل الشكوك تماما فقد طبق تجربته على مرضاه في المشفى، في البدء اختار اثنين ، الأول شاب في الثلاثين حلم كل مرة بكابوس يجثم على صدره حتى ظن أنها بوادر لمرض الربو ثم تكرر الحلم ، أما التجربة الأخرى فقد تطوع لها امرأة في الخامسة والخمسين من العمر ، استرخى المريضان في غرفتين منفصلتين وربط راس كل منهما بأسلاك تنتهي عند جهاز رسم الأحلام أي أي ج . ظل البروفيسور طوال الليل يراقب حال المريضين،وحين اجتاز كل منهما مراحل النوم الأولى ودخلا المرحلة الرابعة راحت لوحة الرسم تشير إلى حركة العينين السريعة مر كل شيء بسلام... المريض الشاب لم يقفز من فراشه ... لم يجثم أي ثقل على صدره . لا شبح ولا اختناق، والمريضة العجوز نامت نوما هانئا خاليا من أي كابوس.

  خضع المريضان خلال ثلاث ليال للتجربة في ضوء خافت بصيص من نور يعادل ضوء شمعة وربما أقل ، ولكي يتأكد البروفيسور من صدق حدسه فإنه رش خلال فترة النوم العميق على وجه مريضه الشاب بعض الرذاذ وقرب من مريضته نوطة موسيقية خافته وعندما استفاقا وسألهما عما حلما به أجاب الشاب أنه حلم بالسماء تمطر مرة ومرة السقف يخر ماء  واجابت المريضة أنها رأت نفسها في استعراض عسكري ، اخرى كانت تجلس عند ساقية فتستمتع بخرير المياه.

  كان هناك فكرة واحدة تتبلور في ذهن البروفيسور " ك " فتنصب على الظلام والنور بصفتهما الحاضنة الأولى للكوابيس الثقيلة لذلك وجد أن الكوابيس عادت تجثم على صدور مرضاه بعد أن أعاد التجربة ذاتها عليهم في جو معتم لابصيص للنور فيه كما هو الحال في البيت الريفي فكانت النتائج مثلما توقعها تماما...

كابوس ... اختناق..

عدوانية تجبر النائم على العنف

هستيرية...

  اقتنع تماما أن خلايا جديدة تولدت لنا مع مرور الزمن وامتزجت بخلايانا الاصلية و بفعل اعتيادنا على الضوء فإن تلك الخلايا الجديدة الممتزجة بانسجتنا الأصلية أصبحت مثل بطاريات الشحن مثل الاسماك التي  تعيش في بحيرات داخل الكهوف المظلمة  لاتحتاج إلى العيون أما نحن فلن نستطيع العيش من دون نور قط لأن انسجة الشحن في أجسامنا تضغط على خلايانا الأصلية. كان عليه أن يعيش التجربة التي اجراها على مرضاه ، فطلب من زميله وتلميذه السابق الدكتور " ن " أن يظل يقظا ويراقب لوحة الحلم سواء خلال نومه في العتمة ومهاجمة الكوابيس له أم عند رقاده في النور وهو ينعم بنوم هاديء بعيد عن أي كابوس...

  وفي طريق العودة  عصر اليوم التالي استغرقهما صمت طويل...

  كان كل منهما يشحذ ذهنه لعله يهتدي إلى اكتشاف جديد يعالج به خلل الظلام والنور. راح  الدكتور " ن " يبحث في إمكان الاستفادة من طريقة تتراوح بين مجموعة الحبوب المهدئة والمسكنة بصفتها علاجا مؤقتا يمكن أن يلغى فيما بعد حين نجد العلاج البديل، وكان ذهن البروفيسور " ك " يتراوح بين اليقظة والنوم. كم يبدو غريبا هذا العالم في كيانه المتناقض فنحن إذاً  نحتاج إلى حمامات ضوء نغسل فيها نفوسنا من الكآبة أو نجعل أجسادنا أكثر سمرة ، في الوقت نفسه تتآكل في خلايانا بقع سوداء مظلمة تمنع عنا العصاب !

  معادلة صعبة وعلاجها يبدو أكثر صعوبة في الوقت الحاضر !

  خلال الدقائق التالية أدرك ، وهو خلف المقود ، أننا في حال اليقظة لاندلف في ظلام تام بل لانفكر في ذلك قط وإن حدث وأرغمنا أمر ما على معايشة العتمة التامة لدقائق فإننا نملك الوعي الواضح للتخلص منها  قبل أن تلوح علينا بوادر العصاب، أما عند النوم في ظلام دامس فإنّ خلايا الجسد والأنسجة تعتمد على مخزونها الكهرومغناضوئي فتستهلكه حتى إذا وصلت إلى نقطة التلاشي بدأت تتحفز فينا بأشكال مختلفة منها العصاب والعدوانية وهرش الجسد، نحن مرضى وأكثرنا لايحس بمرضه لأنه يعيش جانبا واحدا من الحياة هو وجهها المنير فقط.

   ومثلما هتف الليلة الماضية وجدتها بصوت واضح يجد نفسه  يهتف الآن بصوت خافت  العبارة ذاتها ، ويلتفت إلى تلميذه وزميله ملاطفا:

-     قد احترف في المستقبل مهنة أبي!

  فرد الآخر ممازحا:

سأترك مهنة الطب واشتغل نادلا معك!

  كان جادا في حديثه على الرغم من أن الدكتور " ن " عدها مزحة خفيفة قطعت عليه بعض تأملاته. تلك اللحظة تذكر مهنة والده الذي افتتح مطعما كبيرا في المدينة بعد أن انتقلوا إليها قبل زمن طويل.ماذا لو أعاد التجربة بصيغة أخرى. إنه لا يستنسخها كاملة بل يضيف إليها عامل الظلام فيجذب  المرضى للعلاج وهم يظنون أنفسهم في نزهة فريدة،.مطعم جديد بأجوائه التي  يخيم عليها ظلام دامس.لامصابيح ولاشموع ، العاملات والعاملون يقدمون للزبائن طعاما في الظلام والزبائن يأكلون وسط العتمة.ربما الطباخ نفسه يطبخ  وسط الظلام.يمكن للزبائن أن يجلسوا ويتحدثوا ليتناولوا مايرغبون من دون ضوء. هم أن يفصح بأفكاره لزميله وهواجسه لكنه سرعان ما استثنى  لأن فكرته لم تختمر بعد ثم همس لنفسه:

في البدء سأعالج العالم في إعادته للظلام الذي فقده من جديد دون أن يشعر بذلك!، والتفت إلى زميله مرة أخرى:

- هل يمكن أن نعالج المرضى من غير أن يحسوا أننا فعلا نعالجهم!

- من الناحية النظرية يمكن أما من حيث المفهوم العملي لم يحدث ذلك إلى الآن.

 ابتسم وهو يلف المقود مع منعطف الطريق وكانت  السيارة تقترب من المدينة التي استعدت شأنها كل مساء مع ميلان الشمس نحو الغروب لاستقبال ليلة جديدة مفعمة بمصابيح ساطعة النور!    

نشرت في مجلة العربي الكويتية العدد 593 أبريل 2008

نوتنغهام 5/10/2007

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1504 الخميس 02/09/2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم