صحيفة المثقف

النقد الادبي: بين نسر يحيى السماوي وغزال نوال الغانم .. نصان في ميزان المقارنة / قصي الشيخ عسكر

فتاملت في النص وراودتني فكرت المقارنة قلت لنفسي لقد اعتدنا حين نسمع كلمة أدب مقارن أن نلتمس التشابه والاختلاف في نصين للغتين مختلفتين مثل العربية والفارسية أو الإنكليزية والعربية لكن هناك تناصا رائعا في النفس الملحمي بين موضوع عالجه السيد السماوي في شعر عمودي وعالجته السيدة نوال بطريقة أخرى والاسطر التالية تبين فخامة النصين ورونقهما وتماسكهما من خلال مشهد واحد سلطت عليه الضوء.

 

المقال:

يذكر يحيى السماوي النسر قائلا:

رفع النقاب وسلما وبحاجبيه تكلما

وازاح عن زيق القميص جديلتين ومعصما

فرايت ماأغوى بفاكهة اللذاذة آدما

نسران كادا يهربان من القميص تبرما

نسرا يختبآن خلف ضفيرتين فأوهما

أهما أنا متحفزان وفي الحياء أنا هما

اعتاد الشعراء أن يشبهوا الخدود بالتفاح والنهود بالرمان أو أن يشبهوا النهدين بعصفورين بدليل الرقة والقلق والحركة ثم جاء السماوي فشبههما بالنسرين.

سأنشغل قليلا بمسألة النسر؟ مامعنى النسر؟ وتداعياته وامتداداته العالمية.مَثـَّل النسر المعاني التالية:

العقاب يتقصى أعلى مستوى الروحانية ويسمو إلى الشمس وهو شعار جوبيتير وهو عدو الثعبان مغوي آدم وحواء لذلك اصبح العقاب الممسك ببين مخالبه بالأفعى مهيمنا على عصور وأمكنة مختلفة فهو يمثل في صراعه مع الأفعى صراع الروح والمادة. يقول العهد القديم " قد حضر إلى لبنان نسر عظيم ضخم الجناحين طويل القوادم كث الريش الملون وأخذ ناصية الأرز فقصف رأس خراعيبه وحمله إلى أرض كنعان ووضعه في مدينة التجار وأخذ أيضا بعض بذور الأرض وزرعها في تربة خصيبة إلى جوار مياه غزيرة وأقامها كالصفصاف فنبتت البذور وصارت كرمة ممتدة الفروع انعطفت نحو النسر وتأصلت جذورها تحته1  ويرد النسر في العهد الجديد مدافعا عن المرأة مهاجما الحية " ولما رأى التنين أنه طرح إلى الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الولد الذكر فأعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلى البرية إلى موضعها ... فألقت الحية من فمها ماء كنهر2   ، وفي تراثنا العربي قبل الإسلام يصور الزبير بن عبد المطلب معركة بطلها نسر وأفعى الأفعى دخلت الكعبة واعتصمت بها ثم بدأت تنفخ الحمم من فمها على كل من يقترب من الكعبة حتى جاء نسر فانقض عليها:

عجبت لما تصوبت العقاب   إلى الثعبان وهي لها اضطراب

وقد كانت تكون  لها  كشيش    وأحيانا يكون  لها  وثاب

إذا قمنا  إلى   التأسيس  شدت   تهيبنا  البناء   وقد   نهاب

فلما  أن خشينا الزجر جاءت  عقاب  تتلئب   لها  انصباب

فضمتها  إليها  ثمّ   خلت   لنا  البنيان  ليس   لها   حجاب3

إن علينا أن نقرأ مابين السطور لنعرف بصورة دقيقة مايرمي إليه الشاعر لقد حول السماوي النهدين إلى نسرين وحول نفسه إلى النسرين " أنا هما"، النهد الرقيق الجميل نسر قوي والشاعر نسر، فنقول إن النهد يمنح الحياة" اللبن" والنسر يمنح الحياة كما ورد في العهد القديم والجديد وفي فكرنا العربي أيضا ، كانت هناك قبيلة مراد في العصر الجاهلي يأتيها نسر كل عام مرة فتترك إليه فتاة من فتيات القبيلة يأخذها ويطير4  بالضبط مثلما يفعله المصريون القدامى حين يلقون عذراء في النيل.رائحة القصيدة الصوفية تشي بذلك التوحد الروحي والنفسي الذي يعانق الحياة والأمل من خلال مصطلحات لها إشعاعاتها " النقاب" " أغوى " " آدم".

أما الشاعرة نوال الغانم فتدخل من باب آخر:

أهز الشجرة بقوة

الليلة أشنق الصفحة الفارغة

ببياض الحروف

أقول للكلمة

تداركي بالنبع غزالتك المطعونة بالعطش

ايتها السماء

أقول للطير

حلقي البيت مليء بالمخبرين

ألا ترين

آثار اسنان الأفعى

على قبضة العشب التي أحملها

أينما وليت وجهك تسمعْ وقع خطى التماثيل تتبعك5

الشعر أعلاه يعيدنا إلى المقدس والحياة ومسألة الصراع الأبدي، فالجملة التي تحوي كلمة " الغزالة" وضعتها الشاعرة في سطر واحد للدلالة على الحركة والامتلاء، فأنا أضع الجملة التالية:

تداركي غزالتك المطعونة بالعطش

بموازاة الترنيمة المقدسة :" مثلما تشتاق الغزالة إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله6  فلم تشتاق الغزالة إلى الماء. إن النبع نفسه من صنع النسر كما قرأنا من قبل في العهد القديم ، وفي الفكر المسيحي إن الغزال يرمز إلى المسيح قاهر الشيطان وإن الايل يعمل دائما على إخراج الافاعي من جحورها وقتلها، فالنسر يصارع الأفعى والأيل كذلك،لقد احتلت الغزالة منزلة عظيمة في فكرنا العقائدي والأدبي قبل الإسلام وبعده، فأحد الملوك مات لأنه اصطاد أحد الغزلان7  .و كان للغزالة تمثال على الكعبة زمن خزاعة ثم عثر عليه عبد المطلب في حفره الأرض ذات يوم وأعاده لمكانه8 ، وهناك شعر يحذر العرب من قتل الغزلان لأن أمة من الأمم هلكت بسبب قتل غزالة:

هل سمعتم ببقايا عرب   عطبوا  فيه  وحي   من عجـم

هلكوا في ظبية يتبعها    شادن أحوى له طرف   أحـم

عاقه عنها فما يتبعها      حيث  آوته  إلى جنب  الحـرم

فرماه بظهار  ريشة       فاشتوى  منه  فاطعم   وقسـم

فأتاه حية من خلفه       أحجن  النابين  وثاب  خضـم

فرماه بشهاب ثاقب     مثـلما أوريت  بالرمح الضـرم9

والغزالة التي ذكرت الشاعرة أنها تسعى وهي عطشى  للماء، فما زالت الأفعى وأسنانها على العشب هي نفسها الغزالة أو الايل  الذي إذا طارده المخبرون  أو " طارده الصيادون رمى نفسه من الجبل فلا يتضرر بذلك"10 ، وهي الغزال نفسه إذا لسعته حية ذهب إلى البحر فأكل السرطان فيشفى"11 .

من خلال فكرة الصراع والحياة والتحولات يمكننا أن نعقد جدول مقارنة بين السماوي والغانم لنرى كيف أدار الشاعران الصراع راسمين صورا ذوات علاقات خفية الدقيقة:

 

السماوي                                                            

أ - يبدأ بلازمة روحية: يامبطلا حتى وضوئي       

الوضوء:في الفقه الحنفي يبطل الوضوء            

بمصافحة المرأة وفي الفقه الجعفري لايبطل       

الوضوء بلمس المراة والشاعر ينتسب إلى  

عائلة جعفرية، فالبطلان هنا للنظر لا اللمس                                                       

إنه المس بالعقل وهو عين اليقين أي الحركة

بالصمت وبحاجبيه تكلما .                                                 

 

الغانم

أ - تبدأ بلازمة روحية: أهز الشجرة

"وهزي إليك بجذع النخلة"12 ،كيف تهز امرأة ضعيفة نخلة،

ذكرت الشاعرة النخلة في موضع آخر، وعادت للمس المعنوي أي الحركة

الداخلية أينما وليت وجهك تسمع وقع خطى التماثيل تتبعك. التماثيل الثابتة

هي التي تتحرك الورقة البيضاء

 

السماوي

ب - الشاعر يحول النهد إلى نسر ثم يحول نفسه         

إلى نهد اي نسر

 

الغانم

ب - الشاعرة تحول السماء إلى غزالة وتتوحد في الغزالة.

 

السماوي

ج - استمرارية الصراع: متحفزان   

الغانم

ج - البيت مليء       

 

السماوي   

د - الخفاء: يختفيان      

الغانم

د - وقع التماثيل          

 

السماوي               

هـ - العلاقات الاستعارية البعيدة 

الغانم

هـ  -العلاقات الاستعارية البعيدة    

 

السماوي      

و - بطل الصراع ن خالق الحياة، قاهر الشيطان نسر، الشاعر.

الغانم

و - بطل الصراع قاهر الشيطان امرأة من غزالة

 

السماوي

ز - أجواء ملحمية     

الغانم

ز - أجواء ملحمية     

 

السماوي                           

ح - قلق     

الغنم

ح - قلق                                             

 

الخاتمة:

بعد كل ماسبق يسرني أن أعود إلى جامعة البصرة التي دخلتها عام 1971، وكان هناك أستاذان كبيران هما الدكتور زاهد العزي والدكتور غازي زاهد فقد قالا لي ذات يوم لايهم أن يكون الشعر عمديا أم حرا المهم أن تكون صوره جديدة لم يسبقك إليها أحد  حينذاك أدركت لـِمَ ظنت العرب في البدء  القرآن شعرا وماهو بشعر لأن الكلام إذا حمل معاني وصورا جديدة يندرج ضمن  الشعر وفي مفهوم العرب القدامى الذين سبقونا  بنظرتهم التقدمية في فهمهم للشعر فلا فرق عندهم بين عمود وحر وقصيدة نثر مادام الشعر ينبع من الإحساس والشعور، أقول هذا لأنني ربما سمعت أن الشعر العمودي لايصلح للمعاصرة وها أنا أقارن بين نصين رائعين أحدهما شعرٌ عمودٌ والآخر قصيدة  نثر لأثبت من خلال شعر السماوي أن العمود يستوعب الخلق والإبداع وأن قصيدة النثر تستحق التقدير والإعجاب. إنهما نصان رائعان بهما يفخر العمود وبهما أيضا تفخر قصيدة النثر.

د قصي الشيخ عسكر

6/10/2010

 

.......................

الهوامش

1- حزقيال 17/10

 2- كشف 12/13

3-  السيرة النبوية لابن كثير 1/283، والمصادر حول هذه القصة كثيرة.

4-  كانت مراد تعبد نسراً يأتيها في كلّ عام فيضربون له خباءً ويجرون قرعة بين فتياتهم،فأيتهنّ أصابتها القرعة أخرجوها إليه،فيمزقها ويأكلها،ويؤتى بخمر فيشربه،ثمّ يخبرهم عما يصنعون في عامهم ويطير،حتى قتله رجل من همدان.

5- المزهر،للسيوطيّ،164-166.

6-  أرجو من الشاعرة تسكين  الفعل تسمع لأن كلمة أينما تجزم فعلين .

  المزمور 41/1

7- ربيع الأبرار 3/170، معجم مقاييس اللغة مادة عفر.  أغاني9/81

8-  ديوان حسان بن ثابت ، المقدمة من ص 26-30.

9- ديوان حسان بن ثابت 26-30، ربيع الأبرار3/381، المستطرف2/173، المنتظم2/209.

10- المستطرف 2/220 

11- نفسه 2الصفحة ذاتها. 

12- مريم/24 

 

للاطلاع:

 

يا مُبْـطِـلا ً حتى وُضوئي ! / يحيى السماوي

نص رائحةُ يَديّكِ على رغيّفي / نوال الغانم 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1537 الاربعاء 06/10/2010)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم