صحيفة المثقف

في ذكرى رحيل المبدع (موسى كريدي): هل تنبأ موسى كريدي بموته؟ / حسين سرمك حسن

 

قيل لرجل حكيم : كيف حال أخيك؟

فأجاب : إن أخي قد مات

فقيل له : وما سبب موته؟

فأجاب : حياته .

 ** ** ** **

(أن خوفنا من الموت، إنما يعبر عن فزعنا من أن ندفن أحياء، وكأنما نحن نخشى ألا يكون موتا كاملا، أو كانما نحن نتصور أننا سنظل أحياء حتى في موتنا نفسه، وإذن فإن خوفنا من الموت قد يرجع في جانب منه الى أننا نتصور أنفسنا أمواتا أحياء، وكأن الموت ليس موتا محضا، بل شعورا حيا بالفناء)

-     إدغار ألن بو –

 ** ** ** **

في كتابه المهم (وجع الكتابة) يتحدث المبدع الراحل (مهدي عيسى الصقر) عن الأيام الأخيرة من حياة المبدع الراحل (موسى كريدي) فيقول :

(في نحو الساعة الرابعة، من فجر هذا اليوم الأربعاء، 21 تموز 1996، وفي غرفة الانعاش، والهدوء يخيم على ردهات مستشفى (ابن النفيس) في العاصمة بغداد أغمض الصديق القاص موسى كريدي أجفانه، ليستريح في النهاية، وهو ما يزال بعد في الرابعة والخمسين .

في قصيدته (الرائي) واحدة من أخر قصائده (إذ جنح في سنواته الأخيرة الى كتابة الشعر، مفتونا بتجاربه الشعرية، أيام الشباب) كتب يقول :

ما طال زحامي في الأرض

إلا يوم غيابي

ووقوفي، الساعة، لو تدري

بدء رحيلي

اتلفت في البرهة، نحوي،

فأرى وجهي

في مرأة الرمل

فأقول لمن هذا الوجه؟

من كان معي؟

أنا أسأل، في الوهم، تعاويذي

و أهدهد، آونة، وجعي)

و يعلق الصقر على قصيدة كريدي هذه قائلا :

(يقول البعض، من أصدقائه، أن كريدي، بهذه القصيدة، كان يتنبأ باقتراب ساعة موته . أكان حقا يتنبأ باقتراب الأجل؟ إن كان ثمة شك فلنقرأ له قصيدته (آن أن) والتي كتبها، قبل رحيله بثلاثة أيام، وكانت أخر ما كتب :

(آن أن

آن أن أطفئ أخر شمعة

أن أرحل في مداد اللاعودة

إن أقول للسنونوات البعيدات .. وداعا

أن أزور مالك بن الريب في منفاه

آن أن أستجير بالبحر

أن أحمل معي وثيقة صلبي

أن أهي جسدي للنار

أن أؤبن شمس غدي

آن أن أدعو حبيبتي لجدار في الألف

آن أن أقول للطفل المستيقظ في عقلي ... تم

آن أن أقرب كأس سقراط من فمي

*** **** **** **** **** **** **** ****

 

آن أن ألم ماء الحداد وأبكي ...)

وفي محاولة منه لتفسير سر هذه الروح التشاؤمية والأحساس الأسود بدنو شبح الموت يقول الصقر :

(هذا الأحساس المضني، بدنو الأجل، لم يأته وحيا، من السماء، بل كان حصاد معاناة يومية، مادية ونفسية، من بواعثها الحصار، وغير الحصار أيضا ... وكان هو، مثل أي فنان مخلص لفنه، يرى الكتابة محور حياته، ويروق له أن يجلس، ليكتب قصصا، وروايات، وقصائد، يعبر فيها عن أحلامه، ورؤاه . الا أن الحياة فرضت عليه شروطها القاسية، وجعلت مشاريعه الأدبية تتعثر)

و موضوعة (النبوءات) لدى المبدعين هي مسألة ملغزة في الأبداع، صحيح أنها ليست وحيا من السماء أو الهاما تنفحه ربات الشعر أو شياطين عبقر، ولكنها أيضا، لا تخضع لشروط الحياة الموضوعية فقط، لأن هناك الكثير من الشعراء العراقيين الذين إكتووا بسياط ألسنة لهيب الحصار الجائر ووصلوا الى مراحل من العوز شديدة الأذى وبعضهم كان يفترش الرصيف ولكنهم لم يكتبوا قصة أو قصيدة (يتنبؤون) فيها بقرب مغادرتهم الحياة . اعتقد ان هذا الأمر بحاجة الى مراجعات ودراسات مستفيضة تركز على عوامل عديدة في البناء الشخصي الذاتي وفي مقدمتها صراعات ودوافع لا شعورالمبدع . لقد أثبتنا في دراسة سابقة أن المبدع (مهدي عيسى الصقر) نفسه كان يعيش طوال حياته تحت مطارق قلق الموت والرحيل، وان هذا الصراع اللاشعوري قد انعكس على أحلامه وأختياراته وانتاجاته الأبداعية التي جاءت كلها – أو الكثرة الساحقة منها – تدور حول موضوعات الموتوالخراب.هل كان الصقر في كل ذلك يكتب مرثاة طويلة لنفسه؟ وسنرى ان الصقرالذي عزا القصيدة السابقة التي يتحدث فيها كريدي عن قرب رحيله الأبدي وحس النبوءة الفاجع فيها الى الأحباط الذي أصاب حياة الراحل، يناقض نفسه بعد قليل حين يشير الى تفاؤلية موسى وكيف أن كلماته المتفائلة تحمل الأمل لليائسين والمحبطين . يقول الصقر :

(قال لي موسى، مرة، أنه اضطر أخيرا أن يجعل من سيارته الخاصة، سيارة للأجرة، ينقل بها الركاب، من مكان الى مكان في شوارع العاصمة من أجل أن يوفر المال اللازم، لتدبير شؤون بيته . قلت له أنني أعرف كثيرا من الناس، يفعلون هذه الأيام ما يفعل، من أجل مواصلة العيش، بكرامة، نحت وطأة الحصار (أساتذة، ومهندسون ومدرسون ...) الا أنه – هو بالذات – بطبعه المتسامح، وعدم خبرته، في التعامل، مع رجل الشارع، ليس مهيئا لمثل هذا النوع من العمل، وربما تعرض للأعتداء، على حياته، فقال لي أنه لا يتأخر في الليل، ولا يذهب الى أماكن غير آمنه، ولا يحمل، في سيارته، ركابا لا يطمئن إليهم .

سألته :

(شلون تعرفهم؟)

(من وجوههم)

فضحكت لطيبته، وثقته غير المشروطة بالأخرين ...)

وسيلاحظ القارئ أن قلق الموت قد انتفض في أعماق (الصقر) فخاف على صديقه (موسى) من الموت لأنه حول سيارته الى سيارة للأجرة، وكان عذره / الغطاء الشعوري هو أن موسى غير مهيأ لهذا العمل بفعل تسامحه، فهل الأساتذة والمهندسون والمدرسون الذين ذكرهم الصقر مهيئين لمثل هذا العمل، ولديهم خبرة في التعامل مع رجل الشارع أكثر من موسى؟؟

لقد عرف عن (موسى كريدي) طيبته المفرطة وبياض قلبه الذي يشبه الثلج، وبراءة سريرته التي تشبه براءة الأطفال، حتى أن بعض أصدقائه المقربين كانوا يمزحون معه في لقاءات الجمعة في مقهى (حسن عجمي) فيقولون له أن وجهه هو وجه طفل (مربرب) وله شارب كث . لكن لا أدري لماذا كنت أشعر، شخصيا، ورغم لقاءاتي المحدودة جدا به، ان ثمة خيط مرارة خفيفا في روحه، وان موجات انطلاقته ومرحه تخفي خلفها حزنا دفينا، وان أحلامه الكبيرةو آماله الكثيرة كانت تكوينا مضادا لأحباطات وانجراحات مكتومة .

يختم الصقر حديثه عن طيبة (موسى كريدي) ورحيله قائلا :

(كان كريدي إنسانا حالما، وكان وسط معاناته اليومية، يطلق – كلما أتيحت له الفرصة – كلماته المتفائلة، مثل فراشات ملونة، تحمل لليائسين، واالمحبطين، بشائر خير قادم . الا أن عضلة قلبه المكدودة كان لها منطق آخر، فانهارت سريعا، وخذلته وخذلتنا معه . وهكذا رحل فجرا، يتبع (خطوات المسافر نحو الموت) وترك لنا رؤاه ومشاعره، تلك التي أطلقها عالية النبرة، في مجموعته الأولى (أصوات في المدينة) وتلك التي تركها تنساب هادئة في (فضاءات الروح) أو متخفية، وراء قناع من الكلمات، في (غرف نصف مضاءة) وفي عدد من القصص والقصائد، لم يجد من ينشرها له . ترك لنا أيضا روايته البكر (نهايات صيف) وصفحات من مسودة رواية جديدة، كان يعمل بها، قبل أن تدهمه المنية، فماتت بموته، وبجانب كلماته، عاف وراءه، أحلامه الكبيرة) .

  

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1539 الجمعة 08/10/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم