صحيفة المثقف

محنة الحوار المذهبي بين الفكر الاعتباطي الفوضوي وتوحش التنظيمات الإسلامية المتطرفة (3)

وحينما جاء الإسلام كان من أولياته المستعجلة الحفاظ على قدسية وكرامة وعفاف المرأة وشرفها، ولكنه في ذات الوقت أخرجها من خدرها الجاهلي لتساهم مع أخيها الرجل بجد وإخلاص في بناء دين وأمة. فأي الحالتين أقرب للحقيقة؟ أيهما يجب أن تعمم ويتم العمل بها، وأيهما يجب أن تترك ويبطل العمل بها؟

إن عدم تأثير القرارات التي يبدو بعضها جديدا أو بعيدا عن العرف السائد يؤكد أن تمايزية المجتمع الفكرية منها والسلوكية لم تقف عائقا في وجه التجديد المحكوم بالظرفية لأن مكونات المجتمع ذاتها كانت تعيش ضمن حدود الهوية الجمعية المشتركة ولذلك لم يكن هنالك تناقضا سلوكيا يدعو للاضطراب المجتمعي بل كانت الأمور تسير بسلاسة تامة وخالية من التعقيدات باستثناء بعض المعوقات التي لا يخلو منها الحراك الحياتي للمجتمعات على مر العصور.

فقط عندما جاءت بعض التنظيمات التي كانت دوافعها سياسية أكثر منها دينية وطرحت نفسها كبديل شرعي في القضاء والفتوى والحكم والقيادة أحس المجتمع بوجود التمايز الذي أثارت نوازعه توحشية هذه التنظيمات الفوضوية البعيدة عن مقاصد الشرع، وغير المراعية لحدود الشريعة سيما وأنها جعلت الآخر الذي لا يتفق معها في الفكر يعيش حياة التوجس والخوف الدائم وهو يراها لا تؤمن بالموادعة التي سنها الدين وترفض فقه التسامح تطبيقا لمقاصد الشرع كما تدعي.

ولذلك كانت صورة التناقض السلوكي لهذا التيار تتجسد واقعا للعيان مع كل مرة يظهر فيها في أي بقعة من بلاد الإسلام حيث تجد شدة التعبد وقسوة التطبيق الحرفي للتعليمات الدينية التي تقبل التأويل إلى مقاصد أبعد من مجرد الفهم المحصور بمنطوقها اللفظي شاخصة بوضوح قبالة شدة التوحش وقلة الإيمان واستسهال سفك الدم الحرام. ولذلك كانت فترات ظهورهم تجلب معها في كل مرة الخوف والرعب لأنهم لا يتركون المنطقة إلا بعد أن ينهكونها ويعيثون فيها فسادا ويحولونها إلى خراب وأطلال.

هذا الطبع العدواني الوحشي جعلها محط أنظار السياسيين المحليين والخارجيين الذين كانوا يستغلون جهلها وتخلفها الفكري وجمودها النصي ويخدعونها بالوعود الزائفة أو بالمسائل المحيرة التي كانت من جانبها بسبب قصر نظرها تراها فرصة جيدة لإثبات ألذات وتمجيدها وتحقيق المكاسب ضمن نسق مزيف من تبادل المنفعة بين الطرفين. يروى في هذا الصدد أن القائد الأموي المشهور المهلب بن أبي صفرة استغل هذا الجمود في معاركه معهم ووظفه حيث كان يدس لهم من يطرح عليهم مسألة فقهية معينة ينشغلون بحلها وتلهيهم عن رصد تحركاته العسكرية فيشن عليهم من الخلف هجمات ماحقة توقع فيهم الدمار.

ولذلك نجد أن هناك علاقة وثيقة بين منهجية السياسة الداخلية القائمة وتحرك المتطرفين تاريخيا. وهي المنهجية التي نراها تستمر إلى وقتنا الراهن!

الآخر من جانبه انتبه لهذه الميزة في منهجيتهم ومرجعيتهم الفكرية والتنظيمية ونجح في توظيفها لتنفيذ برامج سياسية معينة في أكثر من مناسبة وأكثر من مكان. فهو لم يتخل في المرحلة الحديثة عن دعم هذه الحركات ماديا ومعنويا وتنظيريا ودعائيا كما كان منذ بداية ظهورها الحديث لكي يتيح لهم فرصة نشر توحشهم البدائي في مكان استراتيجي حساس يشتمل على كل خزين البترول العالمي لا يريد له أن يستقر ويهتم بشؤونه التنظيمية التي تتيح له استغلال هذه الثروة بشكل سليم، لأن عدم الاستقرار وحالة الترقب والتوجس تدفع قيادات هذه المنطقة لإعادة واردات النفط إلى البنوك الغربية الآمنة وبالتالي يظهر وكأن دول الغرب تحصل على البترول مجانا.فإذا ما استقرت المنطقة فإنها ستقوم حتما بتوظيف هذه المبالغ الطائلة في البناء والتطوير وتحرم الغرب من هذه المكاسب العظيمة.

علما أن هذا التوظيف ليس جديدا وإنما تعود جذوره الأولى إلى القرن السابع عشر حيث سجل الظهور الجديد لهذا الفكر في أرض نجد والحجاز في الجزيرة العربية ظاهرة دينية سياسية فريدة تم خلالها التعاون بين السياسيين وقيادات التيار نجحت في تأسيس دولة. وقد أوحى هذا النجاح غير المتوقع لمجموعات أخرى قريبة التفكير من هذا التيار لأن تتحرك في مناطق أخرى من الأرض العربية تحت غطاء ما عرف بالحركات الإصلاحية التي كان ظاهرها يوحي وكأنها تحاول تحرير المجتمع من المحتل والعودة بالدين إلى أصوله الأولى وتحقيق التقدم والتطور بما يتساوق مع التطور الغربي ولكن بمنهجية إسلامية. ولم يكن الآخر بريئا من سبب ظهور هذا الحراك لأنه في الواقع كان المحرض الحقيقي لظهوره جراء الدعم المادي والمعنوي الذي قدمه له تحت غطاء تسريع تحرره من الاستعمار العثماني المتخلف وهو الأسلوب الذي بقي متبعا من قبل هذه الجهات الخارجية التي استغلت بساطة وسذاجة تفكير هؤلاء.

وبالمقابل كان هؤلاء أنفسهم يبحثون عن المسوغات في النصوص العقيدية التي تبيح لهم التعاون مع هذا الطرف أو ذاك في كل مرة بشكل جديد ومختلف. حتى أمريكا بقوتها وجبروتها ممكن أن تصبح صديقة وكتابية في الحرب ضد غزاة الإتحاد السوفيتي الشيوعيين في أفغانستان المسلمة الجريحة، وتتحول تبعا للظروف المستجدة إلى عدو كافر يجب استقدامه للمنطقة لتكبيده أكبر الخسائر سواء في العراق أو أفغانستان!

نحن لا ننكر أن مجتمعنا الإسلامي بسبب الظروف الداخلية والخارجية وتفرق كلمة المسلمين فقد الكثير من التوازن وصارت حياته أقرب للاعتباطية منها للتنظيم. وهو بهذه الحال المزرية يحتاج بشدة لأن تتوحد كلمة المسلمين ولو بخصوص بعض الكليات التي لا يحتاج إدراك المشترك الكامن فيها لجهد شديد. وهذا التوحد لا يمكن أن يأتي كيفيا أو اعتباطيا بل يجب أن يكون الاتفاق عليه متينا ومكفولا من قبل سلطات الضبط العالمية كضمانة تنفيذية على أقل تقدير، وأن تكون ولادته شرعية عن طريق الحوار المتمدن بين المذاهب الإسلامية وعقلائها. لأننا إذا ما تركنا الأمور على عواهنها وسمحنا لحملة الفكر المتطرف بتولي قيادة الحياة الإسلامية سوف نواجه هزيمة نكراء على كل الصعد، لأن هذه الجماعات الموجودة في أغلب المذاهب تدعي بسذاجة واعتباطية أنها من خلال أعمالها الإجرامية الإرهابية إنما تريد إعادة التوازن المفقود للمجتمع الذي ابتعد عن الإسلام غير آبهة إلى أن البناء لا يمكن أن يقوم على أصوله إلا بوسائله التقليدية المتعارف عليها. وإلا فنحن ندرك جميعا أن أعتى الحكومات وأقواها وأشدها تطبيقا للقوانين لم تنجح في إعادة التوازن لمجتمعاتها بنفس الدرجة التي يحلم بها المتطرفون الجهلة وهي التي لا تمثل شريحة معينة من شعبها ولا تفضلها على حساب الشرائح الأخرى. فكيف لوحشية الفكر ألإقصائي أن تعيد توازن المجتمع وهي تريده أن يتنازل عن قيمه ومثله وثوابته ومعتقداته الفئوية ويؤمن فقط بفكرها ونهجها؟ ألا يمكن لهذه الدعوات العبثية أن تكون مدعاة لخلق عداوات جديدة أكثر من قدرتها على تبكيت التحفزات النفسية؟ وكيف يكون الحمق إذا ما كان المرء غير مهتم لتكاثر أعدائه في الداخل والخارج؟ وأين ذهبت كل تلك الآيات الرائعة العظيمة ( أن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون) (لست عليهم بمسيطر) ( ليس عليك هداهم) (وما أنت عليهم بجبار) ( افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) (إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) بل أين ذهبت تلك التحذيرات الشديدة (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم)

ثم أن سياسة عولمة القوانين التي تفرضها السيطرة الأممية العظمى ورديفتها وشريكتها المنظمات الدولية على التعاملات البينية الإنسانية في العالم كله سعيا لتشكيل نظام سياسي موحد يتولى إدارة قوانين الكون، هل من الممكن أن تسمح لهؤلاء بهذه البساطة والسذاجة أن يعبثوا بموازينها، أو أن يظهروا كمنافس جديد لها في منطقة تقع فيها مفاتيح كل بترول العالم الذي يمثل عصب الحياة المعاصرة وشريان استمرارية حياتها ؟

أعتقد أن هذا التصور يدعونا جميعا لمراجعة مواقفنا وإعادة النظر في كثير من قوانيننا الفئوية، وحتى في نظرتنا لمسألة حوار المذاهب التي لم نر أي تحرك جدي نحوها بقدر ما رأينا وسمعنا من هذا الطرف أو ذاك أن الحوار يمكن أن يكون فرصة قاتلة لأنه يسمح لبعض المذاهب بالتحرك في المساحات المقفلة للمذاهب الأخرى!!

 

صالح الطائي

كاتب وباحث في الشؤون الإسلامية

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1115  الثلاثاء 21/07/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم