صحيفة المثقف

ربيع التنومة ...

 تجمعت لديَ فكانت نواة لعمل روائي توثيقي يوثق للحرب العراقية الايرانية والانتفاضة ومابعدها فتشكل العمل الروائي بثلاثة اسفار هي:

مصرع الشيخ سفر الحرب الأول

الانتفاضة  السفر الثاني

السجن السفر الثالث

ومثلما فعلت في نشر  بعض من رواية الخيال العلمي في يوم ما قبل طبعها بسنين فإني هنا أنشر من كل سفر أربع صفحات لأنني كا علمت لم يكن هناك من أحد وثق لهذه الأحداث العظيمة إلى الآنن كما إني شخصيا قبل أكثر من ستة اشهر اتصلت بأحد الناشرين في العراق وسألته في أن يتبنى العمل فأبدى ارتياحه للفكرة غير أنه وعدني بنشر الرواية بعد تشكيل الحكومة ولا أدري ماعلاقة التشكيل بالنشر!!

 

السفر الأول / مصرع الشيخ

اليوم قُتِلَ أبي !

جثته وجدت ملقاة منذ الفجر في ساحة سعد عند باب الزبير. يبدو أن سيارة دهسته وثمة أثر لإطلاق نار. ثلاث رصاصات رأيتها في جسده أما قصة السيارة فبدت تمثيلية فجة الغرض منها التعتيم على أثر التعذيب الذي بدا واضحا على جسده.

هل تشك في أحد؟

كلا

أتعرف له  أعداء؟

رجل مسالم لايكره أحدا يصادق المؤمن والكافر فمن أعداؤه غيركم؟ :

لا أبدا!

هل لمح إلى أنه استلم تهديدا عبر الهاتف أو رسالة ما من أحد؟

كلا

من تظنه إذن فعل ذلك؟

لم يكن قتله أمرا غريبا ياسيادة المحقق كلنا كان يتوقع ذلك بل الغرابة في أن تحدث الجريمة بعد ساعات من الإعلان عن نهاية الحرب بين العراق وإيران. الان تتنفس التنومة وتعود إلى هدوئها السابق. أكثر من خمس سنوات ونحن بعيدون عنها. خرجنا منها بأمر عسكري ورجعنا إليها بأمر. أعراس وحفلات. أفراح دعا لها بالدوام البدوي راجي المزروع الذي كاد الفرح يقتله منذ زار التنومة الرئيس خلال الحرب وقصد بيته. عمار أيتها التنومة ومباركة لك خطوة الرئيس لكن أهلك بعد ثلاث سنوات من الحرب غادروا مرغمين إلى عمق البصرة هربا من القذائف وآخرون نزحوا إلى محافظات أخرى.. والآن يخيم السلام على شاطئك الهارف القوام فتستعيدين  أنفاسك. تسترجعين أحشاءك التي لفظتها ذات يوم.

أكثر من خمس سنوات في المنفى ونحن على بعد خطوات من شط العرب.

فما أطول الزمن وماأقصره في غيبوبته الطويلة تلك أمام جثة أبي!

والدي نفسه ترك المسجد وجاء يسهر معنا في الدار. رحنا نراقب التلفاز ونستمع إلى الإذاعات التي شغلت بالسلام المفاجيء. نهاية الحرب مثل هدف غير متوقع جاء في وقت ضائع. غدا نعود من منفانا القريب في الحيانية إليك. كنت على بعد خطوات منا فمن يجرؤ على الاقتراب خطوة منك. بعد ثماني سنوات من الدمار نامت إيران وصحت. فلم يساورنا شك أن الحرب تكون لها ذات يوم نهاية لكن متى ربما تمر سنين وأجيال. ننقرض نحن وآبناؤنا ويشهد التاريخ أن حروبا جرت بين دول دامت سنوات وسنوات. الوحيد الذي بدا محظوظا أخي الأكبر المهاجر كأنه من خلال صمته  كان يعلم أن هناك حربا مدمرة ليست بذات نهاية سوف تقع، فغادر الى منفاه. أختي الكبرى عادت متأخرة ساعة إلى البيت. كانت تحاضر في معهد التكنولوجيا ثم عرفنا أن ضابط أمن الدائرة سألها عن أقاربها في الخارج. ماذا تقول غير أن  أخاها الأكبر جلالا سافر بعد التخرج. هناك يعمل وانقطعت أخباره. لاعلاقة له بالمعارضة في إيران وسورية ولو لم تحدث الحرب ونسكن بضع سنين خارج التنومة لربما ظل على اتصال بنا ولعله يعود. أسئلة واجهتها انا نفسي  في العمل أكثر من مرة. وفي المساء قبل أن يقتلوا أبي بيومين فقط فاجأنا تلفزيون بغداد بالخبر الجديد.

إيران وافقت على وقف الحرب.

العراق مزهو بحلة من الفرح والانتصار الكبير!

والعراقي قبل شرط أن يطلق هو آخر صاروخ!

موت أم لعبة أطفال. أنت الأول.. أنت بدأت أنا من يختم!

انطلق مارد الغجر من مكمنه. هؤلاء الغجر الذين ترفض الحكومة منحهم الجنسية مثل باقي العراقيين بدوا في غبطتهم وغنائهم المتواصل عراقيين أكثر من أي عراقي. هل يعقل ذلك، إيران أقسمت أن يحاكم المعتدي أين ذهبت شروطها!

هكذا هي النهايات الغريبة.

وأمي التي اختلطت ذاكرتها بالنسيان فلم تحفظ غير اسم أخي المهاجر ظنت أن العراق خضع لشرط إيران اليتيم الوحيد. جملة واحدة تعرفها منذ بدء الحرب قبل أن تختلط عليها الأمور:

هل غيروا رئيس الجمهورية؟

آه لو نطقت بها في الشارع فهؤلاء لم يقرؤوا يوما عن خرف الشخوخة والنسيان وتلاشي الذاكرة من اليأس ولبدت الحكاية أكثر تعقيدا من وقف الحرب ذاتها:

من يصدق عينيه.

هل السلام حقيقة أم حلم؟

لكن الحلم رابه شيء من رائحة الموت. هؤلاء يصعب عليهم أن يختصروا المسافة من شباط عام 1963 إلى عام 1988. ذاكرتهم تظل عالقة بأوهى الحجج وهاهو والدي يرمى في ساعة سعد كأنه خرج من السجن جثة هامدة عامة 1963.

لم أكن في ذلك الوقت لأظن أن والدي يقتل منذ تلك اللحظة علنا فيـُدَّعى فيما بعد أن سيارة دهسته. وكنت مشغولا عن الحياة بموت توقف فجأة فظننت مثل غيري أن تلك الكارثة المقيتة سوف تكون آخر الحروب وقد رجعت بي الذاكرة وأنا أمام الجثة إلى الماضي البعيد. أيام جاؤوا إلى الحكم بانقلاب عنيف!

أقف على جثة ابي فأدرك أن الزمن نفسه لم يتغير بل ظهر بمنظر آخر مخادع!

وقتها كنت طفلا صغيرا أصحب أمي من سجن لسجن ومن دائرة لدائرة، معظم أهل المحلة تنكروا لنا وتجنب بيتنا جل أقاربنا وكان أخي الأكبر الذي هاجر بعيدا حالما أنهى الدراسة في جامعة البصرة اضطر حينها لأن يعمل كي يعيلنا. عمل في البناء مع العمال، واحترف لأسابيع كتابة العرائض أمام دائرة النفوس، وباع المشروبات الغازية. قد أكون نسيت كثيرا من الأحداث لكن هؤلاء لاينسون قط. هناك في مكان بعيد عرفنا فيما بعد أن في  معسكر الشعيبة غرفة ضيقة مفتوحة هاجرت من التنومة مثلما هاجرنا منتصف الحرب إلى مسكن آخر في الحيانية. هناك يعذبونهم. الإشاعات تنتشر.  كل يوم إشاعة. هاهو كبيرهم الزعيم الأوحد جثة هامدة يبصق عليها جندي أمام الملايين فما قيمة هؤلاء؟ الخونة أنصاره يظنونه حيا يعود في يوم ما مثلما يظن كثير من الألمان عودة هتلر! دعهم يحلمون فنجوم الظهر أقرب إليهم. إنهم يذوقون عذابا لم يذقه أحد من قبلهم. ما لا عين رأت ولا أذن سمعت! قلع أضافر. جلد.. منهم من وضع في دبره زجاجة مشروبات. بيبسي كولا. سينالكو... كوكا، وسمل العيون. الإشاعات تسري سريان النار في الهشيم تنتشر كالجراد الهائج، وأمي تسمع فتعلو وجهها صفرة من الخوف والقلق أشبه بصفرة الموت. بعض الحوادث عن السجن والتعذيب سمعتها من أبي نفسه. لقد كنت بسبب المرض أكثر قربا له. كان يتعاطف معي ويتجاهل أغلاطي وينسى أني أهمل دروسي وكان يقول لأمي  أن عبد الله لايمكن أن يكمل المدرسة مادام يعاني من فقر الدم المنجلي وعلينا أن نفكر بمستقبله في مجال آخر.

فهل توقفت الحرب بمصرع أبي؟

كنت سمعت الخبر من أستاذي في الابتدائية السكران الصاحي أو الصاحي السكران الاستاذ نشوان. والحق أن علاقتنا  بعد نزوحنا الأول إلى الحيانية مع نشوان بقيت وطيدة لأنه سكن بالقرب منا. طرق علينا الباب وأخبرنا ان التنومة التي كانت مشغولة بفرحة السلام تروي الآن مصرع  أبي. سكرت مدينتا وصحت على موت جديد ربما يتحدث عن عبث في أمور شتى لكنه في هذا المعنى بدا جادا وتيقنت أن والدي قد قتل تماما في هذه اللحظة عام 1988 أو عام 1963!

حينذاك أو الآن الحرب المسعورة كانت كذئاب توغل في الدم. بدايتها مصرع أستاذ هندي وختامها أبو العز، وهذه السنة الغامضة من عقد الثمانينيات سنة 1989 قد تخبيء أمرا أعظم من أي معنى آخر. وداعا للحرب ومرحبا بسلام يحصد جثة جديدة وبشرى لإذاعة بغداد وهنيئا لمطربي الغجر وفرقة الهيوة. فما أجدر بنا أن نصفع شاشة التلفاز وفق اقتراح أختي الكبرى كل هؤلاء يغنون ويرقصون وجثة أبي ترقد منذ نهاية الليلة الموعودة بالسلام عند ساحة سعد. لم يرموه في ساحة التنومة كانهم خائفون. لافرق قط بين السنوات المنصرمة واليوم. ماحدث خلال ثلاثين عاما. يمكن أن يمر بصيغة أخرى سوى أن التنومة كانت في السابق لاتعرف طعم الموت مثلما تراه الآن. وأنا عندما كنت صغيرا زكمت أنفي مرة واحدة فقط نتانة جثة على سيارة انطلقت بأقصى سرعتها قيل هو أحد المهربين ضل في البر فمات عطشا. واليوم وبعد أن تتوقف الحرب ويفرح الناس ونأمل أن نعود الى التنومة يغزو عائلتنا الموت هكذا فجأة من دون سبب أو لسبب تافه قد يجهله القاتلون أنفسهم.

قبل الحرب بثلاثة أشهر جاء أبي إلي بخبر جديد. قال إنه يعرف قاضيا صديقا له في محكمة البصرة كفل له بشغل لي. وكانت أمي قد رحبت بالفكرة فلشد ماكانت تخشى أن أهاجر بغتة مثلما فعل أخي الأكبر، وبدا كل شيء خاضعا للتغيير. استلمت وظيفتي الجديدة. خلالها وبعد سقوط شاه إيران التهبت التنومة وواراها حزن غريب عنها.

في السابق كان هناك موت وسرقة وحوادث...

غرق أو حرائق...

حوادث متفرقة مزعجة أو محزنة لاتجلب معها الرعب...

لكن الآن  لما يعد كل شيء كما هو عليه... هدوء التنومة الأليف بدأ  ينحسر رويدا رويدا ويهاجر كهجرة بعض شبابها. كل ذلك يحدث في بداية مباشرتي العمل. بعد ثلاثة أشهر من استلامي الوظيفة. حالة طواريء  تهديدات. إذاعة الأهواز تهدد وتتوعد، وبغداد تشتم وتستعد للحرب كأن الثورة حدثت على ضفاف العشار لا في طهران!في المدارس يتغير نشيد مألوف:

دم هكذا في علو أيها العلم  فإننا بك بعد الله نعتصم

والعلم ذاته ينسخه علم آخر. المعلمة تدخل الصف:

قيام...

عاش القائد صدام

جلوس

يسقط الفرس المجوس

وعلى رف قديم في الإذاعة يُنسَى " عمو زكي "وتتلاشى كل أغاني الأطفال وتظهر مكانه فتاة سمراء ترتدي ملابس الطلائع تنشد للقائد. ليست هي المرة الأولى. كانت ذاكرة التنومة تلوذ بالماضي لتهرب من الحرب. نوري السعيد وشاه إيران ارتبطا في حلف بغداد فكم من مرة التهبت الحدود زمنهما ولم تقع الحرب. ومازال الناس يتذكرون حشود الجيش أيام عبد الكريم قاسم وفي عهد عبد.... .

 

السفر الثاني / الانتفاضة

السندباد اختفى.

يقال توارى وتلاشى في بغداد هناك حيث وجد ملاذه الآمن!

بعيدا عن النار..

بعيدا عن الموت والخراب والدمار

منذ اليوم الأول فر من البحر وفي ذلك الصباح الحزين كان الجنود يعودون متعبين. نحن العراقيين لم يبق لنا صاحب في هذا العالم، فكل بلاد الدنيا تعادينا. لست نائما ولم أكن سكران مثل نشوان المعلم. وأقسم بالله العلي العظيم أني لم أره منذ اليوم الأول من أيام المحنة الأربعين تلك. لكني رأيت أو خيل إلي أني أسمع ثورا أسود يصرخ لقد أكلت يوم أكل الثور الأبيض. نشوان العامود معلم التربية الصحية ودرس العلوم أصبح في العام الجديد معلم القراءة خلفا للدويك، وكنا نعيش معه ايام السندباد إلى درجة أننا ظنناه حقيقة لاشك فيها حتى تلاشى البحَار وعاد الجنود المتعبون. لم تنته الحرب. في آب عام 1988 انتهت حرب وفي آب عام 1990 قامت حرب أخرى. لم يصبر العراق طويلا على سكون الموت. نحن ندخل معركة أخرى نحسمها بست ساعات. صدام حسين يضم الكويت بست ساعات. ملخص لحرب دامت ثماني سنوات. بروفة... مقدمة كتاب اسمه تحرير فلسطين. بلد مساحته ثلاث مرات بحجم لبنان ضمه القعقاع بست ساعات حتى صرخت الزوجة في الفراش بوجه زوجها العنين: الرئيس ضم بلدا كبيرا أكبر من لبنان بست ساعات ابتلعه.. فكيف تعجز أنت عن الضم. هي حكمة الله وقضاؤه وقدره. يهدي القوة لمن يشاء والضعف لمن يشاء. خلق أضعف الرجال ويستخلف أقواهم. وأنا مازلت أفتقدك يانشوان العامود فمن عاشرك يكتشف فيك شيئا جديدا كل يوم. في هذه اللحظة وأنا أتابع مسيرة الجنود المتعبين القادمين من العشار إلى شط العرب يلتمسون عبرها أكثر الطرق أمنا إلى بغداد في هذه اللحظة أتذكرك. جنود منهكون حفاة عراة. شعث الرؤوس. ممزقو الثياب جائعون. هل كنت أنت السندباد حقا؟ أم أنا؟ نظريتك في الحرب سقطت، ونظريتك حول السندباد مازالت قائمة. انتهت الحرب مع إيران ولم تنته فهاهي تشب داخل الكويت. يومها أحضر مدرس التاريخ القديم خريطة للعراق. كنت في الصف الأول متوسط. قال المدرس انظروا  كان البحر يغطي الناصرية ويقف عند النجف. نحن أهل التنومة كنا إذن بحرا. ومن قريب كان دجلة والفرات يلتقيان في القرنة. الله لقد صدقت الحكاية برمتها. صدقنا نحن الأولاد. دجلة والفرات عاشقان رفض أبواهما زواجهما فهربا وظلا يسيران مسافات شاسعة حتى التقيا في القرنة. لم يلتقيا في الساحل الطويل لكي يولد السندباد ونحن الصغار نصدق معلمينا الكبار. لم نعد تلاميذ بل طلابا ولم يعد من يعلمنا معلما بل مدرسا أما نشوان العامود فقد قال هذا مدرس حمار. إنه الشعور بالنقص. نحن نشعر بالنقص، فنتخيل أنفسنا على بحر ونصطنع السندباد. ليست هناك من حقيقة علمية تثبت أن البحر امتد في عمق العراق. وجدنا أنفسنا قادة العالم زمن الرشيد ولا ساحل لنا فاخترعنا السندباد قاهر البحار والأمواج ثم عانقنا عصر النور فلم نجد بدا من أن نجعل البحر إلينا يسعى في العمق وبعد أن يئسنا صفقنا للملك غازي وهو يعلن تبعية الكويت لنا وباركنا عبد الكريم قاسم حين عين الشيخ الصباح قائم مقام لقضاء الكويت. بحثنا طويلا فوجدنا أن المنفذ يمكن أن يكون المحمرة أخفقنا فتوجهنا نحو الكويت. الله كم هي طويلة تلك الرحلة. هي عقدة النقص قلا يغرنك كلام ذلك المدرس الحمار:

مامعنى عقدة النقص؟

هؤلاء هم الجنود العائدون عقدة النقص. قصة المدرسة الابتدائية تغزو الذاكرة من جديد. الثور الأسود أي ثور هو. أكلتنا أمريكا يوم أكِلَ الاتحاد السوفيتي. يوم أكِلَ الشيوعيون عام 1963 ويوم أكِلَ عبد الناصر 1967 ويوم أكِلَت إيران. آخر المطاف نحن. الثور الأبيض.. لاأدري أي لون كان هذا الثور يحمل. ظل تائها في الصحراء يبحث عن منفذ ما في البحر. من زمن هارون الرشيد نبحث عن منفذ بحري. مررنا بتجارب كثيرة. مططنا البحر وهاجمنا دولا. عرب المحيسن. بنو كعب. بنو أسد جاءت قواتنا تحرركم. المحمرة عراقية. وأنتم أيها العرب الخلصاء. هؤلاء مجوس. نحن عرب وهم  فرس. سنة نحن وهم شيعة. البحث مازال مستمرا عن أبي لؤلؤة المنثوري. القوات العراقية فتشت الشوش... سيف سعد.. قوس الزين... قصر شيرين أين أختفى الفاتك الشرير الذي تعلقت به أدران المجرمين من عهد قابيل. الجنود العراقيون أبناء الماجدات يواصلون بحثهم. لعل الوقت فاته أن يلتحق ببلاد فارس لا أظنه في كردستان فأنا كنت صغيرا ووقفت شاهدا مع أبي عام 1958. جاء الملا مصطفى البارزاني بالبارجة من منفاه، فتدافع أهل البصرة نحوه. من يريد أن يشمه ومن يريد أن يقبله. غرق زورق، ولم يحزنوا. خرجنا نصيح: يامصطفى أهلا بك. صافحه والدي باسم أهل التنومة، وأقسم بالله العلي العظيم أني لم أر معه أي قاتل لا أبا لؤلؤة المجوسي ولاقارون ولا أي من الذين تبحث عنهم الحكومة ويصور اشكالهم المقيتة  خيال صلاح أبي سيف الخصب. من يعرف أن وجه خالد بن الوليد أكله الجدري ووجه العلايلي جميل وسيم يدرك عقدة النقص التي حدثنا عنها نشوان العامود ونحن طلاب في السنة الأولى المتوسطة وهو يشبِّه مدرس التاريخ القديم بالحمار لأنه قال إن البصرة كانت على بحر والآن بعد أن رجعنا من إيران وأقسم السادات أن القاتل الفاتك ليس في مصر ظنناه مختبئا في الكويت في مكان ما.. الحمراء.. الفحيحيل.. الجهراء، مجرد شك.. وأنا مازلت على ضفاف شط العرب أبحث عن السندباد الهارب:

كباب رائع بدينار!

الآن عملناه. جديد!

مازال ساخنا...

من قبل جعلت من السطح هوايتي المفضلة. إرسال الطائرات الورقية إلى الفضاء. قبل أن تاتينا تلك الحشرات المعدنية التي تشبه اليعاسيب. أمد لها الخيط،. أنتظر الهواء بفارغ الصبر، فما أحرى بالطيارين أن يعودوا إلى لعبة الطفولة ليحافظوا على لياقتهم. وفي ليالي الصيف حين ينزل الندى نستلقي على الأفرشة نرى النجوم الساطعة. عادة ألفناها قبل اندلاع حرب الخليج الأولى وقبل أن تسقط نظرية العد أروح من على فراشي أعد النجوم فأضيع في أوائلها قبل أن أبدأ في آخرها! اعجني ياأم مثنى.. فأين السطح من أيام زمان والعائدون من قبضة الموت يخرجون عن نطاق الحصر والعد! اعجني يا عزيزتي.. المكان نفسه تعجن فيه أختاي وتقليان الكباب، لكنه مكان نظيف لم أدنسه قط بأية حماقة. لاأنكر أني سمعت ياسر عيسى مراقب الصف  يتحدث عن ابتكاره الجديد. مصيدة الفئران يضع عليها قليلا من الشعير فيأتيها الحمام عندئذ صرخت بي أمي في المكان ذاته:

والله سوف نقرف الأكل بسببك. ستجعلنا نكره أكل اللحم ونعاف الطعام. سأذبحك والله العظيم وليسمع أبوك الذي يمد لك حبل الصبر بحجة المرض فلا تخشى العقاب!

جربه ياسيدي. خذ واحدة دون مقابل!

هذا التلفزيون إنه من الكويت.

الجيش يلوذ بالفرار وأنا على السطح أحاول صيد حمامة بفخ جرذ فياللسماء وياللقرف:

أموالنا رجعت لنا.

البدلة بنصف الثمن من الكويت.

جيش أم لصوص؟ ذهبنا إلى إيران نبحث عن أبي لؤلؤة المجوسي فرجعنا بسلب كبير من الأهواز وعبادان. تلفزيونات. أغنام. أقراط ذهبية. وذهبنا إلى الكويت نلقي القبض على فرعون. قارون صاحب المال. الشيخ جابر:

حذاء إيطالي سعره عشرة خذه  بربع!

ليس معك نقود خذه مجانا..

ورجل يستعرض مجموعة من النعال:

هذا زايد. هذا فهد. هذا جابر!

لم تعد الكويت دولة كاملة اختفت من الوجود زالت من الجغرافية ودخلت التاريخ أصبحت مرة قضاء وهاهي مثل التنومة تتمدد فتصبح إحدى المحافظات:

ماهو المقاس المطابق لرقدمك فهد أم جابر!

هي علامة قديمة. أبعد مما يراها أبناء الشوارع اللصوص الذين نهبوا الكويت وجاؤوا يعرضون السلب في شارع دينار. العراق والكويت والماضي البعيد الذي ألقى بظلاله على علاقة والدي بالسادة آل حصونة وقالها الشيخ علنا يوم جاء إليه كبير آل حصونة يدعوه لإقامة مراسم عزاء. قال إن آل حصونة يتحملون وزر سيد حميد. كان أبي يدرك أن الزعيم لو دخل الكويت لما حدث نهب أو سلب ولترفعت قواته عن القتل والسرقة. بالأمس  اعدم عقيد هرّب ذهبا من الكويت. وكان هناك من الجيش من يسوق قطيع أغنام نهبه من بساتين الأهواز، وقد رأيت بأم عيني خلال مظاهرة مؤيدة للجزائر صحبت فيها والدي رأيت  شخصا يحمل محفظة نقود ويصيح : رحم الله من فقد محفظة نقود ليأت وليأخذها ولا أحد يتقدم، وقد كثرت أحلامي هذه الأيام فما تذكرت لحظة احتلال لأي مكان إلا أجد نفسي أمام تظاهرة خرج فيها الملوك والرؤساء العرب. كانوا صامتين لايتكلمون. فقط وحده الرئيس الصومالي محمد زياد بري يصيح رحم الله من أضاع خصية، فكأني لم اسمع شيئا سوى حديث الشيخ إلى كبير آل  حصونة عن الكويت وقوله مادمنا لم نستردها زمن غازي وعهد الزعيم فهي أقرب إلى المحال وكأني به يقول إنها سرقة وأرض مغتصبة وهو ما أراه بعيني وما أجده من سلع في شارع دينار وأسواق البصرة:

معطف.. عشرين..

سروال.. قميص... حرير.

اشياء محرومون منها. خيراتنا كثيرة ونحن نعيش الحرمان أين كانت هذه السلع عن عيوننا. شهية الجائع لرائحة شواء تملأ رئتيه عن بعد وشخص معنا في الدائرة لم تعرف طفلته شكل الموز وهمس خشية من عقاب رباني لاراد له:

لايجوز حرام  حرام.

لاشغل لي ولاعمل. أختي الكبيرة حذرتني من أن أشتري أي شيء. حرام. كنت أذهب إلى العشار. أباشر الدوام، فأرى صور المنتصرين تتجسد في باعة سرقوا مخازن الكويت ومستودعاتها. أبناء شوارع وموظفون. وكتاب أعضاء في اتحاد أدباء البصرة. معلمون وأساتذة جامعات. عمال وفلاحون. كل يسرق حسب إمكاناته فالكويت مفتوحة مشرعة الأبواب وهناك من يصرخ في أعماقه بصوت خافت خشية من أن يسمعه أحد فتقع الطامة الكبرى على رأسه:

حرام! حرام!

 أين السراق والسندباد في هذه اللحظة. تبخروا. ضربات في الزبير تهز التنومة. كأن الحمم تنفجر في آذننا وليست هناك بعيدا عند الحدود. أختي تلوذ بي وابن أختي الصغير مهند يلوذ بأمه وأبيه. البصرة تغلي على نار. نار في السماء ونار من تحت الأرض يالها من مياه ساخنة فورة تنبع من الأرض فتشق جليد سيبيريا. هكذا هي الحرب الحقيقية. لا نحن نريد الرجوع إلى الحرب الإيرانية. مهما يكن فهي أرحم بكثير من هذا الجحيم كانت المدفعية الإيرانية أكثر دفئا وحنانا. ولم نر فيها جنديا يقبل حذاء جندي أجنبي ويرجوه ألا يقتله. من ير سكرات الموت يرض بالحمى:

ألم تقولوا انتهت الحرب فما هذا الصخب؟

كانت أمي في أحسن حال بعد توقف الحرب العراقية الإيرانية ربما استعادت بعض ذاكرتها التائهة في البحث عن أخي ساعدها في ذلك أن خطوط الهاتف استردت بعض عافيتها ففاجأنا أخي ذات يوم من ألمانيا. كنت في العمل وفي نية السيد القاضي أن يكلفني بحمل أوراق إلى بغداد. لكن أختي الصغرى تحدثت معه. قالت له إنها هي وأختي الكبرى اشترتا قطعتي أرض  في الحي الجامعي فوعدهما بالمساعدة. بعد رجوعي من العمل وجدت والدتي في ابهى حلة بشرتني أنها تحدثت مع أخي وصلت ركعتي شكر  لله. لم تحدث أختي الغائب البعيد بخبر اغتيال أبي لكن والدتي أكدت له أنه في العمرة، فمتى يعود الغائبان والحرب العراقية الإيرانية اندلعت من جديد: 

لا ياأمي لم تكن تلك حربا إنه طيران!

هل زحفت القوات الإيرانية؟

لا ليست إيران!

كأن ذاكرتها سطعت في إحدى لحظات الماضي فلم تستطع كبح جماحها:

لماذا يحاربون الخميني كان عهد الشاه عهد فساد والآن تلفزيون إيران تغير ليس هناك من مذيعة تظهر عارية!

إنهم إخوة. حدودنا مفتوحة أمامهم. والعجوز تظنها حربا مستمرة بين مذيعتين واحدة عارية والأخرى محجبة وتتساءل كيف يعود أخي. أين أنت يابريجنيف؟ اين هو الاتحاد السوفيتي. الثور الأحمر الثور الاسود... هل يجرؤون على ضربنا لو كان برجينيف موجودا  لكنه هذا الجبان غورباتشوف. اللعنة لم يبق لنا صاحب. سببنا الاتحاد السوفيتي حتى النخاع. وحاربنا إيران. هؤلاء  فرس مجوس يعبدون النار. فخامة الرئيس رفسنجاني. رجعنا إلى اتفاقية الجزائر والتزمنا بها وفق مارأيتم. انتهت العقدة إيران معنا. الرئيس رفسنجاني أصبح أخا ولم يعد الخميني دجالا. والفرس عنصر آري يطلب الغرب ثأرا قديما. فتوى واحدة تجعل إيران تهب معنا هبة رجل واحد، فليدخل الزوار إلى النجف وكربلاء وليزوروا العتبات المقدسة وقتما يشاؤون. نحن لانطلب منهم نقودا ومعونة. لو كان مع أحد هؤلاء الزائرين حبوب تعالج السكّر فالعراقي نفسه عزيزة لايطلب ولايشحذ نقودا إنما يريد علاجا لمرض السكر.

لم يتوقع أحد أن نقع في هذا الفخ الذي يظل يفرخ الموت كل يوم. عادت الحياة إلى طبيعتها وسألنا الله أن تكون حرب إيران آخر الحروب. مازلنا نأكل ونشرب ونحيا بسلام والرحمة لمن ماتوا. ولعلني كنت في أفضل حال. بعض الأحيان يكلفني القاضي وبعض المراجعين بحمل طلبات إلى بغداد فأحصل على أجور إضافية. أحيانا يتصل أخي في البيت فيلوح على وجه أمي السعادة. وكلما نجح في الاتصال بعد جهد لاح على وجهها فرح فلم تعد تتذكر إلا جلالاً وعودة أبي من العمرة. لاأنكر أن هناك بعض المنغصات فقد كنت أنا أو أي موظف تربطه علاقة بمهاجرٍ في الخارج عرضة للسؤال من قبل ضابط أمن الدائرة:

 

السفر الثالث / السجن

أنا عبد الله بن عبد الرحيم  أمي تفيدة وأبي عبد المعطي.

 نعم تغيرت الأسماء والصفات ويجب من الآن أن تتغير. قد يبدو الأمر غريبا لأي شخص يسمع حديثي. نحن في عصر المعقول واللامعقول. وماعلي إلا أن أسجل انطباعا جديدا حول اسمي خلال لحظات من دون أن أتململ فضلا عن أن أعترض. قبل أسبوع من هذا اليوم بالضبط كان أبي عبد الرحيم وأمي جميلة. لقد حدث ذلك يوم حضر أربعة غرباء إلى المحكمة حيث أعمل وكانت بيدي  وثائق كثيرة وطلبات عديدة ومستمسكات يمكن أن أصحبها معي فأسافر إلى بغداد مساء اليوم ذاته. هي المرة الأولى التي تكلفني فيها الدائرة بمثل هذا العمل. أناس كثيرون طلبوا مني أن أضم  وثائقهم مع كتب الدائرة إلى بغداد حيث المحكمة المركزية هناك.

كنت رأيت بغداد من قبل حين صحبني أخي الأكبر ذات يوم لكنها هي المرة الأولى التي يكلفني بها مسؤولو العمل في السفر ومتابعة معاملات المراجعين فأحصل على أجور عمل إضافية وعلى بعض المكافآت من أصحاب الطلبات تنفعني في وقت بدأ الحصار يكشر عن أنيابه فيه!

في اليوم السابع تغير كل شيء تماما.

لايهم أي يوم قد يكون ثلاثاء أو أربعاء فمادام اسم أبي وأمي  خاضعين للتغيير فربما لاتعنيني أسماء الأيام والشهور بعد. المهم أني بدأت أميل إلى الهدوء بعد ستة أيام من القلق والصراع وحين عدت إلى عملي ظننت أن الأمر انتهى فلم أقتل أحدا ولم أتابع أحدا من الرفاق ومن الطبيعي أن يميل مزاجي مع الوقت إلى الهدوء شيئا فشيئا حتى جاءني الآذن وأسر إلي همسا أن هناك أشخاصا ينتظرونني أمام باب المحكمة. سألته هل يعرفهم، فتطلع في عيني والتفت حوله كمن لايرغب أن يذيع سرا:

يقولون إنهم من الأمن!

سألته وعلامات الدهشة مع بعض القلق يبن على قسماتي:

كم عددهم؟

 اثنان

أمتأكد أنت أنهم من الأمن؟

هم قالوا ذلك.

ألم يخبروك لم استدعوني؟

فهز كتفيه غير مبال:

أنت تعرف الأمن!

 يا ألطاف الله لم يدخلوا غرفتي ولم يرغبوا أن يظهروا معي في الدائرة. هناك أمر خطير إذن وفي بالي أسوأ الاحتمالات. كيف تذكروني ومن وشى بي. خلال الأيام القليلة الماضية تحاشيت اللقاء بمن بقي من أهل التنومة، ولم يأت أحد منهم لمتابعة معاملة أو طلب أمر. كنت أعود من الدائرة في البصرة مباشرة إلى البيت أتجنب لقاء الآخرين. بعد لحظات معدودة يشيع خبر اعتقالي على ألسنة مجموعة من الموظفين ذوي الكروش الضخمة الفارغة التي تبتلع الطعام والكلام ثم تجتره كما يفعل البقر. مخلوقات تعيش لتأكل وتتكلم. لاتشبع قط... دجالون.... منافقون وقوادون. همهم الوحيد الكلام ولاشيء غير الكلام. ليس بالضرورة أن يكون معقولا. منهم من يجعلني خائنا وآخر يجدني فاتكا أعدمت بعملي الغوغائي عددا من الرفاق. هناك من يلصق بي تهمة اغتصاب، وسوف  تدخل وتخرج من غرفة إلى غرفة ذات زغرودة امتهنت الخدمة ووزعت العصير يوم احتل جيش الرئيس الكويت وهي تؤكد للموظفين بأغلظ الأيمان أني عميل وخائن ومشبوه.

أساطير كثيرة سوف تلحق بي وأنا في السجن!

وقصص مختلقة سوف تنطلق...

وأكاذيب لاأساس لها من الصحة...

هؤلاء الموظفون أعرفهم يذكرونني بين الفينة والأخرى بأخي الغائب البعيد. كيف هو؟ هل ينوي العودة؟ أين في المانيا أم السويد. كأن تقاريرمسؤول  الأمن في الدائرة وحدها لاتكفي، أما حدسي الآن فيذهب بعيدا. كان مسؤول الأمن يخبرني - شأنه كل مرة- أن أذهب إلى دائرة الأمن كلما خطر ببال أحدهم السؤال عن أخي ولعلهم يكتفون بتحقيق سريع روتيني  معي كل ثلاثة أشهر أو أربعة ويقتنعون بالمعلومات التي أدلي بها في الاستمارة الرسمية وأذيلها بتوقيعي!

وبالطريقة نفسها يحقق المسؤول مع أختي في محل عملها...

 أما هذه المرة فالتحقيق أخذ بعدا آخر!!

وموظفون من دائرة الأمن حضروا لاصطحابي...

أربعة رجال على مايبدو اثنان دخلا الدائرة يبحثان عني وانتظر الآخران على الرصيف المقابل عند سيارة بيجو سوداء. خلال دقائق كانت أمي تفيدة وأبي عبد المعطي. لم أر وجوههم من قبل لافي التنومة ولا في أي مكان آخر. كلهم عمالقة حتى يخيل لمن يراهم أنهم توأم في السحنة والشكل والطول:

تفضل معنا!!

هل هناك من أمر؟

ستعرف فيما بعد.

أشكال توحي بالريبة قسمات صارمة ووجوه تدل على الشر. رافقوني إلى أمن شط العرب. بقيت هناك نصف ساعة. فتشوني وكان في جيبي أربعون الف دينارا أعرضوا عنها ثم عصبوا عيني وشدوا وثاقي من الخلف. ونقلوني بسيارة أجرة إلى أمن البصرة. تشبت بأمل واه في أن تطول المسافة قبل أن نصل ومن اللحظات الأولى تيقنت  أن هناك من وشى بي أو اعترف علي. في دائرة الأمن ألقوا بي في غرفة تعج بالسجناء. حين قذف بي الحارس راح يضربني ويضرب الآخرين خبط عشواء  على أرجلنا ورؤوسنا وهو يزعق:

هنا أيها الخائن! هنا مكانك مع الخونة!

 وبعد أن غادر وأغلقت أبواب عرفت أنها ثلاثة بدأ الحاضرون يطمأنوني في أن أرخي العصابة عن عيني. ربما رأيت أشباحا ، ولعل هناك من قدم لي جرعة ماء قطرات فقط ننتظر ونتحدث همسا يلفنا الخفوت ونور مبهم انفلق من ضباب وظلام فكان أكثر قسوة منهما، أين تبخرت الحقول، وهل اختفت المراعي والبنايات والأسواق فجأة ثم كيف تسع زنزانة ضيقة مئات المساجين؟ لاشك أنه عالم عجيب أقرب للحلم من المحتمل أن أكون قرأت عن عن شبيه له في قصص ألف ليلة وليلة. سحر مزعج مخيف لاهو بالمظلم ولا بالمنير فكيف أميز فيه الأشياء لكني لابد أن استسلم للعجب فيبدو لي المكان الصغير المعتم وهو يلتهم الضوء الساطع في الخارج  مثل جرثومة لها القابلية على أن تلتهم ملايين البشر وتقضي على الناس والحيوان.

هكذا بدا لي ذلك المكان المعتم الذي رأيته ولم أره، وعلى بعد منا كنا نسمع صوت استغاثة وضرب. بريء.. أنا بريء... استغاثة وضرب... ثم توسل... صراخ... ثم فاجأنا بعد ساعة أو أكثر  أول  الأبواب بصريره الحاد فسارع الآخرون إلى عصاباتهم والتحمت عصابة على عيني مع الظلام والنور الخافت الضحل وحالما انتهى أزيز الباب الثالث الجاثم عند زنزانتنا حتى سمعت صوتا ينادي على اسم مامن الحاضرين ثم صاح:

عبد الله عبد الرحيم!

شد شخص ما وثاقي ودفعتني يدان إلى مكان ما. كنت أتحاشى أن أتعثر أو أسقط فأتعرض للضرب وقد وجدت صعوبة ما في حفظ توازني وأنا موثوق اليدين من الظهر ومعصوب العينين:

عبد الله عبد الرحيم

نعم  أنا

إنهم ينتظرون مني زلة لسان ليقذفوا بي في أعماق ذلك الوحش الرهيب:

أمك تفيدة وأبوك عبد المعطي؟

كلا ليس هذا

فاجأتني ضربات من جميع الجهات. رشقات قاسية بأنابيب من البلاستك والعصي. انهالت فجأة وتوقفت فجأة، وانقطعت الحركة بضع دقائق فلم أسمع إلا همهمة تصدر عن بعد صعب علي تحديده وعاد الشخص ذاته يسأل:

لعبد الله بن عبد الرحيم!

نعم

من أهل التنومة!

نعم

بيتكم قرب البريد ودائرة الأمن ومقر الفرقة.

نعم

أمك تفيدة وأبوك عبد المعطي!

نعم

صفق الحاضرون واقترب مني أحدهم قائلا:

فهمت ماذا نريد؟

نعم!

قل لي ماذا فهمت؟

أن اقول الصدق من غير لف ولادوران!

وجاني صوت من جهة أخرى غير الأول الذي كان يسألني عن قرب:

إذن  اعترف

وواصل قبل أن يسمع مني أي رد:

اعترف أفضل لك سوف توفر علينا الوقت وعليك الجهد.

عماذا أعترف.

أنت خائن؟

ماعلي إلا أن أواجهه بالإنكار:

لست خائنا.

 اعترافك منذ البداية يوفر لنا ولك الوقت والجهد ويخلصك من عذاب ويخفف عنك حكم الموت.

وعاد صاحب الصوت عن بعد يعقب:

اسمع كلنا نخطيء والخطأ ليس عيبا لكن الجريمة الكبرى حين ننكر الخطأ وهو الأمر الذي يؤدي بنا إلى التهلكة وإلا فهناك عدد من الخونة الذين تابوا ونعموا بالعفو فكانوا بعد ذلك مواطنيين صالحين!

الاعتراف يعني الموت أم هناك من أدلى بمعلومات  عنيّ.... . لاأشك في نشوان قط فهو أبعد من الظنون، فمن رآني أعبر الشارع  خلال يوم الغليان أو أحرض غير أني لم أحضر من مراسم القتل سوى مصرع راجي المزروع، قد يكون هناك من ميز صوتي وأنا أذيع مرسوما من سماعة الجامع يدعو الجند إلى  الاستسلام ومن هن هؤلاء النسوة التسع اللائي يذكر المحقق أنهن كتبن علي التقرير. في البدء خشيت أن تكون هناك وشاية أخرى صدرت من شخص ما بحق صهري  وسوف تكون تلك كارثة لو جاءت وشاية من أحد تخص أختي فتتعرض مثلي أو أكثر إلى تعذيب جنوني وهتك عرض. لاأشك أنها كذبة أو استدراج فذهني مشغول عن ذكر الرجال ضعاف النفوس ممن ينهارون تحت التعذيب فضلا عن النساء. لاأشك أنه استدراج. فخ:

لكن ليس عندي شيء أقوله!

علقوه !

انتشلني من وقفتي رجلان رفعاني إلى أعلى فوق طبلة نحو حافة باب يبدو أنه كان مفتوحا. ماعلي إلا أن أتخليه بهذه الصورة وأتخيل رجلي على طبلة أو منضدة صغيرة، فلو كان سقفا لأدركته من خلال الفراغ خلف ظهري، الرجلان علقاني على حافة الباب فالتمست فقراتي صلابته وماهي إلا لحظات حتى أزاحا الطبلة من تحت قدمي. بدأ الضرب ينهال علي:

اعترف! اعترف!

ثانية!! والاعتراف يعني الموت. تدخل بنفسك في حضيرة وحش كاسر فاتح شدقيه تجاهك لاتعرف بأي عضو من أعضائك يبدأ. الاعتراف الموت... السم:

ماعندي شيء!

ثم يعودون إلى تعليقي بالطريقة السابقة نفسها. العملية دامت ساعتين بين ضرب وتعليق. علقوني ثلاث مرات. آخر مرة تركوني مرميا على الأرض. بعد عشر دقائق رجعوا إلي. كانوا كلما رأوني على وشك الانهيار أنزلوني وباشروا بضربي على الأرض. سألني أحدهم:

أمصر أنت على الإنكار؟

الإنكار نعم وماذا غير الإنكار إذ أني لم أفعل شيئا. أحس أني وحدي في هذا الموقف. النكتة ابتعدت عني. السينما هجرتني الجامع تركني على حافة الباب. البلاغ العسكري وحده في الذاكرة. سأقول إني خرجت إلى الشارع لأرى جنودا مدججين وأناسا حملوا السلاح وأنا وحدي غير مسلح بسبب المرض والعياء:

لكن على أي شيء أعترف وأنا لم أقترف ذنبا!

انبرى صوت رجل عن بعد :

أنت مسؤول إذاعة شط العرب!

أولاد الذين... لابد أن شخصا وشى بي أو وجدوا مستمسكا ما،ولابد أن تكون تلك السماعة القديمة بلاقطتها الضخمة ذات سمعة مخيفة ورهبة حقيقية ارتجت لها سجلات الأمن لكن لأراهن على أمل ضعيف فالاعتراف يعني الاعدام، ويؤكد أيضا جريمة صهري ونشوان العامود وآخرين...

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد: 1585 الثلاثاء 23 /11 /2010)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم