صحيفة المثقف

الرثاء في الشعر العراقي المعاصر: قصيدة "شاهدة قبر من رخام الكلمات" ليحيى السماوي أنموذجا

(يحيى السماوي)

(شاهدة قبر من رخام الكلمات)

 

(إن ثمة شيئين لا يمكن أن يحدق فيهما المرء: الشمس والموت)

(لاروشيفوكو)

 

(إذا أردت ألّا تخشى الموت فإن عليك ألّا تكف لحظة عن التفكير به)

(سنيكا)

 

خاطيء ظن من يعتقد من النقاد أن الخنساء قد أقفلت باب فن الرثاء بقصائدها العصماء التي رثت فيها أخاها صخر – وفي بطانة هذا الرثاء تلوب شحنات التثبيت المحارمي – أو أن الهذلي قد قدّم الأنموذج الذي لا يُبارى في قصيدته التي يرثي بها أولاده / فلذات كبده. في العراق، سيكون فن الرثاء هو آخر فنون الشعر التي ستنطفىء جذوتها، إذا افترضنا جدلا أن هناك ما يمكن أن ينطفيء من الشعر الذي – بخلاف أطروحات الحداثة - لن يموت إلا بموت الإنسان الأخير على وجه المعمورة. في هذه البلاد ؛ العراق، خلق الله الإنسان وهو يبكي، وهذا الوصف قلته في مقالة نشرت في عام 2002. على هذه الأرض، وبخلاف كل البشر في أرجاء المعمورة خُلق الإنسان الأول من طين ودم، وليس من طين وماء.. أُخذ الدم من عروق إله حزين منكسر ومقيّد. وفي بلاد سومر، كانت في كل حي مجموعة من النسوة يسمين بـ " الندّابات " يدرن من بيت إلى بيت في أوقات العزاء يهيجن الأحزان ويستثرن الدموع ويلهبن اللطم على الصدور. ولم تلقب هذه البلاد بـ " أرض السواد " لكثافة غابات نخيلها، بل لرهبة ذاك البدوي المصور وهو يقترب منها مما سمعه واختزنه عن فاجعاتها وظلمات عذاباتها. وإلا فقل لي يا " يحيى السماوي " لماذا لم يُطلق هذا الوصف على عشرات ومئات الأمصار والبلدان التي فتحها العرب وكانت فيها غابات كثيفة من الشجر من كلّ نوع وجنس ؟؟ يحيى السماوي.. يقدم الجواب الشافي في واحدة من عيون قصائد الرثاء في الشعر العربي - قديمه وحديثه -: " شاهدة قبر من رخام الكلمات ". قصيدة يرثي فيها أمه التي، وبفعل إنثكاله المرير بها، أهدى ديوانه الذي يحمل العنوان نفسه * إلى روحها: " إلى روح الطيبة أمي وقد غفت إغفاءتها الأخيرة قبل أن أقول لها: تصبحين على جنّة "، وبهذا الإهداء ختم السماوي على باب الديوان بشمع الأسى الأسود، وأغلق أبواب وشبابيك النص ليجلس في ظلمة الإنكسار.. في وحشة منفاه باستراليا.. وفي بيت الديوان المظلم جاءت كل القصائد عبارة عن مرثية طويلة مدمّرة، لم تسلم منها حتى قصائد الغزل وستكون لنا وقفة في هذا الجانب. وقصيدة الرثاء هذه: " شاهدة قبر من رخام الكلمات " * هي من قصائد النثر.. ومن الافتراضات الأساسية التي أنا مقتنع بها بشكل عام كقاعدة هي أن قصيدة النثر لا تصلح للرثاء بسبب فقدانها للإيقاعية المطلوبة لنواح النفس البشرية الحزين، وبسبب لعبها الذهني على الصور حيث نحتاج مسافة عقلية تسبق الإنفعال المحتبس فتجهضه. لكن لاشيء مستحيل، ولنقل عسيرا على الشاعر الكبير المقتدر. كسر يحيى هذه القاعدة، مثلما كسرها " جواد الحطاب " في قصيدته النثرية " استغاثة الأعزل " الهائلة التي رثى بها الشهيدة " أطوار بهجت " والتي نشرت دراستنا عنها في صحيفة " الزمان ". لكن قصيدة

السماوي ليست نشيج روح ممزقة يركبها الشعور بالإثم المبرر لأن الأم العظيمة رحلت كسيرة في السماوة، فقد طوى الجزيرة.. أي جزيرة ؟؟.. طوى خبر موتها القارات ليصل ابنها في منفاه في استراليا. وفي العراق، وكلما أراد الإبن التحرر من الرابطة الأوديبية المكينة المغلفة بالحنان البريء الخانق للأم.. تصيح الأم: إذا سافرت.. وتغربت.. من الذي سيدفنني ؟؟: (آخر أمانيها: أن أكون... من يُغمض أجفان قبرها... آخر أمنياتي... أن تغمض بيديها أجفاني... كلانا فشل... في تحقيق.. أمنية... متواضعة – ص 12و13). هذه القاعدة في العراق شذّ عنها السماوي مكرها ؛ هو الذي أفلت من منجل الطغاة المجتث الأعمى بأعجوبة. لكن لا تبرير ولا عقلنة يمكن أن تطفئ الإحساس بالذنب تجاه مخلوقة هي سبب الوجود: (لي الآن سبب آخر.. يمنعني من خيانة وطني: لحاف سميك من ترابه.. تدثرت به أمي.. ووسادة من حجارته.. في سرير قبرها – ص 7). وحين تبحث في سيكولوجية الخونة تجد دائما ثغرة جارحة في العلاقة بالأبوين، الأم خصوصا، وليس معنى ذلك أن كل من تربطه علاقة سيئة بأمه يخون بلاده، لكن كل من يخون بلاده، في الغالب، يركبه، منذ الطفولة المبكرة، خلل عميق مختزن في أعماق اللاشعور. ألا يُقال أن توظيف العملاء يقوم دائما على محاصرة الفرد بإغواء المال والمرأة ؟!. الولاء اللاحق للأوطان / الرحم يتأسس على ويأخذ معانيه من الولاء السابق للأمهات. والسماوي حين يقدّم سببا مضافا لولائه المستميت لتراب وطنه المقدّس / التراب الذي احتضن جسد الأم الطهور في عودة مباركة إلى الرحم الأكبر، فإنه إنما يقرّر حقيقة أن الأرض / الرحم الأكبر / الأم الكونية / البلاد

التي احتوت جسد أمه، هي إنما تضم الأرض التي بذرت فيها بذرة وجوده، والرحم الأصغر ماديا لكن الأكبر بمعانيه الرمزية الكونية.. فهو الأرض.. والخصب.. والطبيعة.. والكون.. والحياة.. والوطن الذي صار يحيى الآن – وكما يقول - مدينا له حتى الموت، ولعل هذا من عوامل موقفه الصلب الرافض للإحتلال. إذ كيف يتحمل أحدنا أن يدوس حذاءٌ غاصبٌ الترابَ الذي يضم جثمان أمه. ولاحظ أننا نصف الإحتلال بالإغتصاب مثلما نصف حال المرأة التي تُفترع كرها رغم إرادتها. وسنلاحظ أن القصيدة في مبناها، ومنذ مقطعها الأول هذا، مصوغة بلغة غنائية شفيفة، بسيطة لكن ليست سهلة بحيث تقع في دائرة الإبتذال. هذه اللغة انحدرت إلى مسرى قصيدة النثر من عطايا ينبوع مهارات الشاعر في القصيدة العمودية (لذا أقول على كل شاعر شاب أن يتمرس في العمود قبل أن ينغمس في تيار قصيدة النثر). الشاعر يدرك أن الرثاء لا يمكن أن يتحمل ألعاب قصيدة النثر الملغزة والشائكة. حين أقرأ مقطعا يتحدث عن أمي الراحلة وأفكر دقائق كيف أنها " الوضوح الأزرق المنبعج في بحر آثام اللازورد "، فإن فسحة التفكير الذهني هذه ستجهض العاطفة المحتبسة التي تكاد تطفر من العينين الغائمتين. ولذلك صاغ السماوي وبذكاء مرثية سيبكي لها كلّ مثكول قادر على القراءة وكل من لا يستطيع القراءة ويسمع بهدوء وانتباه مناقب أم عراقية – وأؤكد عراقية – حيث " يسرد " الشاعر سمات ومآثر هي سمات ومآثر أمهاتنا جميعا، أو هي خلاصة مركزة لمناقب أم اسمها فاطمة (إسم أم الناقد) أو السماوة أو العراق، ولكن ليس سدني أو استراليا قطعا ؛ أم عراقية جلدها مطرّز بالشذر ؛ جلد يتلون بألوان الطبيعة لكثرة تماهيها معها، فهي أمها وابنتها، كما أن دمها يصطبغ بصبغة واقعها المرير المعيش، واقع خسارات العراق الباهضة، فالأم العراقية هي عبر تاريخ هذي الأرض، مصدر حضاراتها، وسرّ ديمومتها. كلّ الأفكار الأولى في أي حضارة جاءت من المرأة / الأم، وكلّ الإسهامات التي يقدمها الرجل لحركة البشرية تأتي من أفكار يوحي بها الحضور الأنثوي الأمومي الآسر: (جلدها المطرّز بالشذر.. لا تجري تحته قطرة دم زرقاء.. قد يكون لون دمها أحمر.. لكثرة ما شاهدت.. من دم على الأرصفة.. أو أخضر.. لكثرة ما حملت من عشب..

أو أصفر.. لكثرة ما طحنت من سنابل.. وخبزت من خبز.. أو أسود.. لكثرة ما حدّقت في ظلام العراق – ص 30). هذه الصبور كانت ومازالت عبر تاريخها ضمانة حاضر العراق ومستقبله، ولو أريد للعراق المحطم الآن، والذي مزق نسيجه الاجتماعي شرّ ممزق، أن يستعيد عافيته، فإن المفتاح الأول لتحقيق ذلك يتمثل في إعادة الإعتبار إلى الأم كإله غير متوّج. فعلى خطوط وجه أي أم عراقية تستطيع قراءة مسارات محن هذا الوطن، وفي تلافيف عباءتها السوداء ترتسم انكساراته وصور محنه وخذلانه: (عباءتها الشديدة السواد.. وحدها اللائقة علما لبلادي.. فيها كلّ تفاصيل الوطن – ص 33). لقد كانت عفّة ذاك الجيل من الأمهات – ومنهن أم الشاعر – مطابقة لعفة نبي وزهد قدّيس وترفّع متصوف. لم يكنّ يعرفن سوى محبة أولادهن.. والإخلاص لدورهن كأمهات حاميات حد الفناء.. كنّ في بذلهن طبيعة.. نعم طبيعة مقهورة لكنها معطاء ومتسامحة ولا تردّ أحدا، هل رأيت شجرة سدر تردّ طالبا جائعا ؟ هل عرفت نخلة يهزها محروم وتتمنع عليه بثمرها ؟. لقد خلقت أم يحيى لتعطي.. ولتعطي بلا توقف حتى الموت: (ذات شتاء.. والجوع يمصّ دمنا: طرق بابنا سائل.. أعطته حزمة حطب.. وصحنا من الدعاء الجميل – ص 31). وهذه ليست فذلكة شعرية، إنما هي واقع مؤصل ؛ صفة سلوكية راسخة في سلوك الأم العراقية، ففي ظل سنوات الحرمان والعوز تلك كانت لدى الأمهات، بل كل العراقيين فلسفة في العطاء، فلسفة الفقير في العطاء دين كامل ويوتوبيا غير مفهومة من قبل الفلاسفة المتمنطقين الذين يندهشون حين يرون الفقير يترك باب بيته مفتوحا، في حين أن كل قطعة فيه مهما كانت تافهة هي في أهمية أغلى مقتنيات أي ثري مرفّه حد التخمة.. فأولا من أين يأتي ببديل عنها لو سرقت؟ وثانيا – وهو الأهم – فإن كل قطعة تافهة لم يحتفظ بها إلا لأنها تمد في بقائه.. أي أن السرير.. والغطاء..2077

وكوز الزيت.. والفانوس.. هي مسألة ترتبط ولو بدرجات متفاوتة بمسألة الحياة والموت. فكيف تعطي الأم المحاصرة بالحاجة المذلة ؟؟ أمهاتنا سيدات فلسفة العطاء.. هنا فلسفة كاملة في النظر إلى " قيمة " الشيء المادي الذي يصبح الثري الجشع عبدا له: (سواء أكانت داخل البيت أم خارجه.. تترك الباب مفتوحا.. رغم أن الذئاب.. لم تتخلّ عن أنيابها.. ليس لأن أثاث البيت.. لا يساوي سعر القفل.. إنما.. لأنها تؤمن: أن العسس هم اللصوص... في الوطن المخلّع الأبواب – ص 31). أي أن عطاءها الغامر والمضحي يُمتحن في وطن يأكل آلهته.. ويكلل جباهها بالرماد.. فيضاعف من عذابها.. لقد عوملت عند مماتها كإله مخلوع في أفضل الأحوال.. إن لم يكن أسوأ من ذلك وابنها المثكول يتفرج منكسرا من بعيد.. بعيد.. بعيد.. على الكيفية المتصوّرة شعريا وفعليا التي احتفى بها محبوها الفقراء بنقل جثمانها إلى مستقره الأخير.. كانت محاطة بمخلفات الحروب التي اصطنعها من كانت تمقتهم: الطغاة، اليتامى.. وشقيق معاق بساق اصطناعية.. وشقيقتان أرملتان.. كانت تكره الطغاة بالفطرة.. بسليقة الأمومة.. فلا أم تحب الحروب.. بل لا امرأة أبدا.. كيف ترضى أم أن يُقتل أولادها ؟؟ والأم إذ تكره الطغاة فإنها تحيا معادلة غريبة هي أنها عبدة لمحبة أبنائها.. وخادمة لنمائهم.. ثم أن أولئك الطغاة الذين تكرههم لم يوغلوا في تحطيم توأمها.. الطبيعة.. الأرض.. الوطن حسب، بل شرّدوا ابنها يحيى إلى الأبد.. حدّ موتها.. وأكثر هؤلاء الطغاة سفالة تحمل نعوشهم العربات وتُعزف لهم المارشات وتطلق من أجلهم إطلاقات المدافع ؛هم المتخصصون بالحروب التي تلتهم الأبناء، في حين يُحمل نعش الأم على سيارة أجرة في جنازة يتيمة كسيرة ؛ هي المتخصصة في صنع السلام الذي تترعرع في ظله الحياة والآمال والأبناء: (لم تحمل نعشها عربة مدفع.. ولم يُعزف لها مارش جنائزي..

القروية أمّي.. لا تحب سماع دوي المدافع.. ليس لأنه يُفزع.. عصافير نخلة بيتنا.. إنما.. لأنه يذكّرها بـ " جعجعة القادة ".. الذين أضاعوا الوطن.. وشرّدوني.. تكره أصوات الطبول.. (باستثناء طبل المسحراتي).. نعشها حملته سيارة أجرة.. وشيّعتها: عيون الفقراء.. العصافير.. ويتامى كثيرون.. يتقدمهم شقيقي بطرفه الإصطناعية.. وشقيقتاي الأرملتان... وجدولان من دموعي – ص 10 و11). جمهور الأم الراحلة المعزّي هو الفقراء أولا.. هؤلاء هم الذين يعرفون قيمة الأمومة الحقيقية.. الحرمان من الأم هو الفقر الأكبر. هؤلاء ترتبط ذكرى الدور الأمومي لديهم بالحرمان فيتدعم المضمون الإنقاذي للحضور الأمومي، لكن الرفاه والتخمة الطفلية المادية تضعف هذا البعد: (آه... من لملايين الفقراء... المرضى.. المشردين... وكل من كانت الطيبة أمّي.. تطعمهم كلّ يوم.. خبزا دافئا من تنور دعائها... بعد كلّ صلاة ؟ - ص 27و28). أما القسم الثاني من المشيعين الذي لا يقل أهمية وغرابة فهو العصافير. وليس عبثا أن تتكرر ثيمة تعلق الأم بالعصافير وتعلق العصافير بها لأنها الأكثر إيحاء من

 

الناحية الدلالية اللاشعورية.. فالابن المثكول، ومهما كانت درجة رشده، يبقى محتفظا بذاك الطفل / العصفور الذي كانه.. وما زواجنا وإنجابنا إلا محاولة لاستعادة تلك العناية التي كنا نتمناها في طفولتنا كعصافير مغدورة.. عناية يفرضها الطفل الذي لم يشبع من ذاك الثدي المنعم المطعم.. وهو لن يشبع نفسيا من موضوع الحب الأول أبدا.. أبدا.. وسيبقى هذا الحرمان المستديم متمظهرا في ما نسميه النرجسية الجريحة التي ما هي إلا تكوين ضدّي.. وسيبقى ضاغطا يدفع الإبن إلى الإيمان بأكثر الطرق سحرية - تصوّر بعدي لأفعال سابقة – حول فعل الأمومة.. وأعتقد أن الأم الأولى هي التي ابتكرت " علم " السحر قبل آلاف السنين وهي راكعة قرب مهد وحيدها المريض.. ثم تسلّم الذكور " علمها " آنذاك فأساءوا استخدامه مثل كل منجز عشتاري وقع بين أيديهم الماكرة.. والشاعر يحيلنا إلى تحليل فريد لعملية مماهاة الأم بالطبيعة.. فمن الخطأ مثلا القول أن الفعل الإخصابي للأم مأخوذ من الأفعال الإخصابية للطبيعة.. هذه خطيئة تحليلية كبرى عالجناها في مخطوطة كتابنا " تحليل أسطورة الإله القتيل ".. فمن جسد الأم أخُذت الأطر التفسيرية والمصطلحات الرمزية لتأويل أفعال الطبيعة الإخصابية وليس العكس ؛ لم ينتظر الإنسان الأول رؤية المطر الهاطل من السماء يعانق الأرض ويخترقها ويخصبها كي يشرع بعمله الجنسي ويمنحه رمزيته، ولم تنتظر الأم الأولى رؤية حبة القمح وكيف تنغرز في رحم التربة وتنمو لتسم الإله الإبن بإنه الإله القمح. لقد أسقطت معاني فعلها الإخصابي على الطبيعة.. على دورة القمح.. وكفرضية: أليس تصميم الوظائفية الأمومية الإخصابية (استقبال البذرة الذكورية في تربة الرحم الأمومي ورعايتها إلى نبتة / جنين، فوليد، يهيؤها عقليا ونفسيا لاختراع أو ابتكار الزراعة ؟؟.. لكن ليس من أفعال الخصب العشتارية أن دعاء الأم يفك حبل المشنقة عن رقبة الإبن.. هذا دعاء أم يحيى الذي أنسنه وشخصنه الشاعر: (دفء أمومتها.. وليس حطب موقدنا الطيني... أذاب جليد الوحشة.. في شتات عمري.. رائحة يديها... وليس نوع الحنطة... جعل خبزها.. ألذّ خبز... في الدنيا...

دعاؤها... وليس الحظ... أبعد الحبل عن رقبتي – ص 24 و25). لم تكتفِ هذه الأم العظيمة بأن تلد الشاعر وتمنحه أسباب الحياة مرة مثلما يحصل لأي واحد منّا.. لكنها منحته امتيازا ثانيا مضافا واستثنائيا.. فقد أنقذته من الموت الفعلي.. الموت شنقا.. وبذلك ولدته مرة ثانية.. وهكذا يكون الشاعر من القلائل الذين يولدون مرّتين !!. هو عصفورها الذي منحته عمرين متجددين.. الأمومة ثابتة والأبوة متغيّرة.. مهنة الأمومة الرعاية والعطف سواء أكان ما يقع بين يديها إبنا أو حبة قمح أو سنبلة أو عصفورا.. كلّهم أبنائي شعار الأمومة وليس الأبوة.. وأبناء الأمومة كل مكونات الطبيعة.. خصوصا الصغيرة / العصفورية منها التي بحاجة إلى العون والرعاية: (حين أزور أمّي... سأنثر على قبرها... قمحا كثيرا... أمي تحب العصافير... كلّ فجر: تستيقظ على سقسقاتها... ومن ماء وضوئها.. كانت أمي.. تملأ الإناء الفخّار قرب نخلة البيت.. تنثر قمحا وذرة صفراء... وحين تطبخ رزّا... فللعصافير حصتها... من مائدة أمي – ص 19). وحتى بعد موتها، فإن هذه الام العظيمة تبقى مهمومة بمصير العصافير الهشة المسكينة وهي تواجه شظايا الحروب والإرهاب الباشطة بأجسادها الصغيرة: (الطيّبة أمّي.. ما عادت تخاف الموت.. لكنها... تخاف على العصافير... من الشظايا...

وعلى بخور المحراب... من دخان الحرائق... والأمهات اللائي... أنضب الرعب أثداءهن – ص 18 و19). وهذه لعمري مداورة نفسية ماكرة من العصفور المستديم الذي أصبح شاعرا وفقد الآن خيمته الحمايوية التي كانت غيمتها تزخ في أعماقه أمطار العافية والأمن رغم بعده عنها. والعناية التي قدمتها الأم الحنون للعصافير في حياتها، ثم انهمامها بها بعد موتها، هو الأنموذج المرغوب اللائب في دواخل الإبن وقد أصبح أبا. ففي رثائه لها يسلك مسارات " مصلحية " نفسية تحت أستار الالتحام بفجيعتها.. التحام مابعدي.. فهو إذ يعرف سحريا أو شعريا – لا فرق – مدى انشغال الأم وهي في قبرها بحال العصافير المسكينة وهي تواجه الشظايا التي لا ترحم، فإنه يمرّر مماهاته نفسه بها.. بهذه الكائنات العزلاء.. مثلما يتشكل هدف ندائه الباطن.. نداء زاجر ونافد الصبر يحرص على مصلحة الأم بعد موتها: (وأنتم أيها الهمجيون... من متحزّمين بالديناميت... وسائقي سيّارات مفخّخة.. وحملة سواطير وخناجر... كفى دويّ انفجارات وصخبا... الطيّبة أمّي لا تطيق الضجيج... فدعوها تنام رجاء – ص 18). ولو لاحظنا مفارقة الطلب الملتمس الختامي من مجرمين قتلة بعد بداية صارمة شديدة الحزم.. فسوف نتأكد من انكشاف النكوص العصفوري إذا جاز الوصف الذي ظهر حييا ومغيّبا تحت أردية الشعر الخلّابة الكفيلة بتغييب انتباهتنا النقدية، ويساعد على ذلك تماهينا مع الشاعر المثكول، فلا موضوع مثل خسارة الأم يمكن أن يثير تعاطفنا ويستفز قلق الخسران الكامن بما يرتبط به من مشاعر أمان.. والأهم ذكريات طفلية تبقى هي الصورة المثلى لحياة اعتمادية رخيّة تمثل الأنموذج المكافئ الأمثل للحياة الرحمية الفردوسية.. حياة اجترها الشاعر من مخزون أحشاء ذاكرته.. اجترها لأن لاشعوره يرفض هضمها والخلاص منها نهائيا فهي من مقومات وجوده الظلامي الباذخ.. هذه الحياة عبّر عنها الشاعر ببلاغة تفصيلية تهيج جراحات تثبيتنا التي ندّعي الإبلال منها تنفجا: (في صغري...

تأخذني معها إلى السوق... وبيوت جيراننا... حتى وأنا في مقتبل الحزن... لا تسافر أمّي إلى كربلاء... إلا وتأخذني معها... أنا عكازها... وفانوسها... وحامل صرّتها المليئة... بخبز العباس... والبيض المسلوق... وإبريق شاي الزهرة... فكيف سافرت وحدها للقاء الله ؟؟... ربّما... تستحي من ذنوبي !... آه.. من أين لي بأم مثلها... تغسلني من وحل ذنوبي... بكوثر دعائها... حين تفترش سجّادة الصلاة ؟؟ - ص 20 و21). وهو في مرحلته الراشدة الآن، وضمن سياق حداد ذاكرته الإستعادي يسترجع بعقلية تفسيرية " بعدية " حتى اللمحات الطفلية الغائرة في عمر الزمن، ليمنحها بعدا إدراكيا مكفّرا يتكفل الشعر بإخراجه، وتشكل هذه الاستعادة جزء من عملية تفريج غمة الإحساس بالإثم: (يوم صفعتني.. بكيت كثيرا.. ليس لأن الدم.. أفزع الطفل النائم في قلبي.. ولكن: خشية أن يكون وجهي الفتي... آلم كف أمّي – ص 25). وهذه الإستعادات الذاكراتية الآسية تمرّر تحت غطاء الحداد، الإحتفاء الحسّي بجسد الأم، كطبيعة مصغّرة الآن، لكنها طبيعة ذات طبع خارق، تجتذب النحل بالإيهام وتتسامح مع لسعاته. هي حقل متنقل.. بستان البيت الذي يغوي الفراشات بالإقامة

الدائمة، لذلك نصف الأنوثة دائما بأنها " الإنسان ضمن الطبيعة – humanbeing among nature "، في حين نصف الذكورة بأنها " الإنسان ضد الطبيعة – humanbeing against nature ": (مرّة.. لسعت نحلة جيد أمّي... ربما.. ظنت نقوش جيدها ورودا زرقاء.. لتصنع من رحيقها عسلا.. خضرة عينيها... أغوت الفراشات للإقامة.. في بيتنا الطيني – ص 26). التساؤل السابق عن أن الأم المختطفة من قبل أخّاذ الأرواح / ملك الموت قد سافرت وحدها للقاء الله لأنها تستحي من ذنوب الإبن، هو جزء من تخريجات تحاول يائسة التخفّف من الشعور بالهجران والإنخذال، فلابد من أن " يعقلن " الإبن عملية الإنثكال بأعز ما لديه والتي جرّده فيها المثكل من أية علامة اقتدار على الفعل الإنقاذي المتخيّل.. وبالمناسبة فإن " مقلوب " هذا النزوع اللائب في اللاشعور، هو الذي دفع مؤرخي الأساطير إلى اعتبار دموزي / الإله الإبن منقذا، وهو الذي جعل أكثر الشعوب تحتفي بالإله الإبن المنقذ، في حين أن الإنصاف التحليلي العلمي يفرض، وبلا لبس، الإحتفاء بالإلهة عشتار كمنقذ.. المخلّص بالنسبة للإبن ليس المسيح أو المنتظر، بل الأم.. ويتساوى بالنسبة للشاعر دورها الإنقاذي قبل وبعد الموت، فـ: (قبل فراقها: كنت حيّا... محكوما بالموت.. بعد فراقها: صرت ميتا... محكوما بالحياة – ص 8). إنها القادر الذي يستطيع قلب معادلات حياة الابن حتى لو كان ميتا. وذلك لأن النزعة الخلودية تتأسس على قوى اللاشعور الذي لا يقر بالفناء أبدا، والذي يتجاوز في فعله أطر الزمان وتحديدات المكان، ولا محل للغرابة من التناقضات التي تسود بين مكوناته، بل إن التضاد من سماته، وفي عوالمه تطفو منعمة صورة الأم المنقذة

العصية عن الفناء، ومنها تشتق كل النزعات الباحثة عن الخلود في نفس الإبن كجهد مواز للديمومة الأبدية التي يترعرع في أحضانها موضوع الحب. ولذا وحتى بعد موت هذا الموضوع فإنه يفنى في الخارج في حين يمضي مفعما بالحياة في الداخل، يرعى الإبن المثكول ويحرص عليه عبر هذا الرباط السري الذي لا يعرفه سوى لاشعور الإبن: (مذ ماتت الطيبة أمي... لم أعد أخاف عليها... من الموت... لكنها بالتأكيد... تخاف الآن عليّ.. من الحياة – ص 22). والشاعر يعبّر عن هذه المعادلة المربكة بصورة مقتدرة والتفافية أعدها من نفائس التعبيرات الأدبية التوروية عن قواعد عمل اللاشعور، الذي يحوّل موضوع الحب الأثير الحاكم في حالة فنائه من الوجود الخارجي العابر، إلى المستقر الخلودي في الوجود اللاواعي الداخلي، ألم يقل معلم فيينا أن الشعراء أساتذتي ؟؟ وبهذا وحده نفسّر سبب عدم خوف الشاعر على أمّه من الموت بعد موتها، فإذا قررنا أن ذلك ينبع من ثقته أنها رحلت مرة واحدة وإلى الأبد نكون كمن يفسّر الماء بالماء ويقدم فهما بالغ السذاجة لا يكافئ الناحية النفسية الإقتصادية من جهد الشاعر: (اليوم.. سقطت حفنة أوراق.. من شجرة مخاوفي: أمي لن تمرض بعد الآن.. لن تشقيها غربتي... لن ترعبها أسئلة الشرطة عني... وأنا... منذ اليوم: لن أخاف عليها من الموت... أبدا – ص 27). وهذا تقرير حال مدمّر قد يجعل القاريء المأخوذ بالفجيعة المشتركة يعتقد أن هذا الوضع الشائك الملتبس قد خلقه حال يحيى المنفي المعذّب وهو يرى من أقاصي الدنيا ضياع منقذه من دون أن يقوى على أي درجة من الفعل الإنقاذي الذي ألصق

به عبر التاريخ.. أين دموزي وحركاته الإنقاذية الخارقة ؟؟.. لقد سحبته خنازير العالم الأسفل بلا رحمة وكان يبكي ويتوسل بأخته / بديل أمه أن تنقذه وتخلّصه من شياطين (إريشكيجالا) التي قطعته إربا ودقّت المسامير في أطرافه (تتكرر حكاية المسامير مع المسيح !!). لكن السماوي لا يتردّد في وضع النقاط على حروفها النفسية ويعلن بلا تردّد عن أنه كسير محطم بحاجة للإنقاذ من أعظم قوة إنقاذ في الوجود.. هكذا رسم صورتها اللاشعور حتى لو كان لاشعور شاعر مهم وأب لأربعة أبناء: (لماذا رحلت ؟... قبل أن تلديني يا أمي... أدريك تحبين الله... ولكن: أما من سلالم غير الموت... للصعود إلى الملكوت ؟ - ص 9). وتحت أردية الخطاب المعاتب للأم في رحيلها " الغادر " الغير مبرّر بالنسبة للإبن حتى لو كان من أجل ملاقاة الله.. تُمرّر الحفزات التحرّشية التي تحفظ للشعر بهاءه الأقصى... ويبدأ التحرّش دائما بالتساؤلات التضحيوية المفروغ منها.. وهي أشد أشكاله لؤما.. فالإعتراض الذي يأخذ شكل تساؤل " بريء " عن سرّ الحكمة التي تقف وراء خطف الفقيد تشبه، حين تلبس لبوس الشعر الاستعاري على يدي يحيى، صرخة الام المعاتبة الجارحة التي فقدت ولدها: " ليش أخذته ؟؟ ". لكن التعبير الشعري كفيل بتمرير هذه الحفزة الإتهامية التي تلامس سويداء المعصية المختلجة في نفوسنا حين نتخيل فقدان أمهاتنا بلا سبب مبرّر، فقدان يشكل الحركة التمهيدية في لعبة شطرنج الحياة والموت التي تهيؤنا لتوضيب حاجيات الرحيل: (سبحانك يا رب !!... أحقا أن عذاب جهنم... أشدّ قسوة من عذابي... حين تعذّر علي... توديع أمّي ؟؟... آه.. لو أن ساعي بريد الآخرة... وضع الرسالة في صندوق عمري... لا على وسادة أمّي – ص 14).

 تابع القسم الثاني من الدراسة

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1154 الاثنين 31/08/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم