صحيفة المثقف

دولة الموظفين

ذلك لأن  تطور الدول يقاس بمدى نشاط المجتمع وقدرته على الإنتاج حيث الدولة  والحالة هذه ، هي وظيفة تتلخص أولى مهامها  وأكثرها اهمية وجدوى، في تنظيم نشاطات المجتمع ورعايتها ضمن قوانين سارية المفعول اختارها المجتمع بذاته وارتضى العمل ضمن احكامها، وعليه تخرج الدولة بإعتبارها ربّ عمل عليه ان يتكفل بإعالة المجتمع والا تحول ذلك الى عبء كبير يؤدي الى عجز الدولة عن القيام بواجباتها في توفير الخدمات العامة وإقامة البنى التحتية ذات الإستخدام المشترك كالماء والكهرباء والمواصلات وشبكة الطرق والجسور والحدائق والمتنزهات وسواها .

المجتمعات التي تكون فيها الدولة هي المعيل الوحيد لشعبها، لابد انها دولة فاشلة تقود مجتمعاً غير منتج تملأه البطالة المقنعة ويعتمد في حياته على ما ينتجه غيره، مما يؤدي الى هدر ثرواته الطبيعية التي سوف تستهلك بالإستيراد من دون أمل بالنهوض واللحق بركب الحضارة وبالتالي تصحّ عليها  مقولة : ويل لأمة لا تاكل مما تزرع ولا تلبس مما تنسج .

العراق اليوم، يمثل الانموذج الأكثر تخلفاً وتدهوراً في هذا المجال، فعدد الموظفين الحكوميين  فيه يزيد عن خمسة ملايين موظف في الخدمة، لاتزيد نسبة انتاجيتهم الوظيفية عن 30% من مجموع ساعات العمل، فإذا افترضنا ان كل موظف يعيل ثلاثة  أفراد، يصبح مجموع المعالين من قبل الدولة، يزيد عن عشرين مليون مواطن، فإذا اضيف اليهم عدد المتقاعدين الذين يقدرون بثلاثة ملايين، نجد أنفسنا امام كارثة حقيقة تشي بأن البلد ذاهب الى المزيد من التقهقروالخراب .

في المجموع العام، هناك اربعة موظفين لكل وظيفة واحدة، وهو ما نجده من ظاهرة المداومين في بيوتهم، والدوام الجزئي براتب كلي، وقلة انتاج الموظف الفعلي حيث المعاملة التي يستغرق انجازها دقائق معدودات، قد تأخذ أياماً وأسابيع، يضاف الى كل ذلك ظاهرتي الرشوة والوساطة مدفوعة الثمن مما  يزيد الأمور تفاقماً والمجتمع إنقساماً عمودياً، بين اصحاب الرواتب غير المنتجين والمشمولين برعاية الدولة وحمايتها حاضراً ومستقبلاً، وبين المنتجين الحقيقيين لكن المحرومين من عطاء الدولة حاضراً ومستقبلاً كذلك.

وعلى هذا ربما كان العراق هو البلد الوحيد في العالم قاطبة، الذي يعتمد في معيشته على إستيراد كل شيء، و( كل شيء) هنا، كلمة تعني حرفيتها ولا تقال من باب المجاز .

ومع كل ذلك، تطلع علينا الحكومة بقرارات أقل ما توصف بأنها خرقاء، فقد وهبت الموظفين إمتيازات لاحصر لها، منها القرار الأخير بمنح كل موظف مقدار مئة راتب إضافة الى قطع الأراضي التي توزع بغير حساب، وهكذا فالمواطن المنتج سواء كان فلاحاً أو عاملاً أو صنائعياَ أو صاحب محل أو كل تلك المهن التي تشكل عصب الحياة في المجتمع ومصدره حيويته وتطوره، يجدون أنفسهم خارج نطاق الدولة ودورتها الإقتصادية  التي توزع ثرواتهم على موظفيها حصراً، فيما تترك المواطنين الآخرين تحت رحمة الظروف مستحيلة التصور .

لم يعد في العراق سوى الموظفين، ولم تعد الدولة سوى دولة للموظفين، ومع ذلك تستمر الكوميديا  السوداء في إعادة انتاج نفسها حيث يصبح لكل زعيم سياسي جوقته الخاصة التي يدسها في مفاصل الدولة وتعيش على حساب الناس، وعندها ليذهب العراق وشعبه المنتج الى الجحيم وليعش موظفوه على بطر وبطالة وعطاءات حكومية لاتنتهي، من دون ان يجيب احدهم على سؤال واحد : ماالذي تفعله كل هذه الملايين من الموظفين العاطلين عن العمل ؟ وباي حق تنهال القرارات لصالحهم في وقت يأن فيه الشعب من القلة والعوز ؟ لم يبق الا ان تصدر الحكومة قراراً توجب فيه على كل عراقي غير موظف في الدولة، ان يغادر العراق ليعيش في مكان آخر،عندها ليخدم الموظفون انفسهم على الأقل بدل ان يوظفوا ليخدمهم الناس ويجهدوا لدفع رواتبهم . 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1170 الاربعاء 16/09/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم