صحيفة المثقف

رحل إبراهيم أصلان صائد البهجة من قلب المواجع / احمد فاضل

كما غيره دون أن يدعه يكمل مشواره الأدبي الذي كان يأمل أن يعيش معه طويلا، ومع أنني كنت أتابع حالته الصحية من القنوات الإعلامية المرئية والمكتوبة إلا أنني أوجست من اعتلال صحته خيفة أن يرحل في أية لحظة، وها هو يقول لنا وداعا رغم أنه قالها صراحة في لقاء معه مع إحدى الفضائيات المصرية قبل انتكاسته الأخيرة ودخوله المستشفى : " إحساسي الشخصي أنني أحيانا أحسب شايل مشكلة بداخلي، وأحيانا يتضاعف عندي هذا الإحساس وكأنني أمشي على حافة الهاوية، لكنني قاومت هذا بالكتابة فالابداع هو نقيض لكل قوى الفناء والخوف والقلق " .

الآن وبعد أن رحل أصلان فهل سيعيش هذا المبدع إهمالا حقيقيا كالذي سبقه من مبدعي الثقافة العربية سواء أكانوا من مصر أو أي بلد عربي آخر، إنها إشكالية سببها الرئيسي باعتقادي هو الإتحادات الأدبية والمراكز الثقافية والإعلام العربي الغارق بترهاته، فمن غير المعقول أن تمر مثلا ذكرى ولادة العديد من أدباؤنا ومثقفينا المبدعين الذين أثروا حياتنا بجليل أعمالهم دون أن نحتفي بهم، مع أن بعضهم مضى على رحيله سنوات قليلة وقد يكون هذا الإحتفاء مقتصرا على بلد الراحلين دون سواهم مع أنهم يشكلون عربيا وحدة الكلمة في شجونها وشؤونها من مغرب العرب حتى الجزيرة، وعلى هذه المراكز الثقافية والإعلامية مراجعة خطابها كي يكون عربيا شاملا موحدا بدل هذا التشرذم والتبعية، ومع أنني أعرف أن هناك الكثير من الآذان الصماء والأقلام المكسورة لكنها أمنية قد تتحقق في قابل الأيام .

كان الشارع المصري يمور بأحداث غاية في الأهمية فبعد ولادة إبراهيم أصلان عام 1935 شهد هذا الشارع انتفاضة كبيرة جاءت كرد فعل طبيعي لما جرى من احتقان سياسي وشعبي وصفها الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل أنها " نصف ثورة " أدت الى اقتناع الملك فؤاد بعودة دستور 1923 واسناد الوزارة الى الزعيم الإصلاحي مصطفى النحاس، ومع أن أخبار الإنتفاضات كانت تصل الى القرى والنواجع بصورة بطيئة إلا أن التعاطف معها سرعان ما يقابلها الناس هناك بالترحاب نظرا لما تعانيه هذه الشريحة خاصة الفلاحين منهم من اضطهاد وتعسف، مع أن الأمية كانت مستشرية بينهم بصورة كبيرة لكنها لم تمنع حسهم الوطني من التفاعل معها أو التحرك الى جانبها، هذا الواقع انعكس جليا على أعمال أصلان مذ أمسك بالقلم ليكتب أولى قصصه في ستينيات القرن الماضي والتي ضمها الى مجموعته التي صدرت فيما بعد تحت عنوان " بحيرة المساء "، لأن الثورة أصبحت هاجسه الأول بعد الهزائم التي مني بها العرب منذ عام 1948 وحتى عام 1967 أو كما يقول وهو يتناول تلك الفترة الحرجة من حياته وحياة الأمة في كتاباته : " في سني هذا استوت بعض الأمور في حاجة واحدة هي حياتك وكرامتك مرتبطة بمستوى ما تكتبه، فإذا كتبتُ أموّت نفسي لكي أكتب بصورة جيدة وممكن يبقى مُرضي للأخرين أو ليس مُرضي، فقط بالنسبة لي أنا ما زلت في أقصى طاقتي ولا أهتم بعدها لأنه يحقق أعلى درجة من المتعة رغم أن الكتابة شاقة بالنسبة لي .. أنا في خناقة دائمة مع نفسي بسبب الكتابة "، هذا " الخناق " الذي قصده أصلان كان معتركا لنمو حب البسطاء في نفسه وانشغالاتهم الحياتية اليومية التي عبر عنها أصدق تعبير في كتاباته واستطاع تقطير أحزانهم الى ضحكات ورصد قدرتهم المدهشة على اصطياد البهجة من قلب المواجع بحسب تعبير أحد النقاد المصريين .

بعد مجموعته القصصية الأولى " بحيرة المساء " لم يغادر أصلان أجواء قصصه التي ربطها بآلام وأوجاع الجماهير العربية المصرية فهو دائم البحث عن مشكلاتها فأنتج " وردية ليل " التي استلهم أحداثها من تجربته العملية " كبوسطجي " ساعي بريد في احدى المكاتب المخصصة للبريد، وكعادة أصلان في تحريك شخوص رواياته وقصصه السابقة راح ينأى هذه المرة في هذه الرواية عن بنية العمل الروائي المألوف حيث جعلها مقاطع وفصول تختلف زماكانيا أحدها عن الآخر لكنها تلتقي بوشيجة سردية واحدة دون ان تهتز معالمها، هو يهديها الى صديقيه الحميمين " أمل دنقل " و " يحيى الطاهر وطار " يبدأها أولا ب " فستان التيل " وينهيها ب " رؤيا " التي نقرأ منها بعض السطور لنتعرف على اسلوب أصلان الباذخ والبسيط في آن واحد والذي جعله واحدا من اكبر الروائيين العرب :

الآن انتهيت من مراجعة دفعة البرقيات الأخيرة التي وصلتنا .

وكان الضوء الذي تشعه هذه العشرات من لمبات النيون داخل جدران القاعة المطلية بالزيت الرمادي اللامع، يغشي عيني ويؤلمهما، لم يعد بوسعي هذه الأيام أن أبقيهما مفتوحتين، دون حرقة، ودون دموع .

كانت آخر البرقيات التي طالعتها صغيرة، لاتتجاوز بضع كلمات : " لاتنتظرني، تزوجت، هدى "، ويبدو انني جففت عيني وملت على المكتب الخشبي، وسمعت صوتا كأنه محمود يسألني ان كنت قد انتهيت أم ما زال في العمر بقية، وأنني أجبته بالإيجاب، وطلبت منه أن يطفئ النور، وأغلقت دفتر الأحوال قبل موعده، ورجوته أن لايغادر قبل طلوع النهار .

وجدتني متعبا . لقد نزلت درجا عريضا يحميني سياج من خشب، وحطب، وأغصان، ومضيت حينا، أشعلت نارا تحت شجرة كبيرة تحتلها العصافير . ومررت أمام نافذة مفتوحة على جانب الحوش الكبير المكشوف، وانحنيت . كان القبو معتما، ولكنني لمحت جمرة السيجارة المشتعلة في الجانب الآخر من الطاولة ذات السطح الناعم الذي التقط شيئا من النور .

صباح الخير يا عم

هذي الشوارع خالية

صندوق البريد الكبير يستند وحيدا على الناصية،

أحمر على ليل

وأنا أمشي

تطفو الوجوه وتغيب، يأتيني محمود قزما بثياب ملونة والمرأة آسيا حزينة وصامتة والعم بيومي ينهض على مهل، تذكرت البنت ذات العينين الكبيرتين، والخزرة الثقيلة الزرقاء . يا للخسارة، رأيتني هاربا في مقعد من خشب، وخريف، ولحم السماء ينسدل أمامي، أخضر على ليل، وهناك أسطح وبيوت من تراب، وفجوات، وعيون، لاتخلو من نور أو خيال . كنت وحدي، أمد نصلا فضيا الى لحم السماء، ويكون شجا مثل فم، له شفران من أرجوان، أعمق الشج مهبلا، تنسحب يدي الى جواري في انتظار الدمعة الحمراء وهي تبزغ، تنحدر، تسقط في الأفق، ثقيلة دون صوت، أرقبها حريقا خفيا ينشر الحمرة والظلال تصحو بيوت التراب، تنبض جدرانها بالصهد، تنهار أشكالا ترابية لرجال هدّهم التعب، ونساء هزيلات تدلت منهن الأثداء، وبنات، وخلجات غبار لعيال تجري، وبالونات من عفار وربيع، تعلو، تملأ الأفق، وتقترب .

وعلى الرغم من تقديمه لروايات أخرى مثل " مالك الحزين " التي حازت على مكانة متقدمة بين أفضل مائة رواية عربية وتحويلها الى فيلم سينمائي ناجح حمل إسم الكيت كات وهو الحي الذي نزل به أصلان في القاهرة بعد مغادرته الأرياف ورواية " عصافير النيل "، إلا أن " وردية ليل " تبقى اكثر رواياته اتكاءا على الفرد، المنبت، والمغترب، والذي نكاد لانعرف شيئا عن تاريخه إلا حاضره، رواية كما تقول صحيفة " أخبار الأدب " المصرية في مقال لها تحت عنوان " الرؤية تستعير عينا " تخلو من " ونس " و " زحمة " مالك الحزين وعصافير النيل، رواية الشخص الوحيد، التائه، البعيد عن مكانه، الوردية، الذهاب المؤقت الى الليل، التي عاشها إبراهيم أصلان فعلا ذات يوم، لذلك هي أكثر رواية له يمكنك أن تخلط فيها بين المؤلف الواقعي والسارد الفني، حتى انتقال السارد من ضمير الغائب الذي بدأ به الرواية لضمير المتكلم، وارتباكه - الفني، المقصود - بينهما طيلة الرواية، بين " هو " و " أنا " .

إبراهيم أصلان كان متواضعا، حنونا، تدهشه لعبة الكتابة حتى عند غيره فيقول ان الإندهاش سُمة الإنسان السوي، وكان تلقائيا، ويهتم بالتفاصيل الى حد غير معقول، دقيق حتى أصبحت الدقة طريقه للرؤية في الحياة .

 

أحمد فاضل

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2005 الاربعاء 18 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم