صحيفة المثقف

بدايات التقدم .. المرحلة الرابعة / عبد الجبار العبيدي

والمنجزالثالث أعداد الدساتير وتشريع القوانين النافذة، وبهذه المنجزات استطاعت الدولة الحديثة ان تنتقل بها الى عصر الانوار.

واليوم سنواصل عرض الافكارالجديدة التي طرحها اصحاب الموسوعيات وبقية فلا سفة عصر الانوار. نحن نريد من علمائِنا ومفكريناوحكامنا ان يخرجونا الى الحضارة الانسانية ومن الطريق المسدود الذي فرض علينا، عن طريق تحقيق ثورة علمية فكرية حقيقية، على كل ماكان يسد طريق التقدم من قيودعلى الفكر والحرية . لذاعلينا ان نرمي خلف ظهورنا الفلسفة التأملية لنستبدلها بالفلسفة الواقعية، حتى لا تبقى وجوهنا نحو الحائط كما خططوا لنا منذ عصر الاتراك والاحتلال البريطاني الاول للعراق والانقلابات العسكرية التي وضعتنا في سجنها االحديدي المغلق منذ عام 1958. وقد يدهش المرء العراقي حين يطلع على البون الشاسع بين تخلف بلادنا وتقدم بلاد الانجليز بنفس القياس الزمني الذي مرَ على الاثنين معا منذ نهاية الحرب العالمية الثانيةفي 1939..اذا تصورنا ذلك اتضحت لنا جسامة الدور الذي قام به اولئك الافذاذ من علمائهم دون أسثناء في نقل بلدهم والبشرية كلها من التخلف الى التحضر .وكيف نحن بقينا نراوح في وطننا نتطلع للامنيات المثالية بلا واقع ملموس. فهل سنختار طريق التقدم بديلاً ؟

وتعقيبا على الجهود التي بذلها رواد الفكر والعلم في خدمة بلدانهم والبشرية نجد انهم خططوا لفكرة (بدايات التقدم) وهو المنجز الرابع والمهم حين اتفقوا جميعا بمساعدة المخلصين من حكامهم الوطنيين على رعاية العلم والعلماء وبروزهم على الساحة كمصلحين حضاريين قبل ان يكونوا علماء بأخلاص وصدق والعلماء لا يفكون دوما بالسياسة .وماهي الا سنين قصار حتى بانت الحقائق العلمية تظهر على السطح بعد ان أنشأوا قاعدة جديدة للتفكير الواقعي المنطقي المنظم مبنية على قاعدتين هما: الفكر العلمي ثم استقرار فكرة التقدم في الأذهان .

لم يكونوا وحدهم الذين يعملون بهذا الاتجاه، بل كان اهل السياسة والاقتصاد يعملون بجانبهم واكثر في ميادينهم التي بها يبتكرون وينظمون .ولم نقرأ لا عند السياسيين ولاعند الاقتصاديين ولاعند العلماء الأوربيين ان واحدا منهم استغل مالا او منصبا اوسياسة لنفسه دون الاخرين، بل نقرأ عنهم وكأنهم عصبة آمنت بربها والوطن وعملت وحققت لها ولاوطانها ما تريد فكتبت لها تاريخا بأحرف من نور، لانها لم تكن خائفة على مستقبلها بعد ان ضمنت الشعب والوطن.وكان من حصيلة هذه الجهود كلها الحصول على الحقوق والحريات التي تمتع الناس بها، فصاروا في نظرهم كالملائكة الابرار.هنا بدأ الشعب يلتحم بالدولة وبمؤسساتها المدنية والعسكرية بعد ان تقرر في اذهان الجميع ان الكل شعارهم الموحد هو الدولة والانسان والقانون. نتمنى ان يعرض رجال السياسة عندنا عن التناحر ليتفقوا على طريق واحد مادام الكل يدعي الوطن والمواطنين.

هكذا قرأوا الدرس لانفسهم ولمن جاء من بعدهم، درس في حكمه العقل والعلم.حتى تنبه اصحاب السياسة الى امر اخر كان في غاية الاهمية حين قاموا (بتحويل المبادىء الى تشريعات) وهذا لم يحدث عندنا بعد التغييرفي 2003 .واصبح احتقار الماضي والخيانة والكسل عند الأوربيين جزءًمن تفكيرهم الذي لا يرد، ومن يتعامل به لايرحم ابدا.من هنا انطلق العقل من عقاله واصبح يسود كل نواحي الفكر والنشاط الانساني، لكنهم لم ينسوا الماضي والحاضر والمستقبل فهو تاريخهم .ورغم عتمامة التصور في هذا الاتجاه لكن الجميع كانوا متفقين على انهم في مسيرتهم يتقدمون . من هنا اصبح الايمان بالمطلقية الاصلاحية عندهم يؤدي بأعتقاد أصحابها بأن فكرهم اصبح خلاصة العلم لا نهاية التجارب. لذا عليهم ان يغرفوا من تجارب الأمم الأخرى ليضيفوها لتجاربهم الناهضة، فكانت بدايات حركة الترجمة من العربية واليونانية والرومانية وغيرها من اللغات الاخرى الى لغاتهم ما تيسر لهم من العلم والادب والثقافة ما لم يكن في الحسبان وخاصة بعد سقوط الاندلس عام 1492 للميلاد وانتقال المد الحضاري لأوربا .فازدهرت الحياة الثقافية عندهم وبدأت العقول تعمل وتنتج كل يوم شيء جديد..

لا احد ينكر ان علمائنا ومفكرينا كان قد راودهم ما راود العلماء الاوربيين، لكنهم لم يحظوا الا بالنزر القليل من أهتمام ساستنا بالعلم والعلماء والمتعلمين خلا عصر المآمون وبيت الحكمة البغدادي وعصر الترجمة، حين لم يعيروا للعلم والعلماء ما تنبه له الاوربيون، فكان البون بيننا وبينهم كبيرالى اليوم وخاصة بعد ان احتل العثمانين الوطن العربي والعراق من ضمنه. بينما هم وعلماؤهم مرتبطون بخيط اساس في عالم يحكمه العقل والحكمة والشعور بمسئولية الوطن والشعب، بعد ان تساوى الجميع امام القانون الذي ضمن حقوقهم المستقبلية في السياسة والفكر والدين، فلم يعد الواحد مميزا عن الاخر وتحت اي ظرف، ولم يعد الحاكم باستطاعته ان يرمي المواطن في السجن دون قانون. فبدأت مؤسساتهم الدستورية تمثل ممثليها بصدق وامانة، لا بتمييز وانحياز، فلا احتكار في وظيفة ولا قرابة اوصداقة في هدف.، وهذا الذي نحن فقدناه فوقعنا في خطأ التقدير .فحين حسبوا ان العلم لهم وللاخرين والمنفعة والوظيفة لهم وللاخرين نجحوا وحققوا ما ارادوا، اما نحن حسبناها زقأ وقينة لنا دون الاخرين. لذا فالعلم عندهم بعد ان تحول الى مهارة اصبح منفعة مادية ومعنوية لتحقيق مساواة مطلقة بين البشر. وبالتالي فأن التقدم المادي أنسحب على التقدم المعنوي رغم ان البون الشاسع بينهما ظل ملازما لحياة المجتمعات الاوربية وغيرها على السواء لملازمة الآنا البغيضة في نفوسهم لفترة طويلة حتى أكتمل الوعي الأجتماعي عندهم . لكن مع الاسف ان استمرار التناحر بين القيادات السياسية عندنا اليوم أضاعت علينا الزمن وفرصة التقدم.

وكانت بدايات المرحلة الرابعة عندهم قد ظهرت في ما سموه بعصر الانوارحين تولى قيادة الفكر الفلاسفة واهل العلوم وكانوا اجيالامتوالية من المتحمسين لحرية القول في سبيل التقدم فساندتهم الصحافة الوطنية، حتى وضعوا حدا للركود الفكري والسياسي والاجتماعي الذي ساد اوربافي العصور الوسطى.

لم يكن الفكر الفلسفي وحده يعمل بجهد جهيد من اجل النقلة العلمية والفكرية بل ساندهم العلماء الجدد في مجال الفكر التكنولوجي امثال (توماس آديسون 1847-)1931 مخترع الكهرباء، هذا المخترع الذي نقل العالم نقلة نوعية لدرجة ان القانون الاوربي والامريكي يعاقب الدولة باجمعها ان قصرت هي في ايصال الكهرباء الى ابعد قرية في الغابات والصحاري.لهذا فقد انتقل مفهوم الحرية عندهم الى قناعة وقانون، مثلما كتب فولتير الفرنسي يقول:ان التاريخ لا يمكن ان يكون ثابتا عند حدٍ معين بل يتحرك الى الامام وعلى قادة السياسة ان ينبرون لهذا التحرك حتى يصل المجتمع الى مرحلة النضج الكامل وهذا ما عبر عنه الفيلسوف (فيكو) حين قال :ان كل امة او حضارة تمر في تاريخها بحالات او مراحل مختلفة من السير والعودةالى المسير حتى تصل الى ما ترغب وتريد، ورد ذلك في كتابه الذي سماه (العلم الجديد).

لقد استفادت النقلة الفكرية والعلمية مما كتبه (مونتسكيو 1689-1755في كتابه الموسوم روح القوانين) وهو عبارة عن فكرة تدور حولفكرة الارتباط بين التشريعات التي يضعها الانسان والقوانين الحتمية التيتحكم حركة الطبيعة.ويرى ان قدرتنا على وضع قوانين صالحة لتنظيم المجتمع متوقفة على مدى ادراكنا لاسرارالقوانين الطبيعية. لقد قاوم بفكره الفكر الفردي وقال كل شيء يجري بقانون خفي فالصدفة لا اثر لها في التاريخ، وان لكل حادث اسبابه المعنوية والمادية ومن يريد ان يكون قائدا للمجتمع عليه ان يتقيد بروح القوانين والا نهايته وخيمة وحتمية.

هذا الربط الجديد بين القانون وتطبيقه هو الذي خلق ما نسميه اليوم بالنسبيةالتاريخية ، اي ان الحكم على كل شيءهو نسبي لعدم انفصالية الحادثةعن الظروف الطبيعة التي وقعت فيها. اما الصراعات السياسية فهي وليدة التشبث بالقيادة دون معرفة ادارتها وهذا ناتج عن سذاجة التفكير وقلة في النضج السياسي، ينبغي على السياسي ان يكون حكيما ولديه من المستشارين ما لا يمكن ان يعطوا له استشارة الخطأ هنا يكون للسياسي قدره واهميته كما في نلسن ماندلا في جنوب افريقيا وسوار الذهب في السودان اللذين احتلى مكانة الصدارة الوطنية بأعين الناس.

وبعد هذا التوجه العلمي الكبير، أتجهت الحكومات الأوربية الى موارد البلاد ووضع الميزانيات العامة للصرف والتي وجهت في غالبيتها نحو الاستثمار، وامتصاص البطالة، والرعاية التعليمية والصحية، والأهتمام بالمراكز البحثية وكل ما يفيد المجتمع بعامته لينقله الى مرحلة الرفاهية الأجتماعية.وجعلوا كل موازنات الدولة تحت الرقابة المالية الصارمة واعادة كل الحسابات الختامية في اخر كل سنة قبل ان تعتمد الميزانيات الجديدة. من هذا الوفر المالي الكبير بنيت الدولة .وما وصلت اليه اوربا وامريكا من قوة اقتصادية مكنها من ان تتبوء مركز الصدارة العالمية.فأين نحن من هذه التوجهات والميزانية العامة تعتمد في كل سنة دون مراجعة الحسابات الختامية ناهيك عن تصرف أقليم الشمال بالموارد المالية دون رقابة حكومية مركزية عليه.

ان ما حدثته اوربا من تقدم وانقلاب شامل في الفكر البشري مرده الى تطبيق القوانين بشكل متساوي بين المواطنين وبعد ان اعطيت للمرأة حقوقها الطبيعية والقانونية فسار المجتمع في معارج التقدم.

هذه العوامل مجتمعة هي التي اوصلت اوربا وامريكا الى مرحلة الكمال، فهل يقرأ حكامنا اليوم ما كتبه العلماء والفلاسفة واهل الفكر ليحتضنوهم لدولة ناشئة هي احوج ما تكون اليهم دون الاخرين.

 

د.عبد الجبار العبيدي

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :209 الأحد 22 / 01 / 2012)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم