صحيفة المثقف

المدن الحاضنة والمدن الحاضرة .. ذكريات من بيت الصحافة (4)

آلفت مع الغربة بعد أن جرفتني أمواجها فاستلذذت السباحة في مساربها، ودسست نفسي في أماكن ليست مكفهرة بالكامل سوى ببعض تفاصيلها، كان سكان الضاحية الجنوبية وقبلها مدينة بعلبك التي سلخت فيها  بضع سنوات، يتباهون بإنتساباتهم العشائرية وكثرة أعدادهم، رغم ان أكبر عشيرة في لبنان قاطبة – بيت زعيتر – لا يبلغون بكل امتدادتهم، أصغر فخذ من اصغر عشيرة عراقية، فكيف بي وانا المنتسب الى عشيرة قال عنها احد الظرفاء يوماً وهو يرفع يده رادحاً : "ها خوتي ها :" وين ماروحن سواعد" .

ولأن جدي الأول، كان من اصدقاء الإمام الحسين( ع) وكان ممن خاطبه زين العابدين وهو في طريق الأسر نحو الشام : إبعد عني هؤلاء ياسهيل – على ذمة الرواة - لذا إن حضر حديث العشائر، إلقي بدلوي وأعلن انتسابي، فيساندني عضو المكتب السياسي لحزب الله الشيخ محمد كوثراني وهو ربيب النجف والسائر في أزقتها ودروبها والعاشق المّوله لصاحب الحضرة والمقام وإمام البلاغة والمتقين( ع)  .

لم تكن العودة صعبة، من بيروت الى دمشق - التي لم تكن قد اجتذبت بعد جموع الإرهابيين ولا أصبحت ممراً لقوافل السيارات المفخخة – ثم الى بغداد  .

زيارة بعض الاصدقاء الذين اصبحوا في موقع المسؤولية، كانت ميسرة في ذلك الوقت، وكان أولهم الرجل الذي اثار أكبر حملة من اللغط بعد تسلمه وزارة الداخلية، بيان جبر – كما عرفناه هناك،  أو باقر جبرصولاغ الزبيدي، كما عرف هنا، وأذكر يومها اني كتبت مقالاً حوله نشرته في جريدة النهار اللبنانية جاء في ختامه : مادمت وزيرا، ستحتاج الى شجاعة علي ودهاء معاوية .

لكن ذلك لم يكن كل شيء، فقد قادتني الخطى الى الرجل الذي سيصبح بعد وقت قصير حديث العراق وموضع حقد العرب واهتمام العالم، وكان الكلام الذي لم ينشر حتى اللحظة احترامه لطلبه، بعد ان وعدته الا أنشره الا في الوقت المناسب – ويبدو ان الوقت قد حلّ أخيراَ-.

كان برنامجي الأول، زيارة النجف، تلك المدينة الكامنة في عصارة الروح وخفق القلب، لم ازرها مذ كنت يافعاً، يومها أخذتني معها جدتي لأبي بعد ان خشيت من مقالب عمي التي مازالت تروى في ليالي السمر بعد ان اصبح في دار الحق منذ عقد من الزمن .

 في أحدى الليالي، وفيما كان الجار ينام مع زوجته لصق شاطىء دجلة، وعلى سرير مصنوع من جريد النخل (جورباية) يطلق صريراً مزعجاً حين يتحركان، وكانا ساعتها في حالة التصاق حميمي وما يتخلله من فعل – محتشم – وراء (الكلة) .

 كان الصرير يعلو ويهبط تبعاً لارتفاع وانخفاض حركة الزوج، فتسلل عمي الذي كان في سن المراهقة، الى حافة سرير الزوجين دافعاً اياه  نحو النهر مع (راكبيه) وعاد مسرعاً، فاستفاقت القرية (السلف)على الصراخ واللعنات من الزوجين، والضحكات المخفية من النسوة، مشفوعة بالغضب – المفتعل بمعظمه – من الرجال،  ولولا شفاعة جدي، لوقعت حوادث بين العشيرتين .

قبلها كان قد دهن جسده  العاري بالسخام، ثم كمن لرجل في طريق الهور ساعة الظهيرة، وقفز أمامه متخذاً هيئة (الطنطل)،  فأصيب الرجل بإنهيار عصبي وكاد أن يقضى عليه .

وحين قرر جدي تزويجه (بلكي يعقل) دفن نفسه في الطين  ليلة الزفاف، وفشلت كل محاولات العثور عليه حتى صباح اليوم التالي .

لذا وخوفاً من مقالب عمي، اصرت جدتي على أخذي معهما للزيارة .

  المقصد  الأول كان مدينة كربلاء، وجدتي غافية مع هدير السيارة، لكني رأيتها  تفتح عينيها الكليلتين فجأة، ثم تنظر بإتجاه الكورة الداخنة  لأحد معامل الطابوق،وبعد لحظة أطلقت  زغردة طويلة مصحوبة بصوتها الداكن: دخيلك يا ابو فاضل يا لمضهضب (أي الغاضب) .

كان المقلب قد (حكّ) عمي، فايقظ جدتي المسكينة وهو يهمس في أذنها : قومي يمه، وصلنا كربلا، شوفي -  وهو يشير لها نحو مدخنة المعمل -  وما أن لمحت خيال الكورة  الداخنة، حتى ظنتها مأذنة العباس في المدينة المقدسة .

لم تتغيرمدينة النجف كثيراً، سوى بعض الفنادق والأبنية والأحياء الجديدة،

وكانت يومها تعجّ بالمسلحين .

حاولت مقابلة السيد مقتدى الصدرفلم أستطع، رغم ان  الشيخ حسن الزركاني ممثل التيار الصدري في بيروت قد اتصل بأحد قياديي التيار في النجف لمساعدتي، لكن الاشتباكات الأولى مع قوات الحكومة - برئاسة أياد علاوي - كانت قد بدأت، ومع صدور مذكرة التوقيف بحق قائد التيار السيد مقتدى، إضطر الرجل الى التواري تحسباً .

لم تستعد النجف هدوءها الا بعد حين، فعدت لزيارتها ثانية لألتقي بأحد وجوهها البارزين العلامة السيد محمد بحر العلوم، وكان بحديثه الشيق وسلاسة ذكرياته،  قد قادني الى مواطن أخرى في المدينة العريقة، كيف تحولت من مدينة حاضنة الى مدينة حاضرة، رغم انها لم تكن عاصمة سياسية كبغداد ولا غنية بمواردها النفطية ومينائها وبساتينها كالبصرة، ولا في تاريخها الماقبل ميلادي وموقعها الجغرافي وثرواتها الهائلة وتنوعها السكاني كالموصل، فقد بدأت النجف مكاناً صحراوياً أشبه بمنفى طوعي للهاربين من الظلم، ثم اتخذت موقعها المميز الذي حدد معالم العراق والمنطقة وامتد الى اكثر بقاع العالم، فما هي العوامل التي رافقت ذلك ؟ وكيف تفاعلت  مع مكانتها الدينية، لتتحول الى مكانتها في القرار السياسي والذائقة الادبية والنتاج الفكري ؟ أنها رائحة النجف الأشرف . 

فمن المعروف إن  للمدن "رائحة" مميزة في الغالب، تتشكل عبر سيرورتها التاريخية لتنتج من ثم تلك الخاصية التي تُعرف بها وتعبّر بالتالي عن فرادتها .

 يأتي ذلك كناتج تراكمي تتداخل فيه عوامل عديدة متشابكة ،  تبرز في مقدمها، الاشكال والاساليب المتخذة كأوجه لنشاطها الاجتماعي،  كذلك طبيعة العلائق التي تربط  بين أبناء ذلك المجتمع، و نوعية الطبقات الاجتماعية التي تتحدد بموجبها انماط علاقاتها ومقدار التكافؤ أو التبعية في تلك العلاقات، اضافة الى الموقع الجغرافي لتلك المدينة وطبيعتها المناخية وتوفر المواد الاولية التي تستطيع تلبية حاجات سكانها، كذلك نوعية الاخطار التي يمكن إن تتعرض لها وأستقرار العلاقات بمختلف الاوجه سواء بين ابنائها ، أو تلك التي تنشأ مع غيرها من المدن وفيما اذا كانت من نوع تناحري أو تكاملي.

إن إجتماع وتفاعل تلك العوامل، مع توافر الحيثيات الملائمة للنمو، هو ما يؤثر على تحديد "رائحة" هذه  المدينة أو تلك، الرائحة هنا بمدلولها الرمزي وأشتقاقاتها اللغوية، وليست بمصطلحاتها القاموسية، ذلك لان البصمات في الأشخاص، ربما كان احتمال تشابهها نادر الحصول، الا ان الرائحة مستحيلة التشابه، رغم  أن الاختلاف الجوهري بين المدن والافراد، انما يتمظهر في خصوصيات المدن، اذ لا تحتم المدينة  مرورها بمراحل طفولتها وفتوتها ومن ثم شبابها وشيخوختها كما الأفراد، ذلك لأنها تمتلك خاصية التجدد والانبعاث المتواصلين متى ما توفرت لها شروط ملائمة  . 

إن تاريخ المدن يشير بان تلك القابلية للتجدد والانبعاث، تتعلق اساسأ بقدرة المدينة في مرحلة زمنية معينة، على التحول إلى حاضنة، ولكي يصح اطلاق هذه الصفة على مدينة ما، ينبغي أن تتوافر فيها عدد من المعطيات التي تنوجد في تفاعلية دينامية تصاعدية عموماً وان تخللتها خطوط بيانية،.

 

أما مايمكن إيراده من تلك المعطيات، فيمكن اجماله  بما يلي :

1- مجتمع متجانس

لا يقصد بهذا المصطلح  إن المكونات السكانية لتلك المدينة، ينبغي أن تكون  من فئة اجتماعية أو طائفية أو أثنية واحدة  بالضرورة، بل يقصد في التجانس إن توصف العلاقات – بمختلف أنواعها –  على أنها من طبيعة سلمية، وان تتشكل على أساسها بنية ثقافية متآلفة ضمن قاعدة "وحدة في إطار التنوع"، كذلك ان تشعر جميع فئاته ومكوناته، أنها في حال تكاملي مع بعضها، فيسود بينها نوع من التوازن لا يفكر فيه طرف بالقدرة على إنهاء وجود الآخر او إن يرى مصلحته تكمن في ذلك الإلغاء . 

إن المدن "الحواضن" لابد إن تكون لديها قدرة البناء والتطور، وهذان الشرطان لايقومان الا في ظل تعاون داخلي اولاُ، ولما كان التعاون يشترط المهادنة والإقرار بضرورة التعايش كشروط دنيا، لذا لابد إن يبتعد مجتمع المدينة "الحاضنة" عن التنافر الحاد الذي يؤدي الى صراعات عنفية، ذلك إن غالبية المدن التي حملت بذور موتها وانهيار مكانتها، هي تلك التي ساد التناحر بين مكوناتها المجتمعية، حتى لو استطاع احد المكونات فرض هيمنته في فترة تاريخية معينة وضمن شروط تمددت زمناً واتسعت مكانياً، إلا إن ذلك سيبقى حالة استثنائية ستحرج موقع المدينة وتطورها الحضاري . 

إن مجتمعاً يوسم بسمات كهذه، لابد سيكون مركز جذب واستقطاب لغيره من الأفراد أو الجماعات التي ستساهم  بدورها في تطور المدينة  الحاضنة، شرط  إن يكون هذا الجذب سلميا كذلك، لأن المدن التي وصلت إلى مرحلة تشكيل  "الحاضنة" ستكون ولاشك قد تجاوزت مرحلة التكون ومن ثم اجتازت مرحلة التحول من جماعات إلى مجتمع، أستطاع إن ينشيء نظماُ خاصة تحدد هوية المدينة – اجتماعيا وثقافيا وإنتاجا ماديا – وعليه فهي لن تتقبل هجرات كثيفة دفعة واحدة، اذ إن هجرات من هذا النوع، سوف تخلخل أساسات بناء المدينة "الحاضنة" نظرا لما يحمله  المهاجرون بكثافة جمعية، من أنماط وسلوكيات غالبا ما تكون مختلفة- كلياً أوجزئياً-، وليس هناك من مدن عبر التاريخ، استطاعت إن تستقبل هجرات كثيفة لأقوام أخرى، من دون إن تتغير معالم تلك المدينة بصفة بنيوية، خاصة اذ فاقت أو قاربت أعداد القادمين، أعداد سكان المدينة الأصليين، أنها والحالة هذه تفقد صفتها كحاضنة لتتحول من ثم  إلى مدينة مختلطة لابد لها من تجاوز مرحلة أخرى لهضم هذا الاختلاط مما سينشأ  شكلا آخر يتحدد مقدار انسجامه او تنافره مع ما يحمله القادمون الجدد من تآلف أو تنافر مع قيم المدينة المستقبلة – بكسر الباء - .

 

2- بيئة مناسبة

أي ان تكون البيئة الاجتماعية  للمدينة الحاضنة، متقبلة أو متفهمة أو متعاطفة مع ما يحمله القادم الجديد، ذلك أن من خصائص المدن الحاضنة أنها تستقبل في الغالب نوعين من القادمين – طالباً لرزق أو علم، أو باحثاً عن مأوى هرباً من اضطهاد – وفي كلتا الحالتين، لا يستطيع القادم أن يحقق ذلك في بيئة لا تحوي شروط القبول به أو التقبل له، وهذا ما يجعل المدن لا تعاني من"المحتضنين" بصفتهم الافرادية أو الجماعة التي لم تصل مرحلة المجتمع بعد، ذلك لأن هؤلاء لن يستطيعو – في الغالب - ا التأثير سلباً على استقرار حياتها الداخلية أو إن تأثيرهم سيكون محدوداً، كما يسهل هضمهم ودمجهم في مجتمع المدينة المستقبلة، أما أكثر المدن تقبلاً وقدرة على دمج القادمين الجدد، فهي غالباً المدن حديثة التكون التي مازال فيها حيزاً للمزيد حيث لم تكتمل بعد معالم شخصيتها بشكل يصبح معه القادمون الجدد بمثابة "آخرين"، أي خارج نطاق "سور"  المؤسسين للمدينة أو "الأوائل"  كما يسمون في العادة .

وفيما يخص النجف، فقد جمعت ما بين صفتين لعبتا الدور الاكثر تجذراً وديمومة في تحديد هويتها : قدسية المكان وثقافة السكان، فقد انبثقت الصفة الأولى منذ الإعلان عن وجود مرقد الإمام الاول في الإسلام  - حسب المذهب الشيعي – الإمام علي بن أبي طالب ( ع )، وقد شكل وجود المرقد عامل استقطاب وجذب للرواد الأوائل من المنتمين إلى نسبه ومن شايعهم وناصرهم، بعد إن تعرضوا للاضطهاد من قبل خلفاء العصور المتوارثة والحاكمية المغتصبة كما ينظر اليها الشيعة .

وبمواجهة عوامل معقدة وتحديات يقرب تجاوزها من الاستحالة، عمل الرواد الأوائل بقيادة شيخ الطائفة "الطوسي" على تكوين ما، سيشكل لاحقاً،مركز التشيع فكراُ وكيانية.

 المكان ببعده الجغرافي عن عواصم الخلفاء والسلاطين، وبموقعه الروحي المتأتي من امتزاج  معتقدي حيث الروايات الدينية عن أهمية هذه البقعة الجغرافية القريبة من عاصمة الإمامة ومركز الخلاص البشري المنتظر- الكوفة - مع منشأ موروث بإحالات أسطورية عن مرور النبي إبراهيم (ع)  في هذا المكان وهو في طريقة لبناء مكة المكرمة، كذلك ما يذكر عن وقوع الطوفان في أو قريب من مساحة الأرض التي ستصبح فيما بعد مدينة حاضرة على امتداد مايقرب من الف عام، تكتمل العوامل المهيئة لمجتمع سرعان ما يشكل نخباً فكرية وعلمائية ترفد الثقافة بفكرها وأدبها وابتكاراتها اللغوية واجتهاداتها الفقهية  ليمتد من ثم تأثيرها إلى أربع جهات الأرض .

إذن حكمت معادلة المدينة بترابية المكان : قدسية شكلت عامل جذب روحي واطمئنان معنوي، ومجتمع مدني رفع العلم اثبات كيانية ومصدر تحد، وهكذا لبست المدينة رداء الحاضنة ولتبنى هويتها بتلك الخصوصية المؤثرة في الحدث، التي لم تنقطع يوما رغم مرورها بفترات مظلمة حوصرت فيها حد الجور، في محاولات خنقها أو إقصاء دورها، لكنها انتقلت بسيرورة ملفتة، الى إن تكوين حاضرة لها فرادتها عبر متواليات الأزمنة  واختلاف العصور .

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1187 السبت 03/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم