صحيفة المثقف

صفقوا - إنه الموت / علي السعدي

لا اؤمن بالمعجزات، وان كنت لم أكفّ بعد عن إشغال السماء بأدعيتي البائسة، لكن ما حدث لي قبل أعوام، شيء لا يمكن تصديقه، ولكم الحقّ في ان تظنوا ما تشاؤون، فهل سمعتم بإنسان فقد قلبه؟.

 ربما في قصيدة باكية لأمّ ثكلى أو حديث ممل لجارة ثرثارة، تتقبلون ذلك، أما ان يكون الأمر قد حدث فعلاً، من دون ان يكون حلماً أو كابوساً، فهو ما يدعو الى الشك بسلامة قائله، لكن صدقوني، ذلك ما حدث، وان كنت عاجزاً عن إثباته، فلأن الجرح الذي خلّفه، كان قد اندمل وكلّ ماتبقّى منه، أثر ضئيل لا يكاد يرى، لذا تزداد المشكلة حرجاً .

لكن إنتظروا بالله عليكم، إنتظروا قليلاً قبل ان تطلقوا أحكامكم، فأنا أعاني ياسادة، أعاني كثيراً من فقده، ذلك " الفطير" البائس الذي لا يروق لي سواه، قد يكون عنيداً، أو حتى أحمق، لكنه صاحبي، صاحبي الطيّب الذي فعلها، لا تستغربوا، نعم لمَ الإنكار؟ فاذا كنتم تنكرون أعمالي وتستغربون ما يصدر عني، فها قد بان لكم السرّ،وانكشف المستور، لقد فعلها قلبي، أما كيف حدث ذلك؟ فهكذا تقريبا : شقّ صدري بضربة صاعقة، وقفز متدحرجاً ككرة متوهجة،قام بذلك في لحظة طيش، ولم يترك لي مجال الإعتراض، فما أدراني انه سيهجرني بهذه السرعة، صحيح إننا لم نكن على وئام قبل بلوغ الحادث، فقد كان يضجّ بالشكوى ويكثر الإعتراض، لكني لم أكن أسيء به الظن حتى أظهر سخطاً إنقلب تهديداً أثار هواجسي.

عالجته بالصبر أولاً، ثم بالكشف عليه عند أمهر أطباء المدينة،الذي لم يبخل باستخدام أحدث آلة وصلت خصيصيا لكشف القلوب، فأكد لي سلامة قلبي من كلّ ضرر، ومع ذلك لم أطمئن --.

كانت ليلة قاتمة تثير النفس كدعابة سمجة، تلك التي إختارها ليعلن حربه، صار يطرق صدري طرقاً عنيفاً، يزداد قوّة أو يهبط فجأة حسب مزاجه، إستمر بذلك حتى الصباح، وقد راحت سدى، كل المحاولات لتهدئته .

 ظننتها في البدء إحدى نزواته، لكن في البدء كان الألم ولم تكن الكلمة، لذا تبعثرت كلماتي ولم تجد نفعاً، فقد عاود الكرّة بشكل أعنف، يحدث ان يبقى النهار بطوله،وديعاً كطفل هادئاً كملاك، وعند حلول الظلام ينقلب فجأة الى وحش هائج، أناشده فلا يبالي، وأسأله فلا يجيب،، لكن لا بأس فانه صاحبي --

- كفّ عن حماقاتك – يقول لي

- أية حماقات؟

- ويتصنع البراءة؟ إسمعوا

- أتقصد تلك الحماقات الصغيرة التي نرتكبها معاً؟

- بل ترتكبها وحدك وتوقعني بها

- أي بسيطة، إن لم تعجبك، نرتكب غيرها .

- كلا لا يعجبني، أنت لا عب فاشل ترميني كيفما اتفق بغباء ورعونة، فأكون الخاسر دوماً، بلا هدف ولا قضية، أيها الأعمى هذا شأنك، إبق كما أنت، أما أنا، فمفارقك فراقاً لا رجعه فيه ولاتوبة عنه .

- خطاب رائع، هيا واصل – صحت ممازحاً- لكنه نطح الجدار المتشابك لقفصي الصدري فكسر ضلعين وأحدث فتقا قفز منه وفرّ هارباّ، تاركاً وراءه خيطاً رفيعاً من الدم وفراغاً كبيراً، وقفت مبهوراً بضع لحظات قبل ان أعرف حقيقة ما جرى

لن يبتعد كثيراً - قلت لنفسي – أين سيذهب دون قدمين –

 تبعت خيط الدم الذي كان يضيء وينطفيء كيراعة، فقادني الى دروب موحشة وأزقّة كالحة أفقدتها الظلمة نعمة الحياء، كانت تمتليء بقطط شرسة، وجرذان تتذابح بلا رحمة .

كش كش، صحت بها، كفى كش، لكنها مدّت لي ألسنتها لا مبالية، واستمرت بالتذابح

عاودني الدوار الذي رافقني منذ صغري، ولم تنفع معه لا نذور أمّي، ولا تعاويذ الشيخ جاسم - الذي بالكاد يفكّ الحرف - في التخلص منه، رغم إن أهالي قريتنا متفقون ان الشيخ،هو الوحيد الذي استطاع طرد " الطنطل " من شريعة النهر، ولم يعد اليها الا بعد وفاة الشيخ " عمت عيني عليه "، لكني كنت شكّاكاً كما تصفني أمي، ولم أصدقّ ان الطنطل غادرنا يوماً، كما لم يغادرني الصداع اللعين حتى في حياة الشيخ المذكور، والآن بعد ان أصبحت بلا قلب، صار الأمر أكثر إزعاجاً، فما فائدة البحث عن كتلة همّ تصلح لكبش أو خنزير أو ربما حجر لا نفع منه، لكنني – وبحكم العادة – إستعنت بفراسة السؤال، علّ أحد رآه مصادفة – وهذا إحتمال يرفع كفّاً- فوقعت على إنسان – هكذا ظنته - يبيع أعضاء بشربة جديدة وقديمة، على عربة مكشوفة يحاصرها الذباب من كل جانب،ويطنّ حولها أسراباً نهمة ضارية، وقد رُفعت على العربة،لافتة كُتبت بخطّ رديء تفيد بأنها بضاعة رخيصة تطرد النحس وتقوّي الذاكرة، خلت نفسي أشاهد فيلماً سينمائياً من أفلام الرعب،فلا تفسير بغير ذلك، لكني مدفوعا بخيبتي وفضولي سألت البائع :

يا عم، أرأيت قلباً، قلباً بشريا صغيراً وأحمر، وله أقراط – أضفت الجملة الأخيرة لأضفي على الجو شيئاً من المرح .

 رازني بعينه وتفحصني مليّاً كتاجر ماهر،محاولاً معرفة من أية طينة خلقت طينتي، فبان واضحاً إنّي لم أعجبه، فقد برطم شفتيه مهمهماً وأدار ظهره .

 حاولت إعادة السؤال، فاوقفني بنظرة مرعبة ثم أطلق شخيراً حادّاً لم أتبين مصدره لأول وهلة، لكن زوبعة مفاجئة أزاحت قميصه، فرأيت ثقباً أسود بحجم قبضة قرصان، مغطى بشعر كثيف، كان يبرز كبقايا انفجار لقذيفة على جدار، في أعلى الصدر مكان القلب تماماً

ها، أنت مثلي إذاً – قلت ملاطفاً .

 فجأة تغيرت سحنة الرجل، فتغضّن وجهه وارتعشت أطرافه فصار لونه كالزعفران، حتى اعتقدت انه سيموت، لكنه تقدّم مني دون ان يتفوه بحرف، فأمسكني بأحدى قبضتيه وجذبني ناحيته بشدّة، بينما أمسك بالاخرى هامتي، التي شعرت بأنها ستتحطم تحت أصابعه، ثم ثبّت رأسي باتجاه واحد أشار اليه بحاجبيه ورأسه .

لست سندباداً، أنا إنسان من لحم ودم، ولم تنبت حكايتي من مخيلة كاتب مجهول، فما جرى لم أفهم علتّه، ولم أعرف ماذا يريد مني ذلك الرعب على هيئة رجل، لقد أدارني في الإتجاهات الأربعة، مكرراً الحركة ذاتها، وأنا أنظر ولا أرى حتى ملّ مني، ففتلني كالمصراع ورماني بعيداً بدفعة قوية، سقطّت من إثرها، على مسافة أمتار، ليتعفّر وجهي وتبتلّ ثيابي بمياه " خاصة " .

 بقيت منطرحا ً فترة زمنية، لأن أحداً لم يساعدني على النهوض، وحين قمت، كان الشارع قد أقفر، ولم يبق الا بضعة أطياف لكلاب شاردة هي ذاتها التي صفّقت للرجل وهو يقوم بفعلته .

 رأيت أحدها يقضي حاجته في الباحة الأمامية لمبنى فخم قيل انه دار البلدية، ثم يضحك بصوت عال غامزاً بعينه ومحرّكاً أرنبة أنفه يميناً وشمالاً، فيما كانت أذناه تأخذان شكل مروحة مكسورة الزعانف، بعدها خرجت إمرأة برأس أصلع وعجيزة تراكم عليها شحم الدهور، فالتقطته من رقبته وحملته متأرجاً ثم دخلت به، وبعد قليل، إنطلق صراخ وحشي مزّق الفضاء .

 وكوني رأيت المشهد وسمعت الصرخة، فقد ركبني خوف شديد – نعم إذا شئتم إعترافي – لذا لم أنتظر النتيجة، فسارعت الى الهرب طلباً للسلامة، وكنت محقّاً، فسرعان ما تشظّت الأصوات ورائي بأزيز راعش، تلطشني في ظهري وتوخزني كنحل هائج، وحين نجوت منها، ونفضت ثيابي، كانت الشمس قد اندثرت ولم تترك سوى قطرات ذابلة من شفق مريض .

 كنت أركض وأركض كبطل ماراثون، لم أشعر بالتعب، كنت خفيفاً ومرناً، عندها فكرت وبفرحة عارمة : هذا حسن، حسن جداً، فلن أتعب بعد اليوم وتنهدت بارتياح، لكن تنهيدتي اصطدمت بتلك الفجوة البشعة التي تحتلّ صدري، والتي صارت مأوى للرياح، فعادت منكسرة وصارخة : لن تعيش من دونه، أبداً لن تعيش، لكني عشت وامتدت قامتي طولاً، وها أنتم ترونني وتنكرون عملي، لأن قلوبكم تثقل كواهلكم .

 مضت ليلة اخرى، ولا شيء سوى الريح، تأخذني الى موت أو تيه آخر، تقول : القلب المشاكس، القلب الطفل، ترك ظلّه على حائط الكلام ومضى، مضى وحيداً، لم يتبعه الا إسمه الشاحب، وبعض من حنان قديم، أقدم من جرح، يفتح نافذة على زمن يرقص مذبوحاً، ويأبي الإنصياع، فيتبع ضجيجه حتى الإنطفاء، لكن لماذا؟ ها أنت وحدك كقطرة ماء، وفجوة فقط تحتلّ صدرك، تستبيحه، وها روحك تدور حولك، ترهقك، تربك خطوك، تقطنها على مضض، تسألك عنه، تحثها عليه، واصلي البحث، إبحثي، علكّ يوم تسمعين النداء، لكنها مصفرة يبست فهوت .

 قادني الجوع الذي ربما يحمل بعض وزر، الى مطعم كبير يغصّ بمن فيه، وطاولة مهملة، لم يات النادل رغم انتظاري، فجمعت فتات صوتي وناديته :

أيها النادل، هنا، أنا هنا –

أنت هنا؟ كيف؟ من أنت؟ عمن تبحث؟ .

 راقني سيل الأسئلة فأجبته :

عن شيء صغير، أحمر وطيّب

للتجارة أم للإستهلاك الشخصي؟

أية تجارة؟

لدينا هنا قدر ما تريد

أحتاج واحداً، واحداً بالذات.

لا تهّتم، فكلّ بضاعتنا من نوع ممتاز

وأين أجد -----

في أية سوق تذهب اليها .

ماذا تقصد؟

التفاح والطماطم وافرة لدينا

لكني أقصد هذا – وأشرت الى صدري حيث مكان القلب - .

 حدقّ الرجل بإمعان في البقعة التي أشرت اليها، ثم أطلق ضحكة مدوّية شاركه فيها جميع الرواد كأنما كانوا على موعد، فضجت القاعة بالقهقهات .

اسمع أيها الغريب، لو كنّا مثلك نبحث عن قلوبنا، لكانت المدينة كلها مهجورة .

********************

 وكونه قلبا غريباً لا يشبه أحداً، فقد راجت حوله أقاويل كثيرة سأنقلها حرفيّاً كما سمعتها :

شرطي السير: كان صاحبك يجمع حوله أطفال المدينة في الشوارع والساحات العامة ويعيق السير، لذا طردته

رجل الدين : تبرأ منه يا بني،لصالحك، انه مارق أثيم وملعون زنيم مأواه جهنم

التاجر : قلب؟ أي قلب؟، هل هو بضاعة؟  

المخبر: كان يتدخل فيما لا يعنيه، فقبضنا عليه، هو الآن رهن التحقيق ولا يمكنك زيارته

أحدى الحسناوات : لا داعي لوصفك، أعرفه جيدا، ياي، كم أسعدني

رجل الجمارك : أهو ذلك الذي يتهرب دوماً من دفع الضرائب؟

ساعي البريد : يتلقى يومياً مئات الرسائل

الأديب : انه يشبه" أنف " غوغول (1)

بائع الخضار : بارك الله فيه، لولاه لمتنا جوعاً

الخبّاز : من أجله، انما خبزت كلّ هذا

القصاب : يقيم وليمة كلّ يوم  

الخياط : أوصاني على كفن أسود

السكرتير : يحضر اجتماعاً، وربما لايعود

البوّاب : والله ما فارقني أبداً

الحفّار : كم كان قبره مهيباً

الدفّان : رحمه الله، كان صاحب برّ وإحسان

أنا : حين التقيته في ظهيرة قائظة وأنا أحاول اللحاق بالحافلة، كان قد تقلّص حتى صار بحجم حبة كستناء .

 

......................

(1) الأنف – قصة للكاتب الروسي الشهير نيقولاي غوغول .

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2032 الخميس 16 / 02 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم