صحيفة المثقف

عين العراق وعقله – بين عقم السياسة وخصب الدور والزمن الفضي / علي السعدي

حينما كان العراق يغرق في مصائبه – ومازالت تجرّ ذيولها – كانت فوائد دول الجوار متعددة التراكم، المصانع السورية تعمل بأقصى طاقتها والعراقيون في سوريا يصرفون بغير حساب، ليس هناك من قطاع سوري لم يستفد من مصائب العراق، لكن الحكم هناك كان يأخذ بيد ويطعن بأخرى، اما إيران فرتعت بكلّ اللذائذ العراقية، ما تدفعه لبعض القوى السياسية العراقية ووسائل الإعلام التابعة لها،تسترد أضعافه ربحاً مالياً ونفوذاً يلامس حدود الهيمنة، السعودية عملت مايساوي ذلك وزادت عليه بشراء ذمم لسياسيين لم يتوانوا عن التورط بالإرهاب أو تسهيل وقوعه، فيما استخدمت تركيا مع العراق سياسة القبضة والقفّاز،تصافحه بنعومة أوتمسك بخناقه .

كانت جميع تلك الدول، تخشى من نجاح التجربة العراقية وثباتها كي لاتنعكس سلباً على أوضاعها الداخلية – تركيا وإيران تخشيان من تعميم الفيدرالية، فيما تخشى كلّ من سوريا والسعودية من الديمقراطية ذاتها -  لذا زجت كل ّمنها، بأمصالها مختلفة الضرر، في الجسد العراقي الذي لم يكن في وضع يسمح له بمقاومتها ناهيك برفضها .

 لكن لاحال يدوم،فبعد مخاضات دامية وعسيرة، بدأ العراق يمتلك أزمنته، وليس مما يؤخذ عليه لو جيرّ مصاعب الآخرين لمصلحته،خاصة إنه لم يكن السبب في حصولها ولا في تفاقمها –– كما فعلت الدول المذكورة في مصاعبه - كذلك لن يكون في وضع يدفع فيه الضرر عن نفسه بإرسال الضرر نحوهم كما كانوا ينتهجون، بل سيكون في موقع المفيد للبعض والمنقذ للبعض الآخر.

قراءة في خارطة المنطقة السياسية كما هي عليه اليوم، تظهر العراق وكأن باستطاعته مدّ يديه نحو الملف الإيراني ليكون العون الوحيد لذلك البلد بعد ان بدأ طوق الحصار يضيق من حوله وسياسته تتخبط في اللاجدوى،ثم يمدّ يده الأخرى نحو سوريا التي لم يعد لها من منقذ إقليمي فعّال سوى العراق.

ذلك يعني في الواقع العملي،ان هذين البلدين اللذين كانا لهما اليد الطولى في العراق والقابلية الأكثر تأثيراً على الواقع السياسي فيه، كذلك المستفيدين الأكبرين من مصائبه – بل والمتسببين في بعضها – حان الوقت الملائم، لا ليستفيد مما هما فيه ولا بالتوقع القريب لما يمكن أن يحدث فيهما – رغم ان ذلك وارداً – بل للتخفيف من الضغط الذي كانا يمارسانه . 

قد يكون الأمر واضحاً بالنسبة لسوريا، فمن نافل القول انها باتت في حاجة ماسّة الى مايتخذه العراق من مواقف تختص بوضعها المتدهور، وبالتالي فمعظم وسائلها الضاغطة على العراق، قد فقدت أو ضعفت،وبالتالي كُسر الجدار الأول الذي يطوق العراق .

أما (الجدار) الإيراني،  فعلى الرغم انه أقوى من نظيره السوري وأكثر متانة، الا انه ليس من دون ثغرات قد يشهد القادم من الأيام وفي ظلّ المواقف الإيرانية المتصلبة والضاجّة بالشعارات المعبأة بالايدولوجيا،توسعها الى درجة تكفي للنفاد منها عراقياً بأكثر من جانب .

ان السياسية العراقية عموماً، تتقاسمها أربعة (لوبيات) رئيسة،تتفاوت من حيث الحضور والتأثير،

و (اللوبي) كلمة التصقت بقوى الضغط المساندة لإسرائيل في السياسة الأمريكية، ويتشكّل من سلسلة طويلة من مراكز القوى ـ المالية ـ الإعلامية ـ السياسية ـ الثقافية ـ التي تدفع الى إعتماد مقولة إن دعم إسرائيل واجب تقتضيه الأخلاق وتوجبه المعتقدات الدينية، حتى أصبحت المجاهرة بصداقة إسرائيل، جواز مرور للنفوذ في مختلف القطاعات الأمريكية بما فيها هوليود الشهيرة صانعة النجوم.

الكلمة لم تنتشر في العراق بشكل جلي، لكنها موجودة بقوة على صعيد الواقع السياسي، وهي على التوالي حسب أهميتها

1ـ اللوبي الإيراني ـ  وتمثله  قيادات أحزاب وتيارات سياسية  شيعية وبعض الشخصيات المستقلة، يلاحظ عن هذا اللوبي عدم مجاهرته بعلاقته الوثيقة مع إيران، إذ يصمت عن الإشارات المباشرة الى تلك العلاقة ومدى عمقها وتأثيراتها على الوضع العراقي، وينبع ذلك من قناعات إن تلك المقولات ليست جديدة، وقد باتت تستهدف كل المنتمين إلى مكون معين بحكم تسميات طائفية، لذا يبدون زاهدين أو مترفعين ـ أو ربما محرجين ـ حتى عن مجرد الرد على مايساق ضدهم.

أصابع اليد الإيرانية المبثوثة في العراق، كانت تثير الخشية في نفوس بعض السياسيين، يأتي أهمها من تلك القوى السياسية أو السياسيين الذين يستطيعون حرف المواقف العراقية عن أهدافها الوطنية ومن ثم جعلها تميل لأتخاذ ما يتساوق والرؤية الإيرانية إقليمياً ودولياً، ومع التأثير المباشر لتلك الأطراف لقربها من صادر القرار ووجودها ضمن مفاصل الدولة ومراكزها الحساسة ووسائل الإعلام المتعددة التابعة لها، فإنها تمتلك القدرة على تصوير ذلك بكونه جزء من القرار الوطني العراقي – بل ومقياس وحيد للوطنية -   لكن هذا( اللوبي ) يقسم بدوره الى :أ-  قوى وأشخاص يرتبطون عقائدياً بإيران حيث يعتبرها بعضهم انها تمثل دولة الإسلام وبالتالي فالتعاون معها بل والدفاع عنها واجب ديني، هذا القسم هو الأقلّ عدداً لكنه الأكثر ثباتاً،ب- قوى وأشخاص ترتبط مصلحياً بواسطة الدعم المالي المباشر، وهذا الصنف هو الأكثر حركة والأقل ثباتاً حيث انقطاع الدعم المالي سيفقده الكثير من مصادر نفوذه ويحدّ من حركته وقد يخرجه من الحياة السياسية، لذا سرعان مايبحث عن مصادر بديلة وبالتالي يبدلّ ولاءه - ج-  أما الصنف الثالث، فهم أولئك المرتبطون ( وظيفياً)  بالأجهزة الإيرانية، وهؤلاء يتكفلون بالأعمال السرية في الغالب ويتم التعاطي معهم بشكل إفرادي عموماً .     

1ـ اللوبي السعودي: وتمثله التنظيمات الأصولية المتشددة وبعض الزعامات والقوى السياسية ذات الميول المذهبية أو الباحثة عن دعم ومساندة خارجية لتقوية وضعها الداخلي من مثل الحزب الإسلامي العراقي، بعض أجنحة حزب البعث ـ (الجيش الإسلامي) ـ تنظيم أنصار السّنة ـ جند السماء ـ كتائب ثورة العشرين ـ وغيرها من التنظميات المتشابهة في النسق والتوجه، وقد أغدقت السعودية أموالاً طائلة على هذه القوى والتنظيمات من أجل تعميق حضورها السياسي والإجتماعي للتأثير من ثم في مواقفها من الوضع العراقي .

مايلاحظ في هذا اللوبي، ان معظم القوى المنضوية فيه، تحدد علاقتها مع السعودية مصلحياً، إذ ان المرتكز المذهبي السعودي، لايشكل بصفة عامة،قوة جذب للتنظيمات السياسية الإسلامية التي تعيش مجتمعاتها واقع التحولات الديمقراطية،سواء في العراق أو غيره من بلدان المنطقة، وبالتالي فالقوى الوحيدة التي تستند على الفقه السعودي، هي التنظيمات المتشددة العنفية – بل بعضها على وجه ادقّ- وحتى هذه، فإن حاجتها للمال السعودي أولاً، هي الجوهر المتحكّم في تلك العلاقة .   

2ـ اللوبي السوري: يتمركز في تنظيمات حزب البعث المنحل وبعض التيارات القومية العربية الأخرى، حيث تعتبر أن سوريا ـ وبعد سقوط نظام صدام ـ باتت هي القيادة المركزية للحركة القومية، وانطلاقا من ذلك، فقد أصبح مكتب القيادة القومية لحزب البعث في سوريا، المحدّد الفعلي للمواقف السياسية التي يتخذها هؤلاء في العراق.

ضعف هذا اللوبي كثيراً بعد الأحداث الأخيرة في سوريا، وبالتالي فتأثيره بدأ بالانحسار فعلياً،وان أعلن عن نفسه في بعض العمليات العنفية أو المناسبات المختلفة هنا وهناك .

4ـ اللوبي الأمريكي: يكاد ينحصر في قيادات إقليم كردستان التي أعلنت دون مواربة، عن حقيقة ارتباطها ومراهناتها على الحماية الأمريكية منذ مغامرة صدام في حرب الكويت، وربما امتداداً في المستقبل، اذ لا رافعة حقيقة لتنفيذ الطموحات سوى تلك الحماية التي  توفرها أمريكا حتى في حال انسحابها من العراق، يضم اللوبي الأمريكي كذلك، بعض القوى الليبرالية واليسارية المتحولة، وغيرها من الرموز الأكاديمية والثقافية والإعلامية، لكن هذا اللوبي كذلك، مرشح لفقد الكثير من أوراق قوته، بعد ان نفذت أمريكا انسحابها العسكري من العراق  .

أن لكلّ من هذه (اللوبيات) وسائله الإعلامية وحركته الميدانية والسياسية والخدماتية التي يحاول من خلالها توسيع حضوره الإجتماعي وتعزيز نفوذه السياسي، لكن معظمها، لا يعمل من أجل مصالح من يرتبط بهم وحسب، اذ أن له مصالحه الخاصة التي يعمل على تثبيتها،لذا يرى أن مساعدة الخارج، أمراً ضرورياً للإستمرار في تحقيق المكاسب، الا ان اللوبيات مع ذلك، عليها ان تدفع أثماناً في كلّ حال، لأن الداعمين ليسوا مجرد جمعيات خيرية أو مالاً سائباً.

على تلك الحيثيات، فإن أسئلة الموضوع تجتّر نفسها: ماهو مصير هذه اللوبيات؟ وهل تستمر في حركتها وفعلها مستغلة ضعف العراق؟ أم ان للعراق إتجاهات أخرى يبدو في مقدمها إستعادة قوته المفقودة التي باستطاعتها وقف التدخلات المجاورة وتفتيت اللوبيات من خلال تذويبها في الهوية الوطنية العراقية، أو وضع حدّ لنشاطاتها، فما الذي يحتاجه العراق ليفعل ذلك ؟

يمكن للعين العراقية المدققة، ان ترى ورغم كلّ ما يعانيه العراق، ان البلد يمرّ بما يمكن تسميته بالزمن الفضي، فجميع دول الجوار، تعيش واقع أزماتها،تركيا المحاصرة بضخامة طموحاتها الشرقية بعد فشلها في توجهاتها غرباً، وهي تصطدم برفض ضمني من العرب، الذين رغم المشترك المذهبي معها، الا ان  احداً منهم لايرغب بهيمنة يمكن ان تفرضها ( عثمانية ) جديدة يعاد أحياؤها، وهو مايخالف الطموح بدور إقليمي عند كلّ من مصر وسوريا والسعودية بل والعراق كذلك، يوازي الدور التركي أو يضاهيه، اما علاقة تركيا مع الغرب، فقد أفسدتها مع أمريكا مواقفها الأخيرة من إسرائيل، ومع أوروبا واجهت تركيا الرفض المستمر لعضويتها في الاتحاد الأوربي، كما برز التوتر المتصاعد مع فرنسا على خلفية القرار الفرنسي بإدانة المجازر ضد الأرمن في العهد العثماني، ومع قبرص واليونان بعد تجدد الخلافات القديمة، فيما علاقة بلغاريا ورومانيا وغيرها من بلدان الشرق الأوروبي كانت دائماً في موقع النفور، فلم تكن شعوب تلك البلدان تنظر بودّ يوماً الى الأتراك بعد ان تستحضر ذاكرتها ما ارتكبه العثمانيون وبالتالي ليس من مصلحتها ان ترى تركيا تزداد قوة ، اما عن الوضع الداخلي لتركيا، فبعد التحركات الكردية المتصاعدة تظاهراً وعمليات عسكرية، ومع بدء التململ العلوي نتيجة للموقف التركي من سوريا، بدأ القلق التركي واضحاً بانعكاسه على فقدان القيادة التركية لهدوئها واتزانها السابقين واتخاذها من ثم مواقف يسودها التوتر والارتباك وعدم الدقّة،فوزعت صراخها شرقاً وغرباً من دون فاعلية تذكر.

الحديث عن السعودية المحاصرة أصبح معروفاً، ولو تمكّن العراق من إنتاج 10 ملايين برميل من النفط يومياً لتعويض النقص الذي يمكن توقعه في حال حصول اضطرابات في السعودية، لكان الوضع الداخلي السعودي قد دخل فعلاً واقعاً آخر أكثر قلقاً، ومع ذلك يدرك قادتها ان دورهم قادم وإن تأخر الى مابعد حسم الملفين السوري والإيراني.

ذلك هو المشهد الذي يرتسم حول العراق، وهو بمجمله يعمل جيداً إذا أحسن استخدامه، ما يساعد على ضعف ( اللوبيات ) الإقليمية وتراجع دورها المفسد للقرار الوطني ،لكن ماتراه العين العراقية، ينبغي ان يحلله العقل الوطني العراقي المطالب بأن يتخلص من ترهله وتقليديته،ليضع من ثم  إستراتيجية دقيقة للتخلص من تلك اللوبيات تستند الى  :

1: التعجيل بإقرار قانون الأحزاب الذي يلزم فيه كلّ حزب أو حركة سياسية، أن تحدد مصادر تمويلها بشكل واضح، وهو مايفقد الدول الإقليمية أهمّ منافذها العراقية، ومن ثم يكشف طبيعة القوى السياسية المرتبطة بها .

2: سنّ قانون يجعل قبول التمويل من الخارج من دون علم الدولة وموافقتها، جريمة تقع تحت طائلة المسؤولية الجنائية .

3: إصدار قانون يعاقب بالخيانة كلّ من تعامل مع دولة أجنبية بشكل سريّ .

تلك هي بعض الخطوات التي تجعل العين العراقية لاتكتفي بالنظر، بل ترفد العقل العراقي بما ينتج فكراً سياسياً مثمراً، كي يدخل من ثم العراق زمنه الفضيّ، انتظاراً لزمن (ذهبي) قادم رغم مايواجه من صعوبات  .

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2048السبت 03 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم