صحيفة المثقف

الصحفي الأمريكي الراحل أنتوني شديد وكتابه "بيت من حجر" .. سيرة موطن وعائلة وشرق أوسط ضائع ..

هذه القصص جاءت كمذكرات مفجعة لسنة عاشها في جنوب لبنان لإستعادة بيت عائلته المهجور هناك .

الكتاب كتبه شديد بنبرة حزينة ومع أن القارئ لايعرف مؤلفه الذي سيفاجأ به كونه من عائلة لبنانية عمل مراسلا لصحيفة نيويورك تايمز الأمريكية وتوفي في 16 فبراير / شباط من هذا العام عن عمر ناهز ال43 عاما بينما كان في مهمة في سوريا، هذا الكتاب هو عبارة عن تصورات شخصية جمع فيها مشروعه الذي طالما دغدغ مخيلته فضلا عن تأملاته في السياسة والجمال يعرض فيه بمهارة الصحفي كيف كان يشعر وبحزن دفين حيال هذه المنطقة من الشرق الأوسط الضائع كما يطلق عليه .

" بيت من حجر" هو سرد أنيق لموضوعة مؤلمة هي هجرة عائلته في الفترة التي كان خاضعا بها لبنان للدولة العثمانية التي عبر عنها شديد بالفترة المُرة منطلقا بها من " مرجعيون " إلى أوكلاهوما في أمريكا أوائل القرن العشرين، رحلة العائلة كانت ترى فيها قرب سقوط هذه الإمبراطورية بسبب ما لمسته من تشبث الأسر العربية بوطنها وانتماءاتها حتى مع رحيلهم عنها، شديد عكس كل ذلك في الحديث عن بلد ته الصغيرة تلك التي لاتبعد كثيرا عن الحدود الاسرائيلية حيث كان لجده الكبير منزلا هناك تركه شاغرا يمتلك شديد فيه جزءا من إرثه، في مرجعيون تناول الصحفي في كتابه كيف يحاول المجتمع هناك التكيف على ما يواجهه من عقبات خاصة في ظروف الحرب وبعد سنوات طويلة من السفر والإقامة يجد نفسه يعمل مراسلا صحفيا في الشرق الأوسط لصحيفة أمريكية هي نيويورك تايمز الغنية عن التعريف وليقترب كثيرا من منزل الأسرة الذي هجرته عائلته قبل أن يستقروا في أمريكا .

جيرانه من اللبنانين هناك رأوا فيه شخصا يحاول التحرر بسرعة من الوهم أو من أي خيال لن يمكناه بالنتيجة من الوقوع في أحضان التصالح مع أفكاره واعتبار رغبته في إعادة بناء المنزل بأنها متهورة وخطيرة، لكنه بحاجة الى المشروع الذي من شأنه أن يهدئ ويصلح من جسده المصاب بالربو عكس ما ما كان يفكر به الآخرون، شديد يكتب في أحد فصول الكتاب أن الرغبة في إحياء المنزل لن تتوقف وإصراره لم يتوقف يوما عن شيئ ما أراده، وقد استأجر رجلا عجوزا إسمه أبو جان وهو عامل ماهر له قوة هائلة في العمل مع أن ساعات عمله غير مظبوطة وهناك شخصيات أخرى مر عليهم شديد في كتابه التقاهم في ذلك المكان وهم يقتلون الوقت بتدخينهم الحشيش وشرب الويسكي والبيرة وشتم الشرائط الزرقاء ( وهم القوات الدولية ) وممارستهم الخشنة لكل أنواع التعسف البيئي مما يؤثر على الممرات الحيوية للحدائق ومزارع الزيتون التي يعمل قسم كبير منهم فيها مع عدم تخليهم عن الألفاظ النابية وتوجيه الإهانات بعضهم لبعض .

الكتاب جاءت جمله كأنها منحوتة سهلة لكن مؤلفه تجنب أن يسلسل الأحداث زمنيا بسبب تحولاتها بين الماضي والحاضر محاولا تجنب الإنزلاق فيها والخروج من التاريخ الحاضن لها بيسر بسبب قصص أسلافه الذين فروا من الفوضى في الفترة التي أعقبت إنهيار الإمبراطورية العثمانية، هذه القصص ليست سهلة المتابعة لكن لها تأثير كما الألوان المائية على اللوحة، في " بيت الحجر " يلاحظ القارئ كم هي سعة إطلاع الكاتب لما يجري في هذه المنطقة الحساسة من الشرق الأوسط والتي ينظر فيها شديد للسياسات القائمة في دولها باستخفاف لكنه يجعل مع ذلك مجالا للتأويلات خاصة في مسألة معقدة وشائكة كورقة الطائفية التي لوح بها في بلاد الشام على إثر الصراع الشعبي الذي حدث ويحدث فيها الآن والتي نقل شديد إلى صحيفته عن طريق بعض شهود العيان تقارير ما يحدث هناك مع ما نقله إليها في وقت مبكر عن القتال الذي حصل في جنوب لبنان خلال حرب عام 2006 بين اسرائيل وحزب الله والذي راح ضحيته مئات القتلى من المدنيين وبصورة مروعة، كانت تلك التقارير غالبا ما تحمل له القلق بسبب أنها نابعة من خوفه على الإنسانية خاصة في العالم العربي والكثير من الصحفيين كانوا يكنون له إعجابا شديدا ليس بسبب جرأته ولكن لتعاطفه ونقله الدقيق لما حصل هناك بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر .

في النهاية أنتوني شديد يدرك أنه بدأ مستمتعا بهذه الحياة الهادئة والمشاريع الإبداعية التي بدأ يتخيلها في مدينة أجداده دون أن تأخذه من عمله كمراسل أجنبي يقول عن تلك الفترة: (كنت أعتقد أنني يجب أن أكون في بيروت، لكنه عملي الصحفي الذي يجعل مني أن أكون حذرا جدا لأن الحياة هنا تشعرني بقديمها الذي حمل بؤسا وبنادق ويقف على كل حروبها، مع أنه يشعرني أحيانا بفراغ قاتل، وجفاف، ويأس، ونقيض الخلق الذي هو خيالا متوحشا، وعندما يأتي الوقت للإختيار بين البقاء هنا تحت أشجار الزيتون أو العودة بنفس الطريق مع كمبيوتري المحمول، أترك ذلك كله لروحي) .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2051 الثلاثاء 06 / 03 / 2012)

ترجمة / أحمد فاضل

 

كتابة / ستيف كول كاتب وناقد في مجلة نيويوركر / فبراير / شباط / 2012

عن / صحيفة نيويورك تايمز 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم