صحيفة المثقف

الشاعر وأصفاد العبودية .. / وديع شامخ

ورياض الأدباء، وتنسّم ضوع الإبداع،إن مجالسة السلاطين وأشباههم شر وسفاهة، مبعثة للتهلكة، موقعة في المشبوه، ويعلم كل من إستوقفته إحصائيات البلاد وناسها التائهين على وجوههم في الأصقاع .. يعرف تماما أن السلاطين قوارض لا تدّخر جهدا في قرض حبال المودة، والحبال الصوتية للناس والعباد حين إنتهاء صلاحية بضاعتهم على الموائد ومنصات التهريج .

ونحن كما جاء في الخبر"أمة تنحني لمقتضيات القول الشعري في ضروراته الشعرية وزْناً وقافية"كما تنحني لضرورات الحياة" قتلا وسفكا"مع بعض الزحافات والمكرمات المباحة بلا علل.

أمة القول والبيان وسلاطة اللسان ومثقفات القوافي، ووقع قراعهن كوقع النصال في قلوب الأعداء، و ننحني لمقتضيات" سيوف دولنا" حيثما دانت لهم الدول وأحترقت الأوطان.. فنحن لا نفهم الوطن إلا عبر حاكم جلاد يختصر البلاد بسوطه أو بمعلقة شاعر " قاتل وسفاح" أو عصا حاكم بهلوان.

تجد هذا الشاعر المعلّق على أستار الكعبة في جزيرة العرب، يذرٌ وصية أبدية في عيون الذين يصطادون الموت ويرسمونه بالكلمات

متى نُنقِل إلى قوم رَحــــانا يكونوا في اللقاء لها طحينا

نًجـذُّ رؤوسهم في غير بِرٍ فما يدرون ماذا يتّقونا

بشبان يرون القتل مــجدا وشيب في الحروب مجربينا

و المتنبي الشاعر يقول متغنيا بالموت ومخاطبا سيف الدولة:

نثرتهم فوقَ الأحيدب نثرة

كما نثرت فوق العروس الدراهم

: أو في قوله

لكلَّ إمرىء من دهره ما تعودا

وعادة سيف الدولة الطعن في العدا

الى شاعر عراقي معاصر يقول "وطن تشيّده الجماجم والدم تتهدّم الدنيا ولا يتهــــدّم..

لما سلكنا الدرب كنـا نعلـم إن المشانق للعقيدة سلّم".

وأخر كتب نشيد العراق الوطني القديم " وطن مدّ على الإفق جناحا .. وارتدى مجد الحضارات وشاحا" ، ولم يحصل في نهايته إلا على موت شنيع على يد الطاغية صدام حسين بعد أن كان خلّه الوفي .. إنهم شعراء السلاطين الذين يقفون بمراتب أسوأ من وعّاظ السلاطين،كما يرى شاعر أم المعارك في لعبة كرة القدم، بنظافتها وأخلاقها ورسالتها الإنسانية، محض قتال في قوله " إن تكن لعبة لهم .. فإنها لنا قتال"، متخذين من أحلام سلاطينهم وسيلة في التكسب وشرب الخمرة في قحوف جماجم ناسهم وشعبهم.

ماالذي يحدث للشعر والى أمة الشعر حينما تتحول القوافي الى سهام وحراب والشعراء الى مرتزقة يخونون القول والكلام ويحولون حبال الصوت الى أعواد مشانق، الى أبواق تنفخ مُنذرة بعسكرة العقول وإستلاب النفوس؟ إنها العبودية إذن .. وثقافة الموت ...

مالذي نقوله لشعراء أدمنوا جلد أوطانهم بسياط الكلام ومعسول الأوهام، عبر اختصار كلّ شيء بما يقوله السلطان، حتى غدا الشاعر أكثر قسوة من السجان وصار الشعر مصيدة للجموح وتدجينا للخيال.

فأذا كان "العبد" في الشاعرعنترة العبسي لا يرى في شفتي عشيقته إلا بريق السيوف أملا في الحصول على حريته المستبله، فهنا وهناك يتسابق الشعراء الى عبوديتهم بوفرة عالية من الجباه الملساء أو المحفورة بسيمياء أولياء نعمتهم أو بأصابع مختّمة بخواتم فحيح حناجرهم وعقولهم .. شعراء حرباوات، وحناجر صدأت من تلميع صور الطغاة..ولهم في كلّ عرس ردحه وفي كلّ مأتم منقبة.

َيعقدُ لساني قول" شاعر القادسية الثانية ": " إنه يبحث عن سيف دولته في هذا الطاغية " وُيعضده تلميذه، الذي تمرّد عليه وصار شاعر" أم المعارك" بالقول" كان الطاغية مشروعنا الوطني" !! ويقول بصفاقة منتهكا حرمة الشعر بقوله " الشاعر مثلا كانت تنطلق من بين أصابعه الحروب ومن بين أصابعه تتحجم وتتوارى".. وما بين " جنجلوتية" البحث عن سيف الدولة والمشروع الوطني وصياغة الحروب والبكاء على وطن مستباح،تنطّ علينا هذه الأيام مجموعة من الحبال الصوتية لشعراء أوعلى الأصوب " شعّارة المنصات، وأرباب الدهاليز والمطبّات، وشحاذوا الموائد الذين تمرغوا بدم العصاليك ليرثوا "ملكوت الأنبياء الكذبة" ويناصرهم من بعيد أو قريب، الموتورون بكل خبر دسم والساعون الى مآرب الأمر برخيص العبارة والكثير من الصفاقة والنزرالقليل من الموهبة،والكثير..الكثير من جثث الضمير والحياء التي عششت على أرواحهم وسرت سريان السرطان في أجسادهم ..ويقولون إننا "امة لسان" ويعنون الشعر والبلاغة والفصاحة والسحر والبيان،وما يدرون اننا أمة كائنة ومقيّدة في حبال صوتية جاهزة لتكون أفاعٍ لالتهام النبؤات، وقوارب لعبور الطغاة، ودماء لصناعة المسلاّت..حتى حقَّ في العرب الوصف " أمة صوتية "!

وأما شعراء المرتزقة، فينطبق عليهم قول الكتاب المقدس:" حنجرتهم قبر مفتوح، بألسنتهم قد مَكروا، سمُّ الأصلال تحت شفاههم، وفمهم مملوء لعنة ومرارة، أرجلهم سريعة الى سفك الدم، في طريقهم آغتصاب وسُحقٌ، وطريق السلام لم يعرفوه".

تحوّل الشاعر الى حنجرة، بوق، وطبل، ومزمار ... والأدهى من هذا أنهم لا يريدون نزع أقنعتهم بعد انتهاء الحفلة التنكرية، رغم موت السلطان وتغير الأحوال، وكأنهم في جبّ الرذيلة واقعون، والى مآلهم سائرون. ..

كيف يقول الشاعر" انني أبحث عن سيف دولة أو مشروع في حاكم أو حاكمية،و يقف أمامه الشاعر "أبو العلاء المعري بقوله : أَراني في الثَلاثَةِ مِن سُجوني فَلا تَسأَل عَنِ الخَبَرِ النَبيثِ

لِفَقدِيَ ناظِري وَلُزومِ بَيتي وَكَونِ النَفسِ في الجَسَدِ الخَبيثِ .."

نراه يرهن جسده بمحابس ثلاثة خوفا على لؤلؤة الشعر وجوهرها السامي .." ثلاثية الوجد" !!؟

كيف يكون الشاعر صعلوكا يبحث عن المغانم المادية، وأمامه عروة بن الورد وهو ُيقسّم جسمه في جسوم كثيرة ويشربُ قراحَ الماء والماءُ باردُ.

كيف يدّعيّ الصعلكة وأمامه "أبو نؤاس ووالبه ابن الحباب الأسدي وسلمه الخاسر والوليد وغيرهم من الصعاليك الحق"، الذين أطاحوا بهيبة عمود الشعر وعمود السلطة، وأجلسوا الرسم الجاهلي الدارس على عقبيه .. وضحكوا عليه بملء حياتهم وشعرهم. " "قل لمن يبكي على رسم درس .. واقفا ما ضرّ لو كان جلس"،

وما تملقوا لسلطان ولم يغوهم غير سلطان الشعر!.. وإذ كان هارون الرشيد بكل مجده يسعى الى مجالسة "ابو نواس"، كان طاغيتهم البليد صدام حسين يصف شاعر الحداثة العربية الكبير يوما بوصف سمج " إضحوكي وفارسي الأصل ".كيف يقول الشاعر إنني شاعرالبلاد وعميد العباد وما أنزل الله من سلاطين الألقاب وهو قزم لا يجرؤ الدخول الى مملكة شعراء أمثال محمد الماغوط في تمرده الكبير عن "الجنجلوتيات الوطنية والتخاريف الشعرية"، ومايكوفسكي في احترامه لذاته وسط مشاعة الشعر والحياة في ظلال الايديولوجيا، ومحمود البريكان في صمته البليغ وموته المريع .. وكوكبة من الشعراء الذين لم يغزلوا ثوبا لملك أو سجادة لأمير أونطعا لجز رقاب الآخرين، شعراء أفذاذ، قاوموا عسل السلطان بخشن الطعام ولاذوا بالكلمة وتدرّعوا بالحب من هول ذاك الزمان وهذا الزمان أيضا، وكانوا "ملح الأرض وحجارته الحيّة"

كيف يجرؤ هذا المتشاعر في الإعلان عن نفسه إنسانا وحرا،وهو عبد للمعارك وأمها وإختها وشحاذ على باب المكآفات الوزارية والرئاسية والمكرمات التي ُتقدّد لحم الشعب وتمتص رحيق روحه في زمان الحصار والجوع ...؟

أيُّ شعر سيسكن في مخيلة الأنسان من حناجر هؤلاء ؟

شعراء نزعوا بيرية الطاغية والزيتوني القديم ليعلنوا الولاء للعمائم والسدائر واللحى ..!! وضعوا أصابعهم رهن الخواتم، وقنعوا بحصة السحت من مال الشعب.

فمتى يكون لدى الشعراء حناجر ِبِكر لا تُفضّ كلّ يوم.. ومتى تكون لهم جباه بقطرة حياء واحدة، ومتى يكون لغيبة السلطان " مطهرا" للنفوس، ودعوة لمراجعة الذات والتأمل في ماضي الحناجر وأعواد مشانقها ؟؟

وهل يستطيع الشاعر أن يقف بقامته وأمام مرآة ضميره أولا، ويسأل العالم كلّه بالقول

أنا البحرُ في أحشائه الدرُ كامنُ

فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2053 الخميس 08 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم