صحيفة المثقف

مبروك على أهل فاس الأسدان البرونزيان

اكتشفت أنني أمام حيرة عارمة أحدثت إعصارً داخل أوردة مخي وأروقة عقلي، وحرن قلمي أمام صعوبة لموضوع الذي يبدو لغير العارفين بسيطا هينا. ولم أعرف من أين يؤكل الأسد يا ترى وهل من الأولى أن أبدأ البحث في أسباب ودوافع استجلاب أسدين برنزيين من بركينافاصو، والتي لا أجد واحدا منها منطقيا يستحق الاستناد عليه في ذلك. أو ألقي الضوء على  القيمة الفنية والمتحفية والأهمية الثقافية والأثرية التي يمثلها أي نصب وتمثال والتي أهلتهما ليربضا على أرضية أهم شارع بالمدينة دون رجالاتها ورموزها التاريخية ورجالاتها الوطنيين. أم أن أوجه كتابتي نحو التنقيب في الرمزيةٍ المعنوية والدلالة التاريخية التي جعلت النصبان يتبوءان صدارة واجهة المدينة "شارع الحسن الثاني" الذي صرف على تزويقه ما يفوق الثماني مليارات؛ وذلك لأن لكل نصب أوتمثال حكاية ورمز وقيمة تاريخية، كما هو الحال مع تمثال "نهضة مصر" الذي يعد رمزاً لمصر الحديثة، ودلالة تاريخية خاصة تشير للأحداث السياسية التي مرت بها مصر حين كانت تطالب باستقلالها.

أو كتمثال الكلب الإسكتلندي الذي كان لرجل مسن كلبا، يصاحبه في كل تحركاته مدى حياته، ولما مات الرجل، وأراد الجيران وكعادتهم الاعتناء بالكلب ليكمل حياته معهم؟، رفض الطعام والشراب ومواصلة حتى مات حزنا على فراق صاحبه فصنع له الاسكتلنديون تمثالا يرمز للوفاء.

أوتمثال يسوع الذي يستقبل الزائرين بذراعين مفتوحين، فوق جبل كوركوفادو المطل على مدينة ريو دي جانيرو ورمزها والذي يحتل المكانة المتميزة في قلوب الشعب البرازيلي.

أوتمثـال فيـنوس دي ميلــو القرن الرابع قبل الميلاد. أوتمثال زيوس في جبال اولمب في اليونان. أوتمثال روديس العملاق الشاهق في جزيرة روديس. أو تمثال الحرية المطل علي خليج نيويورك. أوتمثال «أسد ايفران» المعلمة المشهورة بمدينة افران والذي أصبح رمزا وعلامة لها. وغيرها كثير وكثير جدا ويضيق المجال للإحاطة بجزء يسير منها.

أو اتجه بمقالتي للاستفسار عن آراء المواطنين العادين الذين كثيرا ما لا يتنبهون للعديد من المظاهر والسلوكات التي تمر بهم أو يمرون بها سواء حياتهم أو في شوارع المدن التي يسكنونها ولا تسكنهم، وهي من الاتساع بحيث تشمل كل المحيط بهم من الأشياء والأشخاص والتي يدخل الكثير منها ضمن عاداتهم اليومية المكرورة.

أم أسأل المثقفين الذين تستوقفهم أبسط الظواهر وتسترعي انتباههم أبسط المتغيرات وأدق تفاصيلها على تفكيرهم وتثير في أذهانهم الكثير من الأسئلة المحرجة والملحة والتي قد تغنيني في موضوعي هذا، عن الخوض في كل ذلك فلا احتاج إلى طرح أفكاري وآرئي الشخصية، لأني سأجد في المثقفين من ينوب عني فيسهب الحديث عن التمثالين وعن قيمتهما الفنية ورمزيتهما المادية ودلالتهما التاريخية، كل حسب النظرية التي تلائم توجهه وتناسب مزاجه ومصالحه..‏ وقد يتطرق بعضهم في حديثه لرؤيا وأفكارعامة الناس الباطنية والظاهرية..

 

ولقد جاءت محاوراتهم طريفة كالثالي:

قال أحد أبناء المدينة وهو أستاذ بإحدى جامعاتها: صحيح أنه شيء جميل أن تتصخر أمام الأسد المنصوب على شارع الحسن الثاني وأنت تشرب قهوتك على "طراس" إحدى المقاهي التي تتوزع على أرصفته، وتتفرج متفحصا بعينين حائرتين الحشود الواقفة أمام تمثاليه البوركينافاصوليين وقد سلباهما الناس أعينهم وانخرطوا في تقديسهما، في عبودية ارهبت الموقف والمكان والأطيار المعششة بين أغصان الأشجار العتيقة المحيطة.. لكن ليس ذاك هو منظر المدينة التي نبحث عنها، والتي تغفو على حواف ذاكرتنا، وتدخل قلبوبنا ولا تخرج. إننا نريدها مدينة تشبهنا ونحن نشبهها، وتتسع لأحزاننا وأفراحنا وأحبتنا، وليست تلك التي انقطعت خيوط التلاقي وخطوط الحوار بينها وبيننا فصرنا بها غرباء لا نعرفها ولا تعرفنا.‏ حيث اختلط بها كل شيء بكل شيء لدرجة أن معالم الأشياء المميزة بها أخذت في الزوال ولم يعد هناك مجال للإبقاء على ما يمكن تسميته اصطلاحا بالملمح أوالنكهة الفاسية –حتى لا نقول الهوية-، حيث ضاع وتاه وراح إلى غير رجعة، ولم تعد المعالم تحتفظ البنكهة والبراءة والرونق السابق. المباني تغيرت، وأغلب واجهات حيطانها باتت مرتعا للإعلانات ومحط للافتات الإشهار والانتخابات بشتى أنواعها مختلطة بأجهزة التكييف وهوائيات شركات الهواتف النقالة، لحد أنه لا يمكن التمييز بين مبنى وآخر وكأنها فسيفساء من الفوضى، والشوارع أستبدلت الخضرة التي ترتاح لرؤيتها العين بألواح الإعلانات الباعثة على التقزز والاشمئزاز. غدت الشوارع ومداخل المباني وأشكال المنازل في الأحياء والطرق، مليئة بكل أنواع القمامة التي أصبحت المشهد المألوف للمدينة، وفي هذا الخضم البائس يأتي الأسدان البرونزيان ليتربعا على عرش التمويه والمغالطة لينطبق على المشهد المثال الشعبي " العكار على لخنونة" و " يا لمزوق من برا آش خبارك ملداخل"..

وما أحد الفاعلين السياسيين والجمعويين بالمدينة فقال معلقا: لقد عودنا مسيرو فاس المحليون على أن يفاجئونا بالكثير من خرجاتهم الاندفاعية، وتصريحاتهم المثيرة، وآرائهم الغريبة، وذلك كلما قربت الاستحقاقات، وخلالها وحتى بعدها كهذه الخرجة والمتمثلة في نصب الأسدين البوركينافاصوليين ...لأن الكثير منهم يحبون أن يكونوا دائما في الضوء، ولا يجدون السعادة أو راحة البال إلا إذا كانوا موضوعا يتناوله الجميع بالاتفاق معهم أو بالاختلاف عليهم، لا يهم ماداموا هم محور أحاديث الناس في الأندية القليلة الوجود، وجوهر نقاشات تجمعاتهم في مقاهي المدينة التي تعرف ازدحاما لا محدود.

وإذا نظرنا إلى الأمور بشيء من حسن الظن فإننا لن نجد عيبا في أن يسعى الإنسان للتأثير في بيئته ومجتمعه، حتى لو ارتبط ذلك بشيء من حب الظهور والحرص على الشهرة والجري وراء الأضواء،  شريطة أن يكون ذلك كله مرتبطا بما ينفع الناس ويبقى في الأرض، أما أن يكون الهدف هو لفت الأنظار، حتى لو كان فيه خداع وتضليل للناس، فذاك الخطأ الذي يجب أن يلام عليه كل من يقع فيه، حتى لو كان هذا الجمهور لا يمانع كثيراً في التعرّض إلى التضليل. كما قال الفيلسوفة الأميركية "حنة أرندت" في كتابه "النصب التذكارية"" إن الدعاية الجماهيرية اكتشفت أن جمهورها على استعداد دائم لتصديق الأسوأ مهما كان منافياً للعقل" لأننا جميعا نعيش تمثيلية سخيفة نمثل فيها على بعضنا البعض، وكما قال زرادشت: "أكثرنا ممثلون بصورة أو بأخرى. بعضنا ممثلون صغار وبعضنا ممثلون كبار. وكلما نريد "بوعي أو بغير وعي" هو الشهرة وأن يلف الناس حولنا وليست الأفكار والإيديولوجيات هي ما نسعى لترويج لها حتى يؤمن بها الناس، بل نروح لشخوصنا. نسبغ على بضاعتنا الكمال، كي يسبغ الناس علينا الكمال؛ وكأننا وحدنا من يمثل الكمال". وفي نفس السياق يؤكد علم الاجتماع على أن النصب هي إحدى أدوات الدعاية الجماهيرية.

ومع الأسف الشديد فإن الكثير ممن تولوا شؤون هذه المدينة اتخذوا من قضايها مطايا لغايات يريدون بها  لفت الأنظار إليهم أولا وأخيرا، حتى يكونوا موضع إهتمام الآخرين، وعلى رأس تلك القضايا، قضية إعادة ترميم شارع الحسن الثاني.

وهم - كالعادة التي تفرضها لغة المصالح -، سواء قبل موعد الانتخابات أو خلالها وحتى بعدها، فقد جرت العادة أن يحاول مسؤولو فاس الركوب على قضايا واهية لتفخيخ الساحة السياسية مفتعلين المعارك الموجهة، متفننين في التضليل وخلط الأوراق، بحثا عن الشهرة والجري وراء الأضواء ولفت الانتباه بأمور ثانوية وكماليات لسنا ضد الكثير منها، لكن وقتها لم يحن بعد لأن هناك من الأولويات ما يستحق السبق لأنها تشكل ولسنوات ندبا غائرا في وجنة المدينة. إن إنقاذ مدينة فاس لن يكون بنصب تمثالين أو ثلاثة، لأن خدمة فاس وسكانها في حاجة ماسة إلى العمل الجدي المخلص، ومجالاته معروفة وكثيرة ومتنوعة وترحب بكل جهاد واجتهاد، وترفض كل عبث ينفق الوقت الثمين ويهدر الجهود الغالية ويبذر الإمكانات... فالمدينة تغرق وتطمرها الحسرة نتيجة اللا أمن الذي ساد وسطها قبل أطرافها، والأزبال غطت بقاعها، والدمامة عمت أرجاءها، والعصبية الحزبية شغلت أهاليها عن مصيرها، والصراعات الدائمة على السلطة الهت منتخبيها عن خدمتها. فالأمر جلل والمصيبة أعظم والجلبة العالية تخفي وراءها ما تخفيه من أحداث تتطور نحو الأسود، والكل لاه يتسلى ساعيا إلى لفت الأنظار إليه بغير حق ولا شرعية، أو بحق يراد به باطل، وبتقاليع ودعوات انتخابوية عبثية قديمة لا قيمة لها و لا معنى غير أنا مضيعة للطاقات ومهدرة للفرص والإمكانيات. إنها سلوكات إن دلت على شيء فإنما تدل على أن أصحابها ليست لهم قضية يبحثون لها عن حل أو انتصار في مواجهة قضايا أخرى تتنافس معها لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولا هم من أصحاب فكر وإيديولوجية يقارعون بالحجة والبينة أفكار الآخرين وإيديولوجياتهم، فهم ليسوا من هذه الفئة أو تلك، لأنهم غير مهمومين بشيء جدي غير احتلال المناصب والقفز إلى الكراسي. فالمصلحة العامة تقتضي تفادي مسببات التفخيخ التي أبان التاريخ عدم جدواه، لأن الأمر هنا غير مرهون بالفوز أو الخسارة أو بز المنافس والغريم والاستئثار بالأضواء دونه، فالمطلوب هو إيجاد الحلول لقضايا المدينة المطروحة، والاستعداد للوصول بها إلى ما نحلم به. مدينة راقية مزدهرة وجميلة " ديك الساعة آرى ما عندكم من اسود وفيلة وحتى قرودة"...

 

أما أحد فقهاء المدينة فقال: رغم اشتغالي بالدعوة والإرشاد الديني، فإني لست من المغرمين بحظر كل شيء جديد من المخترعات الحديثة أو التأكيد على تحريم ما سبق تحريمه في عصور التخلف و الظلام. ومن بينها اتخاذ التماثيل بل وكل الرسوم و الصور، كما يفعل الكثير من الدعاة والشيوخ المتشددين سامحهم الله، لا لشيء إلا لينغصوا على الناس التمتع بما أحل الله تعالى من حسن ونضارة، فانا أومن بالقاعدة الأصلية في دين الله تعالى أن الحلال والمباح هو الأصل، بخلاف تشريع وفقه شيوخ التخلف الذين لا يخرجون عن التحريم والحظر والمنع.

ولا أرى بأسا في إقامة التماثيل لأنها بمثابة معاهد ثابتة للتاريخ وتذكرالأجيال الجديدة بمجد البلاد وعظمة رجالاتها وتحفزهم على الاقتداء بقادته وعظمائه، مما يبعث الأمل في نفوس العاملين المجدين، ويطمئنهم إلي أن البلاد ستقدر لهم ما يقدمون لها من خدمات.

ولست من دعاة نزع أي تمثال من التماثيل القائمة حتى الأسدين الفاسيين الرابضين الآن في شارعنا الرئيسي" الحسن الثاني" لأن التماثيل تاريخا وعظة وعبرة للشباب .

 وذلك لأن الإسلام لم يمنع التماثيل المنحوتة والرسومات، والدليل على ذلك هو الفتوحات الإسلامية، ففي عهد الخلفاء الراشدين والمبشرين بالجنة، وبالضبط في عهد الخليفة سيدنا عمر بن الخطاب رضية الله عنه تم فتح بلاد فارس وبلاد الرافدين وما وراء النهرين، ولم يمس المسلمون الآثار القديمة من التماثيل والتي ما تزال قائمة إلى يومنا هذا، وحتى المجسمات المنحوتة لأعدائهم لم تمس بسوء كتمثال كسرى ورستم سهراب، وأسد بابل والحدائق المعلقة في بلاد الرافدين والكنائس ودور العبادة أيضا. وعند فتح بلاد الكنانة مصر لم تهدم الآثار الفرعونية من محنطات للأجساد الآدمية، وتماثيل خوفو وخفرع ونفرتيتي وأبو الهول، ولو كانت محرمة كما يقول يروج الظلاميون اليوم لما بقيت قائمة إلى يومنا هذا شاهدة على بناتها. ولكني رغم إباحة الإسلام للإقامة التماثيل أدعوا إلى تحريمها إذا لم تكن لدواعي معقولة وغايات مدروسة، أو كانت على حساب المشارع الإنتاجية المدرة للربح التي يكون الناس في أمس الحاجة إليها، والتي يجب أن تنفق الأموال فى سبيلها وحدها.. ولست أقصد بذلك العدول نهائيا عن إقامة التماثيل إذا كانت لتمجيد الذين خدموا البلاد بأمانة وإخلاص والدين يشكلون رموزا ودلالات وطنية، وأقصد أن أمامنا الآن أولويات أجدى وأنفع من إقامة التماثيل، وبعدها فقط يمكننا التفكير في إقامة التماثيل لعظماء الرجال.

يقول... جميل أن نزين المدينة بكل ما يضفي عليها مسحة من الرونق والتألق حتىلو كانت تمثيل تنصب على الأخص في الحدائق والميادين.. ولكن ليس جميلاً البتة ألا تكون لنا حدائق ولا ساحات ولا ميادين فسيحة نضع فيها تلك التماثيل، ونكتفي بشارع واحد يتيم لا نرى غيره.. حيث تموت أرواحنا وعقولنا ومستقبلنا خارجه وفي ضواحيه المليئة بالأحياء الشعبية الهامشية التي تلكأت في مجالها كل التنميات الاجتماعية الحقيقية، فكانت النتيجة مخيبة للآمال وضاع معها تأمين الاحتياجات العاجلة والضرورية على حساب مشاريع البهرجة الباهظة الكلفة التي فوتتت فرص المشاريع المولدة للشغل والمكافحة للفقر والمغيرة لأحوال المعيشة التي يبدو أن سكان فاس في حاجة ماسة إليها أكثر من أي تمثال لا يذكر أو يؤرخ لذكريات جميلة أو أمجاد وملاحم عظيمة، وحتى وإن كان يوحي بالكثير من المباهج المؤقتة.. فهو يؤثر سلباً إن نحن أفرطنا في الإعجاب به.. فنصبح بلا هدف.. بلا طموح بلا هوية.. وبلا أعين.. نتخبط في أي شيء يقدم إلينا ونستمر في الضحك على أي شيء.. ولأي سبب أو من دون أسباب.. وبعدها نلقي باللوم على القدر وعلى الزمان وننسى واقعا صنعناه بأيدينا.. وننظر بأعين عامية إلى مستقبل لا نراه أصلا لأننا نعيش تحت وطأة تمثالين برونزيين لا يرمزان لأي شيء على الإطلاق –كما هو حال كل تماثيل المتاحف والساحات العامة في كل دول العالم فهي حمالة لمعان ورموز ظاهرة جلية وأخرى خفية باطنية- إذ ليس هما رمزان لحاكم عظيم من الذين تعاقبوا على شؤون هذه المدينة التاريخية التي عمرت 12 قرنا.. ولا إلى زعيم سياسي من زعمائها الأفذاذ، أو كاتب بليغ من كتابها الأعلام أو عالم كبير من علمائها الأجلاء، كما أنهما لا يرمزان إلى محارب صنديد من الذين دادوا على حماها وصدوا المغيرين عليها أيام السيبة والاستعمار..

 

حميد طولست

 [email protected]

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1191 الخميس 08/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم