صحيفة المثقف

الهند الحديثة وكيف رسم لها عكاش كابور صورة من الحياة في كتابه: هند التحول

 

الهند دولة كبيرة وعريقة بذات الوقت قامت من سبات عشرات القرون كانت تنام فيها على الخرافة وتصحو تبحث عن لقمة تسد بها جوعها، هذا التقدم الذي شهدته سواء في ميادين الصناعة والزراعة والثقافة وغيرها تفاجأ به عكاش كابور العائد إليها من أمريكا لكنه سرعان ما أصيب بالإحباط وهو يرى الوجه الآخر لبلاده الذي تأثر سلبا بهذه النهظة التنموية فراح يكتب عن هذه الصفحة السوداء المليئة بالثقوب والتي لامجال لسدها في الوقت الحاضر .

كابور أمضى سنواته التكوينية في الهند ومرحلة البلوغ والرجولة في أمريكا عاد إلى بلاده عام 2003 مع أبيه وأمه الأمريكية ليكون جزءا من النمو المثير لنظام بلاده الناشئ حديثا والذي أحدث تغييرا جوهريا في المجتمعات الهندية الباحثة عن هذا التغيير، لكنها لم تمح ما تعانيه الهند من مشاكل ليس فقط بين سكان الحضر الذين غالبا ما يتمتعون بقسط وافر من التعليم والرخاء الإقتصادي، لكن سكان الريف الذين شاهدوا الأطر التقليدية لحياتهم تتغير دون أن يخطون معها خطوة واحدة إلى الأمام ما جعل كابور يكتب هذا الكتاب عن النمو السريع الذي يدمر البيئة ويلقي بظلال تقويض تطورها الهائل هناك، الكتاب قامت رابطة الصحفيين بجنوب آسيا بدعمه بعد أن وجدت أنه يشكل وثيقة هامة للأوضاع التي تعيشها الهند بعد التغيير التنموي هناك، وكابور هو خبير اقتصادي وكاتب التحق بمجلة نيويوركر الأمريكية المعروفة ليكتب لها " رسالة من الهند " كل أسبوعين، وكتب لمجلة جرانتا ونيويورك تايمز ولصحيفة انترناشونال هيرالد تربيون وله مؤلفات عديدة منها " قصص من رواندا " عام 1998 والذي حاز على عدة جوائز بما في ذلك الجائزة الوطنية للكتاب والنقاد وجائزة الغارديان للكتاب، كما أصدر قصصا قصيرة ومقالات وتقارير صحافية ترجمت أعماله تلك إلى اثنتي عشرة لغة، كما عمل رئيسا سابقا لمجلة باريس ريفيو الشهيرة .

يقول كابور في كتابه " هند التحول ": (عندما انتقلت إلى الهند عام 2003 وبعد أكثر من عشرة سنوات قضيتها في أمريكا لم يكن يخطر ببال زوجتي التي كانت تعيش في نيويورك أنها سوف تعيش في الريف الهندي وبعيدا عن مدنها الكبيرة التي تعج بالحياة وبجميع أنواع الرفاهية لكننا اكتشفنا أن تلك المدن غير صالحة للعيش بسبب ازدحامها وصخبها، والأمر الآخر الخطير أنها ملوثة بشكل كبير وأن لامكان فيها لتنشأة أسرة على الشكل الصحيح لذلك قررنا البقاء مع اثنين من أولادنا في الريف خارج المدينة الهندية الجنوبية من بونديشيري وهي المنطقة التي ترعرعت فيها، فكان للريف وقع خاص على نفوسنا بل جعلنا نشعر بالأمان حقا بعيدا عن الفوضى التي تعيشها المدن الحضرية في الهند، ومع أن أجوائها جافة صيفا ورياحها ساخنة أفرغت الطرق والأماكن العامة من الحركة، وشتاؤها رطب وبارد، ورياحها الموسمية تحمل أمطارا غزيرة، لكنها بالتالي يعقبها نهار واضح ونظيف حتى أصبحت لدينا القدرة على التنبؤ بأجوائها هذه ونحن مطمئنون لها .

حين جاء أبريل / نيسان بريح الصيف جاء ومعه ضيف آخر غير مألوف عرفنا أنها رائحة البلاستيك المحترق، كان ذلك بعد ظهر يوم الأحد الذي جعلنا نشعر بمرارة كبيرة ولاحظنا كم هو الهواء فاسد حينها، بعد يومين استيقظت زوجتي في منتصف الليل وأجلستني من نومي معها قائلة : كأن شيئا يحترق في فمي، وأجد خشونة ضاقت بها رقبتي على طولها، عرفت حينها بما لايقبل الشك أن الذي عانت منه زوجتي هو دخول بعض المواد الكيمياوية إلى فمها عن طريق الهواء، وبينا أنا معها استيقظ ولدنا وهو على وشك التقيؤ فقلنا لأنفسنا أنه يعاني من علة في المعدة نتيجة لتناوله طعاما فاسدا، لكننا تذكرنا أننا تناولنا نفس الطعام سوية وبقينا معه نمسح قيئه ونفرك بطنه حتى شعر بالإرتياح حينها، لكننا لم نتخلص من هذا الشعور الفظيع الذي كان واقعا حقيقيا أن تسميمه جاء بواسطة الهواء .

طوال الأسابيع التالية والشهور غزت منزلنا رائحة كريهة جاءت من جنوب المكب الذي يقع بيتنا على مبعدة منه بعد تفريغ قمامته الآتية من بونديشيري وعلى نحو ما يقرب من 400 طن منها تحتوي على الأكياس البلاستيكية والأحذية المستهلكة والاطارات والبطاريات التي اختلطت بالفاكهة واللحوم المتعفنة نقلتها جميعها الجرارات المكشوفة وألقتها في أكوام انبثق منها غاز الميثان نتيجة تعفنها، ومع أن المكب كان يبعد عن بيتنا عدة أميال لكنني لم يسبق لي أن لاحظت ذلك إلا بعد أن تبين لي أن بودنيشيري بزيادة ثراء سكانها إنعكس ذلك على قدرتهم الشرائية لمواد قد تفيض عن حاجتهم فيتجاهلونها ليكون مصيرها هناك ولتكبر مع ارتفاع مناسيب المياه التي تحللها إلى تلك الروائح الطائرة التي تدخل أنوفنا، فعلى مر السنوات هنالك مئات الآلاف من أطنان القمامة قد تراكمت وتم تفريغها في الفضاء نتيجة حرقها من قبل الإنسان وبعضها بفعل الإحتراق التلقائي ما يجعلها تنتقل إلى مسافات بعيدة، هذا الوضع أصبح محيرا لي ولزوجتي مع أننا كنا نقول مع أنفسنا أننا راضين عن اختيارنا العيش في المناطق الريفية في الهند والتي قررنا أن نربي أولادنا فيها لوجود المياه الصالحة للشرب والسماء الصافية نهارا وليلا، لكن الناس بدأوا يتزاحمون على تفريغ تلك المواد التي تساعد على إنبعاث الديوكسين والمواد الكيمياوية السامة الأخرى والتي قيل أنها يمكن أن تؤدي إلى الإصابة بالسرطان والسكري والقلب والأوعية الدموية وأمراض الجهاز التنفسي، وقيل أيضا أن الأطفال الذين يمتلكون جهازا مناعيا غير متطور يصبحون أكثر عرضة للإصابة بهذه الأمراض، ولقد تحدثنا طويلا عما يمكن فعله لكن زوجتي تسأل إذا كانت المدافن في كل مكان على طول الطرق وفي الحقول والغابات فكيف يمكن تفادي كل ذلك ؟ مع أن الهند تنتج نحو 100 مليون طن من النفايات البلدية في كل عام وفقا لمنظمة التعاون والتنمية و60 % فقط من هذه النفايات تم إعادة تدويرها أما الباقي فهي قمامة مكدسة قابلة للإشتعال وتلويث الهواء والماء على السواء .

أحيانا وعندما أقود سيارتي على طول الطرق السريعة أشاهد القمامة المصطفة تشتعل ودخانها يسافر إلى القرى النائية، فبدأت أشعر أن ليس هناك زاوية آمنة مع اشتعال تلك المواد، وعلى نحو مماثل نجد أن هناك أراض بدأت تظهر على حساب الأنهار والبحيرات في مناطق عديدة من البلاد، وحتى الأنهار المتجمعة من ذوبان الجليد بدأت تختفي والمياه الجوفية آخذة بالنضوب ونوعية الهواء النقي بدأت بالانخفاض والشواطئ صارت بعيدة بعد أن كانت جد قريبة، ووفقا لأحد التقارير الحكومية التي فاجأتني بأرقامها المذهلة قرأت ما يقرب من نصف الأراضي في الهند تعاني من بعض أنواع التآكل وكانت 70% من المياه السطحية ملوثة لها في وقت سابق من هذا العام، وخلصت دراسة أجرتها جامعة بيل وكولومبيا أن الهند لديها أسوأ نوعية للهواء في العالم .

بعد بضعة أشهر وأسابيع بدأت ولأول مرة القمامة الموجودة في غرفة المعيشة الخاصة بنا تنتفخ بسبب الأضرار الجانبية للهواء الملوث وهذا كما أرى أن البلد يدفع ثمن نموه السريع وبالتالي هو نموذج سيئ لارتفاع الرخاء فيه .

في عام 1972 حضرت أنديرا غاندي بصفتها وزيرة دولة ورئيسة للوزراء آنذاك مؤتمرا للأمم المتحدة للبيئة في ستوكهولم وأعلنت أن الفقر هو أسوأ شكل من أشكال التلوث، وتذكر كذلك أنها متهمة بسبب عدم إحساسها بمحنة الفقراء وأنها خصصت 80 مليون دولار لتحسين البيئة، أود أن أقول هنا أن هذه القضية لاتحتاج إلى تكلفة تنموية وأن حماية البيئة هو اقتراح مربح للجانبين وهذا ليس صحيحا دائما ففي بعض الأحيان تكون هناك خيارات صعبة يتعين القيام بها وهذا ممكن في أمكنة عديدة من العالم وأعتقد أن الذي جرى من ممانعة الولايات المتحدة الأمريكية لفرض ضريبة على مادة الكربون المنبعثة من المعامل لديها سببه أنها في حالة فرضها سوف تخنق فرص العمل فكيف في بلد فقير كالهند ؟

وعلى الرغم من ذلك وجدت نفسي أفكر وبعد عقدين من الإصلاحات الاقتصادية وبعد الطفرة التي رفعت الملايين من الفقر وتوصل الهند إلى مرحلة نمو جديدة قد يتبعها إنهيار تدريجي فالتنمية الاقتصادية مع حماية البيئة لم يعودا اليوم يستبعدان بعضهما البعض ويقدر الخبراء أنه إذا تم ذلك كميا فإن تكلفة الأضرار البيئية في الهند سوف يرتفع في أي مكان منها إلى نسبة 5، 2 - 4 % من الناتج الإجمالي وهذا ما يهدد ويقوض نموها الهائل.

في يوم غائم من شهر نوفمبر / تشرين الثاني عزمت على الذهاب إلى الشاطئ الذي لايبعد عن بيتي سوى عشرين دقيقة، وعلى امتداده الرملي كانت اشجار جوز الهند وقوارب الصيد تصطف على ساحله، هذا الأمر لازمني منذ أن كنت صبيا أذهب إليه للسباحة مع أصدقائي اضافة إلى الذهاب للصيد في قارب يعود لصيادين محليين، لكن الأمر إحتلف هذه المرة فلا توجد سباحة ولا أسماك مع هذه اليابسة التي اجتاحت مساحات شاسعة من البحر وأصبح الشاطئ بعيدا عنها ولسوف تختفي تلك الشواطئ عن مدينة بونديشيري مع بناء ميناء جديد هناك كان من المفترض أن يدفع عجلة التنمية إلى الأمام في المنطقة وقد دارت نقاشات كثيرة حول جدية فائدته بعد أن قضى على شواطئ أخرى مع أن التفكير به هو تدشين مرحلة أخرى من مراحل التنمية،

كانت هناك قرية تدعى chinnatnudaliare havadi تعيش على صيد الأسماك وقد صدمت حينما رأيت كيف انخفضت أمامها المياه وامتدت الرمال لمسافة لاتقل عن مائة متر على طول شريطها الساحلي بعد أن كان لايزيد عن عشرة أو خمسة عشرمترا، ما حدا بالعديد من القرويين التخلي عن مهنتهم تلك التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم مخلفين ورائهم أكواخهم المبنية من القش بحثا عن مناطق أخرى لسبل عيشهم، تحدثت مع فالي التي تسكن إحدى تلك الأكواخ والتي قالت لي أن المياه كانت تتسرب إلى غرفتها الوحيدة بفعل المد فلا تستطع النوم فيها، أما اليوم فلا أثر لذلك مع أن أصوات الأمواج كانت تهدر مثل وقوع أي زلزال، دخلت كوخها كان صغيرا وضيق ولا يحتوي الكثير من الآثاث، موقد نفطي، وسادتان على الأرض، ولأنها كانت تعيش على بيع الأسماك التي كانت تشتريه من الصيادين فإنها اليوم وبسبب التغييرات البيئية باتت تشتريه من أماكن أخرى بعيدة لتبيعه في السوق المحلية، ناشدتني فالي مع واحدة من صديقاتها وأنا أغادر كوخها أن أكتب عن محنتهم مضيفة : " إذا استمر هذا الوضع فنحن حتما ذاهبون إلى الموت "، مشيت أبعد حتى الساحل، جلست على الرمال، وعلى ما تبقى منه وفكرت كيف تبقى القليل منه والكثير من الإنجراف أصبح بعيدا بعد أن أصابه التدمير، هل هو التقدم الذي رحبنا به ؟ لكن يبدو أن كل هذا الدمار كان ثمنا باهضا دفعه الشعب الهندي في كل مكان) .

 

كتابة / ريفر هيد

مجلة / the AtLantic


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2068 الجمعة 23 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم