صحيفة المثقف

الثنائيات المبدعة عبر التاريخ ..عظمة القيادة وعظمة الأدب

فلاسفة كبار استطاعوا تخليد تلك الأزمنة بما أنتجوا من اعمال خالدة بقيت شاهداً على روح تلك العصور .

في ذلك كل، لم يلجأ اولئك الأدباء الأفذاذ، الى المدح المباشر لقادة تلك الأزمنة - إلا فيما ندر- كذلك فأن علاقة القائد الكبير بالمبدع الكبير، لم تكن علاقة منفعية أو تابعة، إنما علاقة متكافئة تقوم بين كينونتين مستقلتين إحداهما عن الأخرى، وإن كان كل منهما يؤمن بقدرة الآخر على العطاء ومن ثم التجلي فيما يفعل، وعليه تألقت تلك العلائق بالاختيار الطوعي، ليس بمعنى التخصيص، أي أن اياً منهما – القائد والأديب – لم يسع نحو الآخر بقصدية، فلا القائد بقصد الخلود ولا الأديب بقصد الرضا، وربما لم يلتق أحدهما بالآخر الا لماماً وبمناسبات متباعدة وعابرة – بل أن البعض عاشا في أزمنة مختلفة تفصل بينهما عشرات السنين، كبطرس الأكبر وبوشكين - لكن معادلة قامت بين الإثنين على غير انتظار : القائد يلهب خيال المبدع بعظيم أعماله، فيجسدها المبدع بأعمال عظيمة تُسجل شهادة على تلك الأزمنة التي قادها ذلك القائد الملهم وهكذا .

أما أهم الثنائيات عبر التاريخ، فقد تمثلت - حسب رأيي - بالثنائيات التالية:

 

1: الاسكندر المقدوني / أرسطو

كان أرسطو أول من وضع نظرية (الأمة القائدة) التي خلاصتها ان هناك شعوباً خلقت للقيادة والسمو، وشعوباً خلقت للعبودية والتبعية، انها ثنائية الخلق ومشيئة الطبيعة .

كان أرسطو معلم الإسكندر المترعرع في حضن أمة الفلاسفة والمحاربين، وكان كل مافي اليونان ذلك الوقت، يشي بتأكيد هذه النظرية، فالانتصارات الحربية المدوية على امم أكثر عدداً وأوفرعدة، والتطور الهائل في الفنون والاداب والسياسة والاجتماع - بمقياس تلك العصور - خلقت انطباعاً يسنده الواقع، بأن اليونان هي معلمة البشرية ومنقذها من الجهل والتخلف .

وفي الزمن / الذروة، قفز ذلك الشاب الرشيق عالي الثقافة والمشبع بنظريات أستاذه العبقري ارسطو، وقوة وإقدام والده المحارب (فيليب المقدوني) الى حكم مقدونيا، لينطلق من ثم الى توحيد مدن اليونان أولاً ثم يزحف بجيشه الصغير عدداً والمتطور حضارة والمعبأ ايماناً بسمو رسالته، نحو شعوب الشرق ليخضعها واحدة تلو الآخرى .

وليس مهماً معرفة ان كان الاسكندر المقدوني قد استلهم نظريات معلمه أولاً قبل ان يقوم بفتوحاته المدوية، ام ان أرسطو نفسه كان قد استقى نظريته من فتوحات تلميذه، فقد اندمجت العبقريتان في زمن واحد، وعبرّ احدهما عن الآخر بأبدع مايكون عليه التعبير، وهكذا سجلت اول ثنائية معروفة في تاريخ الحضارة .

 

2: يوليوس قيصر / فرجيل

الوقفة الأخرى كانت في ثنائية يوليوس قيصر/ فرجيل، فالأول كان احد أعظم ثلاثة قواد عرفهم تاريخ البشرية - حسب رأي الكثير من المؤرخين وعلماء الانثربوليوجيا - وهم على التوالي - زمنياً -: يوليوس قيصر، كسرى نو شروان، هرون الرشيد – يأتي انتقائهم بإعتبار أزمنتهم حيث بلغ كل من تلك الأمم في عهد هؤلاء القادة، أوج ازدهارها وذروة مجدها، فروما قيصر وفارس كسرى وبغداد الرشيد، سادت وحكمت وغزت وانتصرت وازدهرت وسمت، فوصلت في كل ذلك الى مستوى العظمة والتطور، ليس في الحرب وحدها، بل فنوناً وحكمة وآداباً وعلوماً ومنجزات في كل مجال، كانت العظمة تفرد أجنحتها محمولة على شكيمة أولئك القادة .

يوليوس قيصر، القائد الذي دانت له الرقاب وخضعت له ملوك الأرض، خلده التاريخ رمزاً لعبقرية القيادة، وجعل من قاتليه مثالاً للخيانة والغدر،

قيل انه لم يلتق بفرجيل قط - هناك نظريات تخالف ذلك - رغم انهما عاشا في زمن واحد، تفصل بينهما ثلاثون عاماً، أي ان فرجيل كان في بدء تفتحه على الحياة، في وقت كان نجم قيصر قد بدأ بالبزوغ ومن ثم التألق .

فتوحات قيصر وإنتصاراته المذهلة، قابلها (فتح) من نوع آخر، فقد وضع فرجيل ملحمته الخالدة (الإنياذة) التي تروي قصة ذلك الأمير الطروادي المهزم (إنياس) وهو يقود ماتبقى من شعبه بعد سقوط طروادة، ثم يبني به إمبراطورية عظيمة تخضع لها أمم الأرض بما فيها تلك القبائل الأغريقية التي أسقطت (طروادة) المدينة الجبارة، وأزالتها عن الوجود، لكن الشعوب التي تحمل بذور العظمة، لابد ان تنهض من جديد، خالقة بواعث قوتها وأبطالها الذي ينهضون بتلك المهمة، خلاصة (الإنياذة)، الشعب المقهور الذي قاده بطل (اسطوري) أو بطل / حلم، هو ذاته الذي أنجب بطلاً عظيماً أسمه يوليوس قيصر، سيفرد له التاريخ أزهى فواصله وفصوله، فيما ستُقرأ الملحمة الخالدة لذلك الشعب، التي خطها شاعره اللامع (فرجيل)، من قبل ملايين البشر عبر إمتداد الأزمنة، ليتربع من ثم البطل القائد، وشاعر البطولة الملحمية، معاً في نشيد الخلود .

 

3: الإمام علي / ابو الأسود الدؤلي

لم يخل التاريخ العربي من هذه الثنائية، خاصة مع ظهور الاسلام وتشكل الأمة التي ستصبح واحدة من أكبرالأمم التي عرفها التاريخ البشري وأكثرها إنتشاراً وجبروتاً، وقد شهدت ازمنة الصعود العربي، الكثير من الثنئايات مختلفة الأهمية، لكن أوضحها بداية ربما كانت مع الإمام علي / أبوالاسود الدؤلي، حيث الإنجاز اللامع الذي سيمتد صداه على مدى الأزمنة وإختلاف العصور .

فقد إجتمع الخليفة العالم (علي بن ابي طالب (ع) ) مع الأديب العالم (أبو الاسؤد الدؤلي) في عصر كثرت فيه الفتن وتكالبت المطامع بأسانيد تبعثر اللسان العربي وتعدد القراءات والتفسيرات لآيات القرآن الكريم، فأوشكت المعاني أن تذهب الى حيث تجير مما يزيد في فرقة المسلمين .

الإمام المنشغل بالحفاظ على وحدة الأمة وجمع الكلمة مع مواجهة الطامعين والمتمردين والمنشقين الذين تمترسوا خلف ما رادوا فهمه من أحكام القرآن مستغلين تعدد التفسير في التعبير الواحد لخلو المدّون من أداة ضبط وقياس .

كان لابد من ضوابط توحد اللسان وتقونن المعنى، ذلك ماتطلب إنجازه إجتماع عبقريتين / قائد ملهم، لم يصرفه تكاثر الأحداث في عهده القصير، عن النظر بسعة أفق الى ماسيحصل في أمة يتبعثر لسانها وتختلف في قراءة كتاب أنزله الله عليها ليكون نبراساً لهداية البشرية جمعاء .

وبوجود عالم فذ، إستطاع التفاعل مع الفكرة التي وضعها الإمام الخليفة، لينتجا من ثم الإنجاز الباهرالذي جعل من اللغة الأكثر قداسة بين لغات الأرض، تُقرأ بلسان واحد على إختلاف الأمم والشعوب، إلتزاماً بضوابطها التي تمثلت بوضع نقاط وحركات ضمن قواعد وأصول تفرق الجملة بين فعلها وفاعلها وضمائرها وإضافاتها واشتقاقاتها وجذرها .

 

4: الرشيد / أبو نؤاس

بعد زمن سيظهر مثال آخر في ثنائية التألق بين القيادة والأدب، جسده هرون الرشيد / أبو نؤاس .

هرون الرشيد الذي خاطب الغيمة "إمطري حيثما شئت، فريعك عائد لي"، وبغداد في عهده "عاصمة والكون بلاد" كما قال شاعرها، إذ لم يسبق لمدينة أن بلغت من المجد ما بلغته بغداد، كانت متطورة في كل شىء، العلوم والفنون والآداب إضافة الى جبروتها العسكري، لا كانت مقصداً لطالبي العلم والعلماء، والباحثين عن الشهرة والثروة والجاه، وكانت (البغددة) قد ذهبت مثلاً في الرفاهية والدلال وسعة العيش، مازال سائرا بين الناس .

ذلك التطور الذي عاشته بغداد، كان خير من عبر عنه وقرأه شعراً، (أمير) شعراء عصره ورائد التجديد في الشعر العربي، ابو نؤاس، سمير الرشيد وأنيسه ومستشاره الأدبي - إن صح الوصف- .

لم يسلك أبو نؤاس طريق المدح كما ديدن الشعراء في ذلك الزمن، ولم يشتهر به كذلك، فقد تجلت عبقريته الشعرية في الغزل والخمريات على عذوبة الأسلوب ورقة العبارة ووقع الموسيقى في كثافة الوصف وإبتكار الصورة، ذلك ما عبرّ عن أيام بغداد ولياليها الزاهية بالأنس والسمر ومجالس الأدباء وحواراتهم الى جوار موضوعات العلماء ومكتشفاتهم الرائدة .

يكفي أن تقرأ شعر النواسي كي تنقلك الى بغداد وقائدها الرشيد الذي طالما سهر الليل مستطلعاً أحوال الرعية متنكراً بزيهم مقتحماً مجالسهم وأسواقهم ودورهم .

لقد إلتصق الخليفة (المبدع) والشاعر المبدع في ثنائية تاريخية لا تنفصم عراها، فلا تُقرأ مرحلة حكم الرشيد، من دون تذكر أبي نؤاس وشعره، ولا تقرأ في شعر أبي نؤاس، من دون تذكر مرحلة الرشيد الذهبية .

 

5: سيف الدولة / المتنبي

سيف الدولة الحمداني، أمير فارس ظهر في عصر ضعفت فيه دولة الخلافة العباسية وبدأت بالإنحدار حتى لم يبق للخليفة مايحكمه سوى خدمه وجواريه .

أقام إمارته في مكان يمثل الحدّ الفاصل بين دولة الروم ودولة المسلمين، لذا القيت على عاتق الإمارة الصغيرة التي لم تكن تحوي سوى حلب وجوارها، مهمة شبه مستحيلة في التصدي لإمبراطورية الروم بكل جيوشها وقوتها .

تلك مهمة يعجزعنها الشجعان وتنوء بحملها ممالك أكبر حجماً وأغنى مورداً.

لكن سيف الدولة قام بما هو فوق المتخيل، فدوت إنتصاراته لتعم بلاد العرب من اقصاها الى اقصاها .

في الطرف الآخر، كانت الكوفة تشهد نشوء عبقرية شعرية سيتردد عبر القرون ويذهب مايقوله مثلاً تتلقفه الأفئدة قبل الأسماع .

كان الشاعر هو المتنبي "مالىء الدنيا وشاغل الناس"، يخرج من قوم "أبت نفوسهم ان تسكن الأجسادا"، وكان يتألم ان يرى تلك الأمة الجبارة التي دانت لها الأمم وطارت شهرتها على أجنحة المجد، تذوي وتسقم فلا يظهر فيها بطل يعيد لها رونقها .

سمع المتنبي بسيف الدولة، فسعى اليه بعد ان ألهب خياله الشاعر بصيت معاركه، رافق الشاعر، القائد الأمير وكتب فيه أعظم اشعاره واكثرها صدقاً وخلوداً "فصرخ بملء صوته وهو يرى بطولات الأمير "تمر بك الأبطال كلمى حزينة - ووجهك وضاء وثغرك باسم" ثم يراه ينخز جفن الردى كي ينهض بأمر سيف الدولة الذي كان اسماً على مسمى" كأنك في جفن الردى وهو نائم" .

وهكذا إندمج القائد الشجاع، مع الشاعر الشجاع، ليذكرهما الدهر معاً، وربما يمكن القول أن معارك سيف الدولة وبطولاته، ماكان لها ان تؤرخ على ماوصلت به، لولا تجسيدها بقصائد المتنبي .

 

6: بطرس الأكبر/ بوشكين

حالة فريدة من نوعها لم تتكرر في التاريخ، تلك التي مثلها بطرس الأكبر قائد روسيا الأعظم في كل عصورها، وبوشكين الشاعر الأشهر في التاريخ الروسي .

لقد احتاجت الأمة الروسية مترامية الأطراف، الى سبعة قرون لتنجب قائداً بحجم قيصرها الأكبر لقباً وفعلاُ، ثم الى مايقرب من قرن آخر، لتنجب من ثم عظيماُ من نوع آخر هو شاعرها الأكبر بوشكين،.

فصل بين الرجلين تسعون عاماً فقد توفى بطرس الأكبر عام 1698، بعد أن جعل من روسيا بلداً مهاباً، كان جباراً يقارب المترين طولاً ويتمتع بقوة جسدية هائلة إستغلها في عمل لاينقطع، زار في شبابه كل من هولندا وفرنسا وبريطانيا فهاله مقدار التطور التي تشهده تلك البلدان في مختلف المجالات الصناعية والزراعية والعلمية، وهي كلها أصغر من روسيا مساحة واقل موارداً، روسيا التي صرخ واحد من عمالقتها (جوجول) في روايته الشهيرة " النفوس الميتة " – ما أخرقها روسيانا هذه - .

حينما تسلم السلطة، قرر بطرس الاكبر أن يلحق روسيا بركب الحضارة، فارسل مئات الطلبة الروس للتعلم في معاهد اوروبا كما جلب عشرات من المهندسين والصناعيين ومصممي السفن لتشييد المعامل وتعليم الروس الصناعة الحديثة، وكان يردد : سيأتي يوم نصنع فيه بأنفسنا .

وكان جيشه المهلهل وأسطوله القديم، قد هزم مراراً أمام القوات السويدية الأقل عدداً والأقوى تسلحياً، ويحن يبلغّ بالهزيمة يقول : سنتعلم منهم كيف ننتصر عليهم .

وبعد سنوات قليلة، جهز جيشه وأسطوله الحربي وألحق بالسويد هزيمة ساحقة برزت روسيا بعدها كقوة عظمى .

وعلى إمتداد الأزمنة وإختلاف العصور،ظل بطرس الأكبر المثل الأعلى لروح روسيا المتوثبة .

بعد عقود من رحيل بطرس الأكبر، ولد وترعرع مبدع آخر قدر له ان يمثل رمز التألق في الأدب الروسي حيث وصف كذلك بأنه روح روسيا الخالدة ومصدرإلهامها، انه الأسكندر بوشكين الشاعر الأعظم في التاريخ الروسي على إمتداد العصور.

وقد بقي هذا الرمزان يستلهمان في النهوض كلما أصاب روسيا الوهن أو تعرضت لمحنة، حدث ذلك في مواجة نابليون ثم التصدي للغزو النازي حيث قيل أن أشعار بوشكين كانت تقرأ للصامدين في الخنادق والمقاومين خلف خطوط العدو، وصولاً حتى فلاديمير بوتين المعجب بسلفيه العظيمين .

 وهكذا إجتمع رمزان استثنائيان في فصول خالدة، القائد الملهم والشاعر الملهم في ثنائية السيف والقلم – رغم تباعد زمنيهما وإختلاف توجهاتهما.

 

7: إليزابيث الأولى /شكسبير

عام 1558، تسلمت ملكة شابة لم تكن تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها،عرش انكلترا بعد وفاة أختها، كانت الإضطراب يعمّ البلاد، فالشعب منقسم بين بروتستانت وكاثوليك، وهؤلاء بدروهم تنخرهم الخلافات بين من يطالب بالتعبية للبابا، ومن يريد كنيسة انكليزية خالصة، الاسكوتلنديين يتآمرون على الملكة مطالبين بالإنفصال، وهي تتعرض للتهديد من ملكي فرنسا واسبانيا الطامعين في عرشها ومملكتها، أما رجال حاشيتها، فتتآكلهم المطامع الخاصة والولاءات خارج الوطن، الجيش ضعيف ومفكك اضطر لتجنيد حتى الأطفال في مواجهات خلت من التكافؤ .

كان أمام الملكة الشابة اليزابيث، الكثير من التحديات التي يعجز عنها أكثر الرجال شجاعة وعزماً، كل ماحولها يدعو لليأس والإستسلام، لكن صلابة وإقدام تلك القائدة، جعلها تحطم الصعاب واحدة تلو الأخرى، قضت على التمرد الإسكتلندي، ووحدت شعبها تحت شعارالولاء لانكلترا، ثم كسرت

(الأرمادا) الأسطول الإسباني المرعب، وكان غن اصبحت بريطانيا في عهدها سيدة البحار والدولة الأقوى في أوروبا .

في زمنها، نشأ شاعر عبقري سيصبح ألأشهر في تاريخ الإبداع البشري متجاوزاً في شهرته كل من سبقه أو عاصره أو تلاه، أنه وليام شكسبير، لذا رأى مافعلته الملكة العظيمة، فظهرت مسرحياته واعماله، تجسد الأعمال التي إنجزتها والقيم التي آمنت بها، وقد فسرت مسرحياته على إنه بمثابة نصائح للملكة، كترويض الذبابة التي تروي قصة رجل يحاول التأثير على إمراة، وتاجر البندقية عن الخبث والحقد والعدالة، والملك لير في خطورة التخلي عن السلطات وهكذا .

واليوم، فإن قراءة تاريخ بداية المجد العسكري والسياسي لبريطانيا، إنما يبدء من إليزابيث الأولى، كما تقرأ بداية التفوق الأدبي بما أبدعه شكسبير، وهكذا خط القدر في أروع فصوله، ان تتزامن هاتان العبقريتان، الملكة القائدة والشاعر الخالد ليقرأ معاً في أنشودة السمو .

 

8: بسمارك / نيتشة

بروسيا، دولة قوية في قلب أوروبا، لكنها لم تكن الأقوى، كانت تحاصر من دول مهابة / النمسا / روسيا/ فرنسا / كان التنافس بينها شديداً وتكاد بروسيا ان تغرق بنزاعات أمرائها وأطماعهم، أما بقية الولايات الألمانية، فينطبق عليها ما انطبق على دويلات العرب في الأندلس، تناحر وفرقة وولاءات مبعثرة .

كان هناك سياسي داهية ومثقف بارع ولد في 1815، اسمه فون بسمارك، قدر له أن يتقلب في المناصب الى ان يصل منصب المستشار، وكان لما أظهره من ثلابة ودهاء لقب ب(المستشار الحديدي) .

في 1862 تسلم منصب رئيس وزراء بروسيا ثم أسس الرايخ الثاني، بعد سلسلة من المعارك الناجحة – السياسية والعسكرية – ضد عدوتيه اللدودتين – النمسا وفرنسا –.

 وفي سلسلة من المناورات التي عبرت عن ذكاء خارق وفهم عميق للظروف المحيطة، تمكن من جمع الولايات الألمانية تحت علم دولة واحدة باعثاً فيها حيوية مدهشة وروحاً قومية جبارة ستقلق بقوتها وتوثبها العالم كله .

عام 1844، ولد عبقري سيطلق عليه ( نبي القوة)، إنه فريدريك نيتشة الذي سيسحره مافعله بسمارك فيعتبره رمزا للكمال الأماني وقدرته المتفوقه .

عظمة بسمارك وقدراته السياسية وعبقريته العسكرية الفذة، ألهبا خيال الشاعر والفيلسوف العبقري نيشته، فأصدر أعماله الفلسفية والأدبية تباعاً وهو يتيه إعجاباً بإنجازات قائده الملهم بسمارك .

كان أنجيل القوة التي نادى بها نيشته، قد توجت بكتابه (هكذا تكلم زرادشت)، الذي كتبه وهو منغمس بخيال معلمه الأكبر بسمارك، حتى قيل أنك لايمكن ان تقرأ الكتاب المذكور، من دون أن تتراقص صورة بسمارك امام مخيلتك .

بعد نصف قرن، سيظهر زعيم آخر ينهض المانيا من كبوتها ويدفعها أن تكون القوة الأكبر في أوروبا،انه أدولف هتلر، الذي تخلى عنه الألمان بعد أن قادهم نحو الكارثة .

لكن الألمان مازالوا يشعرون بالإجلال أمام ثنيائهم الخالد، عبقري القيادة بسمارك وعبقري الفلسفة نيتشة .

 

9: غاندي / طاغور

الهند، عملاق آسيوياً والبلد الأجمل فيها، بلد السحر والأساطير ونيرفانا الإنسان الباحث عن الحقيقة، بلاد الألسن والشعوب والطبقات والحكمة .

كان ذلك البلد مترامي الأطراف، يخضع لإستعمار جيوش الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس / بريطانيا / التي كانت تعتبر الهند درة التاج في مستعمراتها الممتدة عبر القارات .

شعبها متفرقاً ومستنزفاً، جهده وعرقه يذهب لخدمة المحتلين، وهو يأن تحت وطأة الفقر والحاجة والعبودية .

لكن طلائع الفجر كانت على موعد في الظهور، جاء محام مؤمن بحرية شعبه، إسمه كرمشاند غاندي، كان يدافع عن الفقراء في جنوب أفريقيا، لكنه عاد بلاده عام 1915ليقود أعظم حركة تحرر متألقة في خصوصيتها .

(ساتيا غراها) وتعني مقاومة الإستبداد من دون عنف، تلك هي مدرسة غاندي – المهاتما أو الروح العظيمة – كما أطلقها عليه شاعر الهند وفيلسوفها الأكبر رابندرانات طاغور .

كأنما هذان العظيمان على موعد، فلم يفصل بينهما سوى سنوات ثمان، ولد طاغور في 1861، وكان طفلا يافعاً لم يبلغ العاشرة من العمر حينما ولد غاندي في عام 1869 .

سلك كل منهما طريقا مختلفاً، لكن الأقدار جمعتهما في نداء واحد : حرية الهند ومبدأ اللأعنف، ومحبة الإنسان حيثما وجد .

لم ترقه بساطة العيش التي إتبعها غاندي ورأى فيها أسلوباُ غير لائق بقضية الهند، لكنه بقي يحترم الرجل ومقدار ما حققه للهند، كما كان غاندي بدوره يكنّ احتراماّ عميقاً لطاغور الذي كان أول شاعر آسيوي ينال جائزة نوبل .

ومرة أخرى في دورة الأزمنة، تجتمع عبقريتان في بلد واحد ليذهبا خلوداً ثنائياً بين السياسي المعلم والشاعر المدرسة، فكانا زعيم الهند الأعظم غاندي وشاعرها الأعظم طاغور .

 

في جانب آخر من القارة الهندية، وفي الزمن ذاته تقريباً، شهد ت تلك المرحلة ولادة ثنائي آخر زعيم اختلف فيه المؤرخون وشاعر أحتفى به كل من يبحث عن الإبداع .

محمد علي جناح، المولود في العام 1876، ومحمد إقبال المولود بعده بعام واحد (1877)، كان الأول زميلاً لغاندي في حركة التحرر الهندية وعضواً في حزب المؤتمرالهندي، لكنه قاد لاحقاً حركة إنفصال باكستان متسبباً بحرب دموية بين الهندوس والمسلمين أدت الى سقوط آلاف الضحايا .

يعتبره البعض زعميا إنفصالاً، فيما يعتبره البعض الآخر باني باكستان الحديثة وصانع نهضتها .

أما محمد إقبال، فلا يختلف إثنان بأنه شاعر باكستان الأكبروأديبها الملهم الذي امتدت شهرته الى الشعر العربي ذاته حيث شدت سيدة الغناء العربي أم كلثوم برائعته (حديث الروح) .

العصر ذاته والأحداث ذاتها والتوجه ذاته نحو القناعة بقيام باكستان، جمعا

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1193 السبت 10/10/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم