صحيفة المثقف

حلقة مفرغة .. أحيّ أنا أم ميّت؟ / محمود سعيد

يتوجّب علي استخراج وثيقة إثبات حياة، مصدّقة من وزارة الخارجية الأمريكية في شيكاغو. كنت في السّنوات السّابقة أذهب إلى السّيد إيشو مدير الجمعية الآثورية في المدينة، فيستقبلني بحفاوة مقبولة، ويسألني عن آخر ما كتبت، ويضيّفني بشاي عراقيّ ممتاز، ويضع صورتي على الاستمارة المطلوبة، ويطمغ العريضة في ختم خاصّ معترف به من قبل الجهات الرّسمية، وينهض مودّعاً ومرافقاً لي حتى الباب. كانت العمليّة تتمّ في خلال نصف ساعة لا أكثر بما فيه مسافة الطّريق، وعندما حاولت في كانون الأول سنة 2010 استخراج وثيقة إثبات الحياة أخبرني السّيد إيشو أنّني يجب أن أذهب إلى ديترويت "450 كم" لأن الحكومة العراقيّة انتزعت هذه الصّلاحية منهم.

أردت أن أعرف موقع القنصليّة هناك بوساطة الهاتف لكنّي فشلت، لأن آلة التّسجيل تأمرك بتشنّج أن تضع رقم هاتفك واسمك الكامل، وعنوانك، وتنتظر رحمة الموظف المعني، فإن كان مزاجه عاديّاً أجابك في نفس اليوم، وإن كان مزاجه "بنفسجيّاً أو برتقاليّاً" فلا إجابة ولا هم يحزنون. ثم تذكّرت أن "ميغ" وهي طالبة درّستها قبل سنتين ذكرت لي أنّها تعمل في مقر الحكومة المحليّة، وأنها مسؤولة عن تصديق معاملات موظفي قنصليّتنا "المحترمة" في ديترويت. اتصلت بـ ميغ، شرحت لها المشكلة، فكلّمتني بعد نصف ساعة وأخبرتني بأنّني أستطيع أن اتّصل الآن وأطلب السّيد "س" وأخبره بأنّك من طرفي. وعندما فعلت قال لي تعال بعد غد إلى ديترويت واجلب معك كل ما تملك من الوثائق العراقيّة الرّسميّة.

كان الثّلج في ديترويت بارتفاع 20 سنتمتراً، والرّياح قارسة قارصة تحت الصّفر بعشرين درجة، تهبّ بشدّة تكاد تقتلعني وأنا أسير. أخذت المسافة بين محطة القطار والقنصليّة نحو نصف ساعة بسيارة الإجرة. لم أذهب إلى "موتيل" بل توجّهت وحقيبتي إلى القنصليّة مفعماً بأمل أن يساعدني السيّد "س" وأنهي المعاملة في اليوم نفسه، كما في الأوقات الخوالي.

سألت من في الاستعلامات هل السيد س موجود، فقال: نعم. قلت: عندي موعد معه. كتبت اسمي واسم طالبتي السابقة "ميغ". استدار الموظّف واختفى في الغرف الدّاخلية، دائما تخذلني خيالاتي. فمن مكالمتي مع السيد "س" رسمته تصوراتي شخصاً طويلاً جداً، مع رقبة نحيفة بطول نصف متر، ورأس كبير، يتمايل في الممرّ يميناً وشمالاً، لذا ظلّ نظري مسمّراً بالممرّ لأرى تتطابق الخيالات مع واقع السّيد "س" لكنّ الموظّف رجع وحده، قال لي إن "س" في إجازة. وأنه لن يأتي قبل أسبوع. قال ذلك واحمرّ وجهه حتى أذنيه، كرد فعل لتسرعه في أخباري ما ليس بحقيقيّ. فأخرجت أوراقي، وقلت له إن السّيد "س" قال لي في الهاتف أن أجلب معي هذه الأوراق. فردّ الموظف: إن التّعليمات تغيّرت. وبعد ردّ وبدل ونقاش طويل قال لي هات صورة إثبات الحياة السّابقة، لعل الأمور تسير بشكل أفضل. ولم أكن واثقاً أنني أمتلك نسخة منها، فرجعت إلى شيكاغو واتّصلت بأهلي وطلبت منهم أن يرسلوا لي بالسّكانر أو الفاكس صورة اثبات الحياة السّابق.

بعد بضعة أيام توجّهت إلى ديترويت مرّة أخرى، وآنذاك كان موظف الاستعلامات قد تغيّر، فبدل الشّاب الثّلاثيني رأيت رجلاً في الخمسين، نصف ملتحٍ، ذا عينين صفراوين. كانت القاعة مليئة بمواطنين آثوريين جالسّين ينتظرون دورهم. سالتّ أحدهم كم دقيقة وأنتم تنتظرون، كاد يضحك: قل كم ساعةً؟ فأدركت أنّني لن أرجع اليوم إلى شيكاغو بل سأبقى في ديترويت. كتبت اسمي في سجل المراجعين، وجلست مع كتابٍ جلبته قرب السيّد الأثوري الذي تكلّمت معه. ويبدو أن الموظّف قرأ اسمي وأدرك أنني غير آثوريّ نظر إليّ وغمز عينه، فحدست أنه يريد أن يتكلّم معي من دون انتظار للدّور. نهضت إليه. حين رأى أوراقي قال لي: تغيّرت الأوامر. باتت صورة اثبات الحياة السّابقة غير مهمّة. هل جلبت معك نسخاً ملوّنة لهويّة الأحوال المدنيّة وشهادة الجنسيّة وهويّة التّقاعد؟ فوجئت: ولماذا ملوّنة؟

- لأن التّزييف يظهر في الملوّنة ولا يظهر في غيرها.

ثم أعطاني وريقة مطبوعة بالوثائق الملوّنة التّي يجب أن أجلب معي.

قلت له: يا أخي، كنا في السّابق نستخرج الوثيقة ببضع دقائق، وها أنذا جئت من شيكاغو مرّتين، وقطعت أكثر من ألفي كيلومتر، وصرفت أكثر من طاقتي ولم أنجز هذه المعاملة البسيطة، فلماذا تعذبون الناس؟

فهتف بعصبية ليسمع الجميع: صدام حسين مسؤول عن هذا كله، دمّر كلّ شيئ، علينا أن نبني من جديد.

- ألا تستطيعون البناء بشكل إنسانيّ؟ هل يجب أن يصاحب البناء تعذيب الناس الأبرياء؟

سكتَ ولم يجبني، ففوضت أمري لله، ورجعت إلى شيكاغو، وطلبت من أهلي أن يرسلوا لي نسخاً ملوّنة، وبعد أسبوع توجهت إلى ديترويت من جديد وكان الجوّ صحواً مع وجود الثلج والبرد الزمهرير. في استعلامات القنصليّة بضعة عشر آثورياً وآثورية. ولست أدري لماذا لم أرَ سوى آثوريين فقط؟ وفي هذه المرّة لم أسأل أيّ واحد منهم كم انتظر! توجّهت إلى منضدة الاستعلامات الخالية من البشر، كتبت اسمي، وجلست أنتظر، وبعد نحو خمس عشرة دقيقة، أطلّ شاب قصير في عشريناته، أنيق، ذو صوت حاد، ونظرات عدوانيّة. نهضت. عرضت "بضاعتي" عليه. فحدّق بي: هذه  الأوراق كلّها غير مهمّة، عليك أن تجلب نسخاً أصليّة غير مصورّة. فأخرجت وريقة زميله السّابق، ووضعتها أمامه: هذا ما أعطانيه موظفكم قبل عشرة أيام، ولم يذكر نسخاً أصليّة.

تجهّم: تبدّلت الأمور. لم يُبقِ الأكراد لنا شيئاً.

- وما علاقة الأكراد؟

- زيّفوا كلّ الوثائق. علينا تبديل المتطلّبات بين مدّة وأخرى.

ما قاله الموظف يتوافق مع إشاعات كثيرة سارية في المدونات العراقية المتعددة عن محاولات وزير الخارجية "الكردي" والمحسوبين عليه بتزييف جوازات السّفر والشّهادات والوثائق الرّسمية، لكنّي لم آخذها على محمل الجد، فالأمريكان كالملوك إن احتلوا شعباً أفسدوه وجعلوا غوغاءه سادة أعزاء، وإن كان أحد الوزراء وبطانته فاسداً فلم لا يغيّروه؟ تساءلت: وما الحلّ؟

- لابدّ من جلب أصليّات.

- لا أمتلكها.

- عليك أن تذهب إلى العراق وتستخرج نسخاً بدل الضّائعة.

- أتدري كم يكلّف الذّهاب إلى العراق؟

- ليست مشكلتي.

آنذاك لم أسيطر على نفسي، توجّهت إلى المواطنين الآثورين وسالتّهم: يا ناس، يا عالم أأنا حيّ أم ميت؟

ضحك معظمهم، قال واحد: أنت حيّ.

- هل تشهدون أنني حيّ؟

ابتسموا جميعاً، قال غير واحد: نعم. نشهد.

قلت للموظّف: انظر، شاهدان يسوقان الشّخص إلى الإعدام، وهنا أكثر من عشرة يشهدون أنّني حيّ، فلماذا لا تكتب وثيقة تستند إلى هؤلاء العراقيين الشّهود العدول بأني حيّ؟ وبإمكاني إثبات ذلك لأني آكل وأشرب وأذهب إلى المرافق، وقادر على القراءة والكتابة وسياقة السيارة، وهناك شيء آخر أخجل من ذكره، لكني سأتجرأ وأصارح الجميع به، أنني أستطيع ممارسة الجنس بدون فياكرا، فهل أثبت بذلك أنني حيّ؟ ازدادت تقاطيعه ظلمة وتجهّماً.

وأعدت عبارتي بأنّني كنت استخرجها بخمس دقائق فلماذا تعرقلون الأمور؟ قال: لابد من وثائق أصليّة لا تتعب نفسك.

***

وصلت الموصل والحرّ على أشده، بدرجة حرارة 130 فهنرهايت، وفي اليوم الأول من رمضان وجدت نفسي في دائرة الأحوال الشّخصية أكاد أذوب من الحرّ، وبينما كنت واقفاً بالدّور وجسدي ينضح عرقاً، ورأسي منتفخ كالطبل، سمعت أحدهم يقول: عفا الله العراقيين من نار جهنم، لأن عدالتّه قضت أن لا يدخلها المرء مرّتين. فأحسست بشيء من الأنس، هذا إنسان مثلي قهر جهنّم والرّوتين الغبيّ بالمرح.

كان معظم مسؤولوا الدّائرة كإخوتهم في ديترويت تماماً، عبوسين، متجهّمين، غاضبين، ساخطين على البشر والبشريّة، مترفّعين عن "الحشرات" التي تراجعهم، وكان أحدهم عملاقاً بشارب ثخين "رقم ثمانية" ووجه عبوس "قمطرير"، وجسد ديك مزهوٍ منفوش الرّيش، ذكّرني بملابس الحرس الجمهوري السابق الزّيتونية، وبعد ثلاث ساعات من دخول غرفة واختها وجارتها وبنات عماتها وخالاتها سُئلتّ عن بطاقتي التّموين ووثيقة السّكن. وعندما استفسرت عن علاقة الهُويّة الشّخصية بهاتين الوثيقتين، قالوا لي لابد من جلبهما لتحديد مكان سكناك. فاحتججت بإنني لا سكن لي لأني غادرت العراق منذ نصف قرن. قالوا إذن لابد من الذّهاب إلى دائرة الهجرة والمهجرين ورفضوا الإجابة عن علاقة الهويّة بالهجرة والمهجرين، فأدركت أنّهم يتعمّدون بغباء ووحشيّة أن يعجزوا المواطنين، ويسحقوهم، ويذلوهم بهذه المعاملة اللاإنسانيّة المرفوضة، ويدفعونهم إلى كره الحياة، وكره الوطن، والشّعب، والسلطة والانتقام منها بأيّ وسيلة.

قرّرت أن أتوقّف. وأقرأ على راتبي التّقاعدي السّلام، فمن يستطيع سرقة مئات المليارات من مردودات النفط لثماني سنوات فلماذا لا يسرق راتبي التّقاعدي؟ لكن ابن اختي حثّني وشجعني على الاستمرار، وأن لا أستسلم، فأدع لصّاً دوليّاً كالجلبي يسرقه رغم ضآلته.

في الواحدة بعد الظّهر وصلنا دائرة الهجرة والمهجرين، فرأيناها مليئة كالعادة بالمراجعين، لكن الجديد فيها أن الحيطان مملؤة بملصقات ضخمة تحارب الفساد، والمفسدين، وتصوّر كلّاً من الرّاشي والمرتشي غارقين في بحر لا قرارة له، وأيديهما مكبّلة بالحديد "والعياذ بالله"، وكأن هذه الملصقات في بلد نظيف كسويسرا والسّويد وليس في بلد معلوم ومعروف ومشتهر في كل المعمورة على أنه في بؤرة الفساد، إن لم يكن هو الأفسد في العالم، أو كأن من سرق المليارات كعبد الرحيم السوداني وعادل عبد المهدي وأيهم السّامرائي ووو لا علاقة له بالعراق والعراقيّين، لأنّهم شياطين نزلوا من السّماء وعادوا إليها.

في هذه الدّائرة دخلنا غير غرفة لنستقرّ أخيراً في غرفة "الخبير"، وكان "للغرابة" شاباً دمئاً سمحاً طيّباً، وبعد نحو ربع ساعة من الاستجواب شبه "الأمني" وصلنا إلى نقطة تقضي بالرّجوع إلى أمريكا لجلب وثيقة مصدّقة من وزارة الخارجية الأمريكية تثبت اللجوء السّياسي. وكأن الذهاب إلى أمريكا والرّجوع منها يتمّ خلال نصف ساعة باستعمال سيارة إجرة. وعندما قلت لمسؤول دائرة الهجرة لماذا لا تزوّد القنصليّة من يراجعها بالتّعليمات كاملة ليوفّر المواطن تكاليف رحلتين إلى الوطن، كل رحلة تثقل كاهل صاحبها بما يزيد ولا يقلّ عن ألفي دولار لبطاقة الطّائرة فقط ذهاباً وإياباً. قال وهو يبتسم: هذه ليست مشكلتنا، لقد عقّدنا الرّوتين لأن الأكراد والمسيحيين زوّروا المستندات وحصلوا على حقوق غيرهم. فأخذت أضحك. سألني عن سبب ضحكي.

- اعتدنا نحن العراقيين لوم غيرنا لتقصيرنا، فنحن نبدد مياه دجلة والفرات ولا نقوم بأي جهد لخزنها لكنّ لساننا أطول من ذراعنا في اتهام الأتراك، ونحن نسمح لإيران والكويت بقضم وطننا ثم نصرخ ونتباكى أنّنا ضحاياهم، ونحن نغطس في الرّشوة وندع الحدود مفتوحة مع سوريا ثم نسبّها لأنها تهرّب الأسلحة للمليشيات، ووو إلى ما لا نهاية. موظفوا القنصليّة في ديترويت يضعون مسؤولية تعقيد الرّوتين على عاتق صدام حسين والأكراد، وأنتم تضعونها على عاتق الأكراد والمسيحيين، بينما هي مسؤوليّتكم أنتم وليس أحد سواكم، لو خفّفتم الروتين لنال كلّ حقه.

خرجت تعباً يسحقني الحرّ والعطش، وتضبب أشعة الشمس رؤاي، سأرجع إلى أمريكا، ثم أذهب إلى العراق مرّة ثانية، ولست أدري بعد صرف أكثر من 4000 دولار تكلفة بطاقة الطّائرة وحدها هل سأتمكّن إثر ذلك من إثبات أنّني حيّ أم سأدور في حلقة مفرغة حتى أموت.

 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2091 الأحد  15 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم