صحيفة المثقف

في بيتنا فأر / وديع شامخ

من بلدان القهر الجمعي .. نحن سكنة هذه البلاد الرائعة المُحصنة من إنفلونزا الوطنية ومنغصات القومية وأوبئة الحداثة العالمية .. نحن نعاني من هجمات خارج السيطرة من قبل حشرات تفسد متعتنا، وحيوانات تقلق طمأنينتنا .. لاتبدأ من البق والحرمس ولا تنتهي بالأفاعي والقوارض .. لأن هذه البلاد،كما قيل لنا، ونحن نهاجر إليها بأنها كانت غابة كبيرة .. ثم صارت سجنا لقوة الانجليز وبعدها صارت جنة لنا .. وأن أكثر هذه الحيوانات حميمية هي الفئران .. التي تتسرب الينا من الحدائق الفارهة التي تحيط ببيوتنا الآمنة تماما .

وزائري الليلي كان فأرا يشاغلني ويقلق راحتي عندما أكون في شدة الانغمار بالكتابة أو القراءة أو الإستماع .. يخرج من سم حائط صلد لا ثغرات فيه .. يقلقني .. فأذهب صباحا لشراء مصائد الفئران، سيما تلك التي تعتمد على القتل الرحيم .. وهي عبارة عن قطع من مقوى الكارتون أو البلاستك المعزز بالصمغ القوي ..اضع الفخ المصمغ في طريق الفأر المزعج .. أصطاده برحمه وارميه في سلة المهملات .. أرمي الفأر الصريع واعود كقاتل وسفاح الى مساحة الورق لامارس كتابة الشعر . والنثر .. والمقالة ..وأدعوا الناس للسلام والمحبة والغفران!

ياله من فأر عجيب يفضحني تماما .. يفضح شاعريتي لانني تلذذت بالقتل، يفضح موضوعيتي في القول .. ان للحيوانات حقوقا كما لنا حقوق ..

ويفضح براءتي عندما رميت الفأر القتيل خطأً في "برميل الريسكال" وهو برميل مخصص لرمي القمامة التي تتكون من مواد ورقية وبلاستيكية يمكن اعادة صناعتها .. "لاحظوا البطر الذي نحن فيه .. برميلان للقمامة" !!!.

 عذبني ضميري تماما لان دم الفأر القتيل سوف يختلط مع المواد التي سوف تعاد صناعيا ويستفاد من نفاياتها .. اي جرم ارتكبته عندما مزجت دم الفأر اللعوب مع قوة المواد في استعادة الحياة واستخدامها ثانية من قبلنا ..

ربما سيعود دم الفأر مع قنينة ماء باردة أشتريها صيفا لتطفيء عطشي وانا ارى هذا الفأر يطالبني بدمه .ربما سيكون لحم الفأر في علبة سردين او لحم معلب .. سيمدُّ لسانه ويطعن بكل محرماتي في أكل لحم الميت، القتيل ..

الفأر صار ملعبه " عبي" وصرت أخشى من شرب الماء من الحنفية لانني ربما سأشرب دم الفأر .. أخشى من أكل اللحوم، وأخاف من لبس الجلود كي لا يخرج الجرذ من بين أصابعي .. فكرت أن أكون قطة تلتهم الجرذان والفئران دون تأنيب ضمير، فوجدت في التاريخ ما يعضد خيالي واقعيا إذ تقول الوثائق البريطانية وعلى ذمة خالد القشطيني" ان بريطانيا اعتمدت على القطط في حماية مراسلات الدولة ووثائقها من هجمات الفئران والجرذان .. وكما جاء في كتاب سري للغاية من وزارة الاشغال الى وزارة البريد تقول : من المستحيل عمليا الحصول على رجال مختصين بصيد الفئران طالما إستمرت هذه الحرب والوسيلة الوحيدة المطروحة أمامنا هي في الاعتماد على المصائد وعلى القطط البريطانية .." لكن التاريخ يكتبه المنتصر ولو كان قطة ..

قلقي يتورم .. والفأر الذي شيعته يعلمني الاحتفاء بقامته .. هو يعرف انه سيموت على يدي، ولكنه لن يسمح لي بقبره على هواي ..الفأر الميت في برميل الزبالة .. هو المآل المناسب له كما أعتقد .. ولكنه الآن يلقنني درسا لأني بتُّ أفترض مع صحوة ضمير متأخرة بأن لهذا الفأر عشيرة أو حزبا أو نائبا في برلمان أو مسؤولا في أجهزة أمن الدولة أو " سيد كبير" يتوعدوني كلّهم بالثأر ويطالبون بالقصاص العادل مني، أو ربما سيكون للفأر عائلة قد سحقت مستقبلها فرمّلت زوجته وأيتمت أطفاله .. يا للخزي أن أكون بهذا الموقف المهين، وأنا المدافع والمنافح عن حقوق الإنسان والحيوان والطبيعة ومعجب جدا بحزب الخضر لتبنيه مشروع المحافظة البيئة .. ومعارضا للأحزاب الدينية الطائفية والقومية .. أنا الداعية السليط اللسان عن حقوق المرأة والطفل والشيخ !!؟ كيف أفسر ما حدث لي .. هل هو تصرف طبيعي وقرار سليم أن أقُدم على قتل هذا الكائن الضعيف، أم انه أمر طبيعي ومشروع ومن باب الدفاع عن النفس وحماية البيت والأمن العائلي .. هذا الموضوع تصدر اهتمام الفقهاء في الشرع والقانون .. فمنهم من أجازه ومنهم من حرمه وجاء فريق ثالث ليقول بكراهيته على الأحوط وجوبا .. وقد تشبّث الفرقاء الثلاثة بأرائهم وفقا لحماسهم المنقطع النظير عن إسلوبهم في إيتاء الحجة وإستنباط الحكم، ولكن فريقا رابعا قد أجاز قتل الفأر بدم بارد لتورط هذا الكائن في إفساد العباد والأمة عن دورها الرسالي !!

وبين مشرع وفقيه، وقانوني ورجل شرطة .. تاه دم الفأر بين القبائل .. لكنه لم يته من مساحة تفكيري .. لان درس الفأر علّمني أن أكون حكيما في إغلاق نوافذي وأبوابي أمام الزائر الغريب وأدفن أسراري واوراقي في مقام يليق بها ولن أترك أفكاري نهبة للعابثين وأوراقي ُملكا مشاعا للأخرين .. علّمني الفأر القارض أن أقلم أظافر غفلتي وأصحو على حراسة مملكتي . كي لا أدع ضميري يفتك بي وأنا أقدم على رعونات تقضّ مضجعي وتعبث بسلامي.

الفأر هو أيّ منا في لحظة الإنقضاض على المشاع والمفتوح والمباح دون حصانة ولا حرمة .. الفأر هو أنا أو أنت ..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2109 الخميس  03 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم