صحيفة المثقف

بصمات ثقافة الشرق ظاهرة على رواية دون كيشوتة (2) / كاظم شمهود

يضاف الى ذلك بعض مناطق جنوب آسيا وايطاليا وغيرها .. ولما ظهرت رواية دون كيشوتة سنة 1605 نالت شهرة عالمية في حينها  وترجمت الى اللغة الانكليزية لاول مرة سنة 1612 بواسطة الكاتب توماس شيتون . والى الفرنسية سنة 1614 من قبل ثيسار اودين .. وعندما ظهر الجزء الثاني من الرواية سنة 1615، لم يكن للنقاد معايير واضحة في ذلك الوقت  لتقييم وفهم هذه الرواية حيث كانوا يعتبرونها عملا خارجا عن المألوف .. ولكن في عصر الرومانسية الذي ظهر في نهاية القرن الثامن عشر في فرنسا والذي زعزع الكثير من التقاليد القديمة واصبح صرخت احتجاج على دكتاتورية العقل،  اعتبرت هذه الرواية من الرويات الحديثة .  ولكن تأخر فهمها وكشف مضامينها حتى مضى القرن السابع عشر، حيث لازال المجتمع متخلف جاف متخشب تسيطر عليه التقاليد والاساطير الدينية، ورغم من  ظهور المدرسة الكلاسيكية الجديدة التي حلت عليه في ذلك الوقت  في مجال الادب والفن ..

و في القرن التاسع عشر حدث تحول كبير في كشف حقيقة ومضمون هذه  الرواية على يد الكاتب والشاعر الالماني انريكي هيني ثم تبعه الكاتب الرومانسي فدريكو اسجيلغيل، فقد وصف هذا الاخير  ثربانتس بانه شخصية فريدة خلاقة يمكن مقارنتها مع شكسبير  1564 وتوفيل جوتيه 1811 .. كما كتب عنه الروس وقارنوا روايته مع رواية هاملت لشكسبير من حيث القيمة والمضمون .. اما رواية – مدام بوفاري – للكاتب الفرنسي غوستابو فلوبير1821، فيذكر انها متأثرة جدا برواية كيشوتة ...

وفي سنة 1898 عندما كانت اسبانيا في وضع تخلف وانحطاط  وتحكم الدول الكبرى في مصيرها وتراجعها في مسيرة   الادب والرواية،  بدأ المثقفون الاسبان بالعودة الى التراث وهو عادة ما يحدث مع كل امة تشعر بالتدهور والتخلف حيث تعود الى تاريخها ورجالها وامجادها لتلوذ بهم وتفتخر كي تخفف من وطأت المأسات  والعبرات والحسرات ... فقد عاد الاسبان الى دون كيخوته كي يبحثوا عن ملامح اسبانيا الامبراطورية القديمة، وقد كتبوا واصدروا عدة كتب عن حياة وروايات ثربانتس منها –فكرثربانتس – للكاتب لا ميريكو غاسترو و– طريق دون كيخوته – لثورين وغيرها ...

 

البدايات

صدر الجزء الاول من الرواية سنة 1605 وقد احدثت رجة في صفوف الحركة الادبية في اسبانيا في ذلك الوقت وكان عمر ثربانتس يومذاك 57 سنة .  وقد تحدثنا في الحلقة الاولى عن تاثيرات الادب المشرقي في صياغة هذه الرواية خاصة مقامات الحريري وبديع الزمان الهمداني حيث رست الرواية على شاكلتهما . اما الجزء الثاني  من الرواية فقد ظهر في سنة 1616 . ويذكر النقاد والمؤرخون  بان ثربانتس حاول في هذا الجزء من اعادة تلميع شخصياته بالابتعاد عن الكسب من نصوص وا فكار  الآخرين .. وهنا ظهرت فكرة رائعة لثربانتس  تدل على قدرته الكبيرة في الابداع والمهارة . حيث جعل الشخصيات والجمهور الذي ظهر في هذا الجزء كان لديه فكرة او معرفة مسبقة عن ذلك البطل المدعو كيخوتة وقد قرأت عن مغامراته وحكاياته .. فعندما يلتقي بطل الرواية بهذه الشخصيات يشرح لهم من جديد مغامراته وبطولاته الفروسية .. الواقع ان هذا الابداع وكسر التقاليد المتبعة في  سرد الرواية نادرا ما نجده في ادبيات ذلك العصر، وهو عبارة عن مزج الخيال  بالواقع والجد بالسخرية    وهو مانراه في شخصية ابو زيد السروجي في مقامات الحريري ...  . 

ولنأخذمشهدا من احدى مشاهد الرواية . يروي ثربانتس بان دون كيخوتة دعي الى وليمة من قبل احد الاشراف، وكان عند ذلك الرجل ولدا نابغا يعتقد ان كيخوتة شخصية معتلة العقل .  ولكن عندما جلس الجميع على المائدة اخذ كيخوتة ينشد شعرا ثم دنى من الشاب ومدحه واثنى عليه لشدة نبوغه وذكاءه .. ففي هذه اللحظة نسى الشاب ما كان يعتقده عن كيخوتة من جنون .

.... في هذا المشهد  يجعل ثربانتس القارئ في تسائل : من هو الاكثر جنونا هل هو المجنون الذي يمدح الشاب ام الشاب الذي يعتقد بمدح المجنون ... ؟؟؟ وهكذا يدخلنا ثربانتس بمتاهات ومواضيع مليئة بالمعاني والسخرية والقصص الخيالية  الضاحكة .  

كل ما جاء في الرواية من سرد يجعلنا ان نتامل ونقف  لنرى حقيقة شخصية كيخوتة الساخرة التي تحمل صورتين متناقضتين بين الخيال والواقعية بين الجد والسخرية . ففي تلك المشاهد نرى كيشوتة يهاجم الطواحين ضنا منه انها عمالقة ثم يهاجم  قطيع من الاغنام تخيلا من انها جيوش مقاتلة وكان يخاطب رفيقه سانجو : بان هذه المظاهر هي كلها تسير ضد نظام الطبيعة .. لهذا نرى ثربانتس يعطينا - وجه وظهر - لكل الاشياء مع شخصية ذات فصاحة باروكية كانت سائدة في ذلك الوقت ... ويذكر النقاد بان هناك تذبذب حاصل في اسلوب اللغة بين الفصاحة والعامية ... وهو ما يذكرنا بمقامات الحريري وبطلها ابوزيد السروجي الذي يمتاز بفصاحة اللسان   وحضور البديهه، كما انه يعشق الجموع ويقيم فيها خطيبا او واعضا لكنه فقير  رث الحال يدور بين القرى والمدن مستجديا او متسترا .... وفي احدى صفحات الكتاب نرى كيخوتة يخاطب رفيقه سانجو فيقول : انا ولدت في هذا العصر الحديدي كي ابعث فيه الاصلاح ( يعني عصر الحروب) . ومنذ نصف قرن كتب الكاتب والناقد – بيرري بلار – مقالة عنوانها – عصر كيخوتة – ومن ضمن ما ذكره هو ان شخصية دون كيخوتة هو طراز يشبه شارلي شابلن  من حيث كونه شخصية فكاهية ساخرة وفي نفس الوقت ناقدة لمشاكل عصرها .. وفي آخر صفحة من الكتاب يذكر لنا ثربانتس بان الهدف من هذه الرواية هو ان يضعنا امام ضاهرة كانت مستفحلة ومنتشرة في ذلك  المجتمع وهي الضجر من القصص الخيالية التي تدور حول  الفرسان وبطولاتهم ومغامراتهم في الوقت الذي يعم الفساد والتخلف في المجتمع.

 

تزويق الكتاب

تعتبر فرنسا هي اول من بدأ بتزويق الرواية  حيث رسمت لاول مرة شخصياتها سنة 1650 -1652 وقد نفذت الاعمال  بطريق الحفر على المعادن وطبع منها اعدادا  كبيرة، وكان التمثيل واقعيا ولم ينحو نحو الكاريكاتير الساخر .  وفي سنة 1657 عملت في هولندا  24 لوحة حفر لشخصيات الرواية وقد اشتهرت هذه المجموعة وانتشرت في جميع انحاء  اوربا وبقت تطبع وتستنسخ حتى دخول القرن الثامن عشر . وحسب بعض المؤرخين بانه  من المحتمل ان صاحب هذه الاعمال يدعى خاكوب سافري .  وفي انكلترى عملت مجموعة اخرى من الرسوم سنة 1687  وطبعت على المعادن وكانت تتكون من 16 كليشة معدنية . وقد رسمت باحجام كبيرة ولكنها كانت تعكس البيئة الريفية الانكليزية وليس البيئة الاسبانية ..

و في اسبانيا كان تزيين الرواية متأخرا حيث جائت على يد الفنان الارغوني باليرو يريارتي الذي رسمها على القماش باحجام كبيرة لتزين البلاط الملكي وغيره من قصور النبلاء .. ثم جاء غويا ودومير وغيرهم فابدعوا في تصوير وتجسيد  شخصيات  الرواية  فاق الاولين .

و في سنة 2005 احتفلت اسبانيا بمرور 400 سنة على ظهور رواية كيشوتة  واقامت المهرجانات  والنشاطات الثقافية والافلام الروائية وطبعت مجموعة من الكتيبات السياحية التي تبين الطريق الذي سلكة بطل الرواية ..

و في هذه المناسبة طبعت كتاب تحت عنوان – العالم في عيني دون كيخوته – يمثل  مجموعة من الرسوم الكاريكاتيرية هي ترجمة لمشاهد الرواية ولكن نرى فيها  كيخوته يحل بيننا ضيفا فيرى علمنا المعاصر فيرتد  مذهولا ومرعوبا ...و اعتقد هو اول كتاب يصدر في اسبانيا من هذا النوع ..

و اصبحت رواية  دون كيخوتة اليوم  مصدر الهام وابداع للفنانين والادباء لما تتمتع به من معاني ومضامين مثيرة للجدل بالاضافة الى انها تقرأ الى جانب الروايات الحديثة .... 


 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2139 السبت  02 / 06 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم