صحيفة المثقف

ألوان الساسة وضباب السياسة .. حديث (الثوار) عن الثورات / علي السعدي

ليتبناها من ثم "محللون سياسيون" ووسائل إعلام مختلفة، وبالتالي حددت سقوف بعض المواقف لما يجري هناك .

 القياس بالمثال، أو تفحص المعطيات بمنظار الفكر، تلك الوسائل المستخدمة لتحديد المواقف، النوع الأول يلجأ إليه أولئك الذين يعجزون عن ربط الوقائع بمؤشرات المستقبل، فيكتفون برؤية ماجرى لاستخدامه مقياساً لما سيجري، لكن ذلك يتم في الغالب باتجاه واحد،فيستحضرون وقائع تسند (رؤيتهم)، ويغيبون أخرى إن خالفت ذلك.

لم يمض سوى عام وبعض العام على الأحداث في سوريا، قبلها كان نظام الأسد بكامل عافيته وجهوزيته،لكن المعركة آنذاك كانت تدور في قلب بغداد وليس على تخومها وحسب، لذا لم يجف حبر الشكوى التي تقدم بها العراق ضد سوريا بتهمة دعمها للإرهاب، خاصة بعد تفجير وزارتي الخارجية والمالية ثم وزارة العدل، وقبلها عشرات الأدلة والشواهد على مقدار  الدعم السوري الرسمي تدريباً وتسهيلاً وايواءاً للمجموعات الإرهابية المسلحة – وهو المصطلح ذاته الذي سيطلقه النظام السوري لاحقاً،على المعارضين لحكمه -  .

المثال الذي بُني عليه، هو أن الأصوليات اكتسحت الثورات في تونس ومصر، فيما تنشط القاعدة في اليمن وليبيا، وبالتالي سيقع الأمر ذاته في سوريا مابعد الأسد .

تنقلب الصورة هنا إلى عكسها، فبالأمس كان نظام صدّام حامياً للبوابة الشرقية ضد الأصولية الإيرانية، واليوم يقف الأسد حامياً للبوابة الغربية ضد الأصولية الوهابية،وفيما كنا نستنكرالموقف العربي في مساندته الدكتاتورية على حساب الشعب العراقي ، نتخذ الموقف ذاته في مساندة الأسد على حساب السوريين .

العمى السياسي، ذلك هو الوصف اللائق بما كان يتخذ من مواقف،إذ غاب عنّها بداهة أن مايحفظ التجربة العراقية ويقوّي عودها،هو تعميمها لاحصرها،ذلك يعني المساهمة في انتشار الديمقراطية ودعمها، إذ لم ينته خطر الحروب في أوروبا وتتجه من ثم نحو الوحدة، إلا بعد سيادة الديمقراطيات، صحيح إن الشرق العربي ليس أوروبا المسيحية، والبنية المجتمعية  والثقافية هناك، ليست هي ذاتها هنا،كما نشوء الديمقراطيات الأوروبية جاء مترافقاً مع ثورة علمية ومكتشفات هائلة أطرّها منهج الليبرالية في الاقتصاد والعلمانية في السياسية، ماجعل " الدولة في مهمتها، والكنيسة كذلك " على ما نادى به فيكتور هيجو،لكن ذلك لايجعل الديمقراطيات متناقضة ومتحاربة كما هي الدكتاتوريات.

 النظام الوهابي وعلى  رغم محاولاته الحثيثة لدعم القوى المتطرفة، في مسعى لإضعاف الثورات وحرفها عن أهدافها ـ ومن ثم إظهارها كفوضى وانشقاقات مجتمعية لاتشكل النموذج الجدير بالاقتداء، وهو هجوم استباقي للوهابية ونظامها في السعودية من جهة، وتوسيعاً لنفوذها بوضع الشعوب الثائرة تحت وصايتها من جهة أخرى .

لكن مقولة (ظاهر القوة وضعف المضمون) ينطبق بشكل كبير على النظام السعودي، فهو في الظاهر يمتلك الكثير من مصادر القوة – خاصة المالية الهائلة – التي تمكنه من مدّ أصابعه في مفاصل الكثير من البلدان تحت شعار نشر العقيدة والحفاظ على الإسلام ونصرة المسلمين، إلا أن ذلك لايخفي نقاط الضعف التي تخترق نظام لم يعد له من شبيه.

نقاط قوته في نظر نفسه، هي ذاتها مقتله بنظر  الآخرين، فقد بات العالم يدرك أن السعودية هي الداعم الأساس للأصوليات المتطرفة والحركات العنفية التي بدأت بالكشف عن نفسها وأساليبها في الشعوب المنتصرة ثوراتها كما حدث في تونس وليبيا من عنف القوى السلفية  ، وفي مصر بدأت بالتحضير للممارسات مشابهة  وإن مازالت في نطاق محدود لكنه مرشح للتوسع، أما الحركات الإرهابية والتكفيرية الممتدة من إفغانستان وباكستان في آسيا، وصولاً إلى أفريقيا وأوروبا وكل مناطق العالم، فعلاقتها ومصادر تمويلها ومستنداتها الفقهية، لم يعد مخفياً  إن المملكة السعودية هي مصدرها الأساس حكماً وفقهاً وفتاوى وتحريضاً وتمويلاً، سواء بشكل مباشر أو بواسطة مصارف وجميعات وشركات تابعة .

قد لايعني ذلك ان العالم مستعد للتحرك ضد السعودية في الوقت الراهن ،فذلك  يتطلب أما تأمين بدائل للطاقة،أو سرعة في الحسم، وهو مايحتاج إلى تحضيرات لم يتم البدء بها بعد،  خاصة مع انشغال العالم بملفين ساخنين - السوري والإيراني -  لكن الاعتقاد الأكثر معقولية  إن القوى العظمى التي انقسمت بشأن هذين الملفين، قد لاتنقسم بالمقدار ذاته فيما يخصّ السعودية، بل ربما اتحدت بشكل لاسابق له حول قضية على هذه الشاكلة، وذلك بسبب تأثيرات الوهابية  على كل من هذه الدول التي تعاني من دعاوى ونشاطات (التنظيمات الجهادية).

أما الدول الإقليمية،فمن نافل القول أن السعودية لم تنجح في تسويق نفسها كماترغب، ذلك لأن حركات الإسلام السياسي – كالإخوان المسلمين  وحركة النهضة وماشابه -  التي نجحت في انتخابات بلدانها، تشق طريقها بعيداً عن الفقه الوهابي الذي يصفه المفكرالمصري محمد عمارة بالقول " ظل صوته غريباً عن أسماع الذين تجاوزوا طور البداوة التي نشأ في محيطها إمام الوهابية محمد بن عبد الوهاب -1" .

كما أن الحركات الإسلامية  بدأت تفقد الكثير من شعبيتها كما أظهرت الانتخابات الرئاسية في مصر، ليس لصالح التنظيمات السلفية التي انحسرت  مواقعها هي الأخرى حتى قبل أن تبدأ بقطف ثمار فوزها في الانتخابات التشريعية، بل ذهب جزء معتبر من جموع الناخبين الى الحركات العلمانية أو المنادية بالدولة المدنية، وهو مؤشر ذو دلالة، بأن الوهابية في نهاية المطاف ورغم ماتملكه من قدرات مالية كبيرة، لاتشكل ذلك البعبع (الإستراتيجي) الذي يمكنه من ابتلاع الثورات وفرض الوصاية عليها أو تحريكها وفقاً للمصالح السعودية التي يتحرك الزمن بعيداً عنها - رغم مايقوم به الجناح المتنور (الوليد بن طلال وخالد بن عبد العزيز وسواهم) من محاولات الدخول في قلب الحضارة، أو استثمار مكتسباتها المالية والإعلامية) .

أما عن إمارات الخليج، فقد طفت خلافات السعودية وقطر إلى السطح في ملفات ليست قليلة، حيث تراهن قطر على الإسلام السياسي، فيما تذهب السعودية إلى دعم السلفيات بدرجة أولى،أما الكويت والإمارات فوجدت نفسها متساوقة مع الطروحات القطرية للتشابه في شكل الحكم والمجتمع المنفتح والصحافة الحرّة، بخلاف الظلّ السعودي الثقيل والمتجهم، فيما تبدو البحرين أقرب إلى القبول بالعباءة السعودية كحامية وحيدة للحكم الملكي لآل حمد  من التطورات الداخلية المهددة بزواله، خاصة ان المجتمع البحريني يختلف عن بقية الدول الخليجية، في انه الوحيد من بينها، تحكمه أقلية طائفية على حساب أكثرية محكومة ومطالبة بالحرية، كما أن الدولتين هما المملكتان الوحيدتان في خليج أميري  .

    أما في يخصّ الجانب السوري ، فالحسابات الموضوعية تشير بدرجة تقرب من اليقين  ان بقاء نظام الأسد في سوريا يعني انتصاراً للأنظمة الدكتاتورية  وبالتالي بقاء الأنظمة في السعودية والبحرين وغيرها، التي يفترض أن التغيير فيها قادم،ذلك لأن اعتماد البقاء في الحكم على القمع وإسكات أي صوت معارض، هو إثبات لمقولة وجوب الطاعة لصاحب القوة والشوكة، التي اعُتمد عليها عبر قرون في تحويل الخلافة الى " مُلك عضوض " .

ذلك ماتوارثته  الأنظمة المعاصرة - ملكية كانت أم جمهورية - منذ عصور الأمويين والعباسيين والعثمانيين، كما ان بقاء الأسد يعني مبرراً لإجهاض بقية التحولات في المنطقة – بما فيها العراق – للعودة من ثم إلى الدكتاتوريات، وهو ماتظهر تباشيره في التمهيد لذلك .

في وصف عام للمشهد السوري، تظهر الصورة على الشكل الآتي :

 1: النظام بجيشه وأجهزته مازال يمتلك القدرة على امتلاك زمام المبادرة العسكرية وبالتالي منع المعارضة المسلحة من إقامة نقاط ارتكاز جغرافية يمكنها ان تشكل عامل جذب وإسناد من جهة، وتنازع النظام شرعيته من جهة ثانية .

 2: المعارضة لم تعد مجرد مظاهرات سلمية أو (مجاميع مسلحة )  وحسب، بل اكتسبت اعترافاً بشرعيتها من نصف دول العالم على الأقل،وبالتالي أصبحتْ تقاسم النظام شرعيته فعلاً، ما يعني ان الدعم الذي يقدم لها من هذا الطرف أو ذاك،يُعتبر شرعياً بدوره، كما المساعدات والدعم العسكري الذي يتلقاه  النظام من بعض الدول .

3: خيارات النظام باتت محدودة، فإما ان يوقف آلته العسكرية من التدخل، وعندها يفتح الطريق أمام فاعليات شعبية تزداد كثافة مع الوقت،ما يضعه في مأزق حقيقي، وإما الاستمرار بالوتيرة الحالية متجاهلاً الضغوط الدولية،في اعتماده على الموقفين الروسي / الصيني، وهو ما  يحمل في طياته ازدياد حدّة الاستقطاب الطائفي واستمرار الأعمال العنفية بتكاثر مطرد، مع حشد كل من الطرفين لنقاط قوته وتكتيكاته السياسية والعملياتية، خاصة مع اعتماد كلّ منهما على معسكر دولي وإقليمي سيعتبر ان هزيمة المقرب منه، تعني هزيمة له، ذلك يعني باختصار وضع يتجاوز كثيراً ماحصل في أفغانستان والعراق .

4: سيكون العراق الخاسر الأبرز، فهو في موقفه المراهن – ضمناً – على بقاء النظام السوري، إنما يغامر في تماسك وحدته الوطنية، فلم يعد خافياً ان هناك مكونين على الأقل يتعاطفان بشكل واضح مع المعارضة السورية، واستمرار العمل بالتحذير من سقوط الأسد،يعني في بعض وجوهه، تشكيكاً بوطنية تلك المكونات وعراقيتها من خلال الإيحاء بأنها تتآمر مع المعارضة السورية ضد العراق،مايشكلّ خلطاً للأوراق وعدم وضع فواصل حقيقية لطبيعة الأحداث في سوريا ومآلاتها اللاحقة .

 قد يمكن فهم موقف الكرد المستند الى إمكانية إن انهيار النظام السوري، يعني حقّ تقرير المصير لأكراد سوريا – وهو ماطرحته القوى الكردية السورية ورفضته بقية فصائل المعارضة – لكن تعميم ذلك على السنّة العرب،ليس دقيقاً، لأن من شأنه أن يحدث تقسيماً فعلياً للعراق والمنطقة   .

قراءة المؤشرات بإمعان، تذهب الى ان النظام السوري فقد الكثير من مبررات البقاء على رأس السلطة،وبالتالي وإن أظهر تفوقاً تكتيكياً، الا انه سيخسر استراتيجياً كما جرى للسوفييت وحليفهم نجيب الله في أفغانستان في ثمانيات القرن الماضي، هذا ما تحتمله طبيعة الصراع وموازين القوى محلياً ودولياً،  لذا يمكن القول إن أفضل مايمكنه الحصول عليه، تسوية يخرج الأسد بموجبها من الحكم من دون ملاحقات قانونية وجنائية،ذلك ماتوفره الظروف الحالية حيث مازالت المساومات  حلّاً مقبولاً .

قضيتان محوريتان كشفتا الكمّ الهائل من الإزدواجية في مواقف النخب العربية - السياسية والثقافية والإعلامية - هما على وجه الخصوص القضية العراقية وأختها السورية، فتلك المواقف بمجملها كانت بمثابة عملة ذات وجهين :من أيدّ نظام صدام ودافع عنه بقوة وحماسة، يقف اليوم مهاجماً النظام السوري بذات القوة والحماس، فيما ضحايا صدام ومعارضوه الألداء بالأمس،يدافعون اليوم عن  نظام الأسد، بعضهم ضمناً، وبعضهم علناً وبقوة .

وهكذا ضاع (الثوريون ) في تقلّب مثير  للمواقف و(الرؤى) .

 

................. 

   (1) محمد عماره – أبو الأعلى المودودي والنهضة الإسلامية - ص11 

   

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2155 الأثنين 18/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم