صحيفة المثقف

الفلسفة باعتبارها سيرة الفيلسوف / محمد بقوح

لهذا قبل أن نتعامل مع الفلسفة على المستوى الفهم والتفهيم يلزمنا أولا أن نعرف كيف نفكر. فربّ متسائل يقول : ومن منا لا يعرف أن يفكر.؟ لكن دولوز يجيبه بطرح السؤال من جديد. فما التفكير؟ فإذا استطعت أن تجيب عن سؤال هوية التفكير هذا حتما تستطيع فهم وتفهيم الفلسفة باعتبارها علم يفكر. يعني فكر حر. وظيفته الوحيدة والجوهرية هي قول الحق الذي لا يستطيع أصحاب العقول الأخرى غير الحرة قوله. وطرح الأسئلة الفلسفية الصعبة التي يغطيها البعض الآخر بغربال من ضباب. إنها الممارسة النقدية الملازمة لكل تفلسف حقيقي. الحقيقي هنا بالمعنى الفعلي والواقعي. فمهما كانت طموحات الفيلسوف، ومهما كانت مرجعياته وتوجهاته ومحركاته وأهدافه الخاصة به. فهو في أصله إنسان يفكر. وهذا التفكير النابع من قوة العقل هو الذي جعله ينتقد.. ولا يهادن ولا يسلّم بما يصل إليه من آراء.. ويرثه من الغير من وقائع ونظرات ذهنية.. إلا بعد تفكير عميق وتمحيص شديد وبحث وتنقيب دقيقين. ونقده قد ينصبّ على الأفكار والنظرات والنظريات الفلسفية السابقة عليه. كاشفا عن محدوديتها وانغلاقها حينا.. ومنتقدا أسسها ومنطلقها الخاطئ حينا آخر.. موضحا تناقضاتها التي تبدو له.. وقد لا تبدو لغيره من الناس والقراء العاديين. معتمدا في كل ذلك على كيفية جديدة في إعمال فكره وتفكيره. إنه آلة العقل الفلسفي المختلف والمتجاوز (بجر الواو) للعقل الفلسفي القديم المتآكل. أو العقل الذي يفكر فلسفيا بطريقة تقليدية باتت قديمة ومتجاوزة (بنصب الواو) بالنسبة للفيلسوف الحديث. الحديث هنا بالمعنى الجديد والمختلف. ويبقى فعل النقد وطبيعة المعارف والتجارب المتميزة التي تسلّح بها الفيلسوف هي معطى أساسيا في إنجاح فعل التفلسف الجديد. وأيضا كيفية تلقيه من قبل الآخرين بالشكل المرغوب فيه. رغم أن تلقي الفلسفة الجديدة لا ترضي دوما المجتمع حيث يعيش الفيلسوف. خاصة إذا كان هذا المجتمع غير مهيأ في أصله لتلقي الفكر الفلسفي المختلف والجديد. وكيفما كان الحال فالعقل التقليدي الميتافيزيقي المنغلقة أفقُه يقاوم دوما وفي جميع الأزمنة والأمكنة الفكر الجديد والمختلف ببساطته وتميزه وجرأته. مهما كانت طبيعة هذا الفكر فلسفية أو علمية أو تاريخية أو إبداعية. فهو فكر في نظر العقل التقليدي المحافظ غير مرغوب فيه.. ولن يرحب به. ويجب أن تسد في وجهه جميع الأبواب والنوافذ. نعرف كيف حورب الفيلسوف الكبير سبينوزا. لأنه عالج المسألة الدينية بعقل فلسفي نقدي تجاوز به الطرح اللاهوتي السائد. ونفس المصير ووجه به الفيلسوف الجينيالوجي نيتشه حين أحدث انقلابا مدهشا على مستوى مبحث القيم. وعمل على تطويع فلسفته العقلانية خدمة لتنوير زمنه (المريض) والعصور اللاحقة عليه.. بخصوص قضية العلاقة بين الأخلاق والقيم ومسألة الأصل والأصول والتقويم والتأويل.

 

كما توجد عندنا الأمثلة الصارخة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تعادي كل فكر علمي نقدي وفلسفي مختلف عن ما هو سائد ومهيمن من أفكار ومعارف وعلوم لا يتماشى مع النص (محنة بن رشد وبن حنبل وأبو حيان التوحيدي.. مع السلطة العربية الإسلامية). أما فيما يخص الفلسفة فقد تم إقبارها منذ صرخة سقراط الفلسفية. أي منذ اهتم الفيلسوف بالموجود وأهمل الوجود بتعبير هايدغر. تلك الصرخة المدوية في عالم الفكر البشري التي أثرت وحولت مسار التفكير الفلسفي.. من فلسفة (جسدية) تخدم الحياة والوجود والإنسان.. كما مارسها الفلاسفة الطبيعيون والذريون والفيتاغوريون والسوفسطائيون.. إلى فلسفة (حالمة) مفارقة اكتفت بخدمة ذات الإنسان. غرقت في البحث داخل أدغال قضايا متمركزة حول الإنسان كذات عارفة تبحث عن السعادة حيث الشقاء الأبدي. حين طلب من سقراط أن يعطي رأيه في فلسفة الحكماء / الفلاسفة الطبيعيين ما قبل الفلسفة السقراطية. قال : ما معناه (كان الأجدى أن يهتم هؤلاء الفلاسفة بالإنسان وعقله وأصله ومصيره الذي ينتظره.. بدل البحث والتفلسف حول قضايا تهم الحجارة والماء والنار..) ألم يكن سقراط يمهد هنا للفكر (اللاهوتي) الذي يمكن اعتبار فلسفته بمثابة البذرة الأولى في الحقل الفلسفي برمته. من تم يمكننا الحديث هنا عن ميلاد بؤس الفلسفة أو غربة التفكير الفلسفي. إنه البؤس الفكري الذي كان مع ميلاد فلسفة الميتافيزيقا. العقل الفلسفي الذي أدخل الفلسفة إلى نفق مظلم. أو لنقل سجنها فيه. ولم تقدر حتى الآن على الخروج منه. حيث حل العقل الفلسفي المفارق بعبارة دولوز محل العقل الفلسفي التراجيدي بتعبير نيتشه. فحين نقول الفيلسوف أو الشاعر أو العالم.. بصيغة الاختلاف والتجديد والتقدم والتحديث.. وتجاوز الممارسة الفلسفية بشكلها التقليدي.. وتجاوز الممارسة الشعرية برؤيتها النمطية العتيقة.. والممارسة العلمية بنظرياتها العلمية المحدودة والمغلوطة في كثير من الأحيان..  فإننا حتما نقول بالفكر الثوري الحر.. والمؤمن برسالته النقدية والجذرية.. وأيضا تجاوز التلميذ النجيب لأستاذه الذي هرم في جميع فروع المعرفة. نستحضر هنا القولة البليغة التي قالها أرسطو في حق أستاذه أفلاطون. نعني بها ما معناه (أحترمك يا أستاذي على المستوى الشخصي. لكن من حقي أن أختلف معك فلسفيا في أغلب ما جاء في فلسفتك..). يعني خاصة نظرية المثل. إن شأن الاختلاف الفكري بين الفلاسفة سواء المعاصرين أو المنتمين إلى لحظات تاريخية متباعدة ليعتبر من الظواهر الطبيعية جدا في مسار التاريخ الطويل للفلسفة. بل هناك من يعتبر مسألة بقاء نفس الفكر الفلسفي والطروحات الفلسفية أوالعلمية لهو نوع من المؤشر على الجمود الفكري والتخلف الفلسفي. باعتباره يفتقر إلى تلك الإبداعية المختلفة المطلوبة في كل عمل فلسفي جاد وجيد. في علم يؤمن بالحرية الفكرية والاختلاف الفكري وتجاوز السائد وشق الطريق إلى كل ما هو جديد ومدهش.. إنه بالضبط علم الفلسفة والفكر الفلسفي بالمفهوم العقلاني النقدي المختلف..   

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2162 الاثنين 25/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم