صحيفة المثقف

تحية متأخرة لثورة العشرين / سلام كاظم فرج

والاحتفاء كما عودتنا عليه الانظمة الشمولية.. لا يتجاوز المديح العالي والذم العالي بطرائق تعتمد التضليل والخداع واعتقد ان فيروس الاحتفاء الشمولي ما زال مؤثرا في وجدان بعض مثقفينا. فتراهم يميلون لحفر خندقين متقاطعين..اما مع او ضد.. وهذا الفيروس يمنع بشراسة اية دراسة علمية رصينة.. او بيان موقف يعتمد الرؤية العلمية في دراسة الثورات والانتفاضات. من اجل تقييمها كما هي ومعظم تاريخنا كتب وما زال يكتب وفق نظرية الخنادق .. وهنا تكمن علتنا وعلة اجيالنا السابقة واللاحقة ولا اعرف المدى الذي ستستغرقه مسيرة التناول العلمي للأحداث التاريخية الكبرى

وانا اكتب هذه المقالة خطرت في البال رواية (دكتور زيفاكو) للكاتب الروسي باسترناك.. لقد تناولت الرواية ثورة اكتوبر الروسية بالنقد والتجريح.. واعتمد كاتبها على مجموعة من الاحداث والوثائق.. ركزت على الجوانب السلبية للثورة.. وتجنبت اية ايجابية في مسيرتها.. مما اضطر نيكيتا خروشوف ان يشبه باسترناك بالنعجة التي تبول على طعامها.. بقوله (حتى النعجة لا تبول على طعامها!!).. خروشوف وهو ينطلق من رؤية ايديلوجية متزمتة يرى ان في نقد الثورة قلة مروءة ..وسوء أدب

لا شك ان باسترناك لم يكن منصفا مع ثورة أكتوبر لكن هناك حقيقة غابت عن خروشوف وحكومته.. وهي ان باسترناك لم يكذب .. فكل الثورات.. فيها من السلبيات ما قد يناظر إيجابياتها

من هنا وجدت ان من يريد ان يحتفي بثورة العشرين عليه ان لا يكون مثل باسترناك فيركز على السلبيات.. ولا مثل خروشوف فيركز على ايجابياتها وعظمتها..

الشعاراتية والمديح العالي.. قد تقنع قارئا عابرا .. عاطفي المزاج.. كذلك الذم العالي.. لكن الدراسة العلمية الرصينة هي القمينة بأن تعتبر احتفالا بذكرى الثورة..

ومن بين الاحتفالات اللئيمة بالثورة.. التركيز على جانب متواضع منها وإهمال الجوانب الرئيسة. وخير مثال على ذلك.. فلم المسألة الكبرى.. الذي انتج في زمن النظام السابق وصرفت عليه اموال طائلة وفرض على مخرجه سيناريو اقل ما يقال عنه .. (لقد كان لئيما وخبيثا وزارعا لبذور طائفية مقيتة..). فدلالة العنوان توحي بتناول الثورة بكل ابعادها وكل رموزها.. لكن الفلم اقتصر على حادثة مقتل (لجمان) وكأنها قطب الثورة ومحورها ورغم اعتزاز التاريخ وكل العراقيين بموقف الشيخ ضاري والذي كانت له اتصالات جيدة ورفاقية مع الثوار من الجنوب. (وكانت عشائر زوبع على اتصال ومودة مع كل عشائر الجنوب.. شيوخا وفلاحين..). الا ان سيناريو الفلم شكل خيبة امل لكل الجنوبيين في اهمال دور عشائرهم في الثورة.. والمضحك المبكي ان الفلم اظهر الشاعر محمد مهدي البصير وكأنه ابكم .. وعجبت ليوسف العاني الممثل الكبير كيف يرضى بهكذا دور وهكذا سيناريو.. (لكنه العسف والتعسف ..)

مثل هكذا احتفاءات تتحول الى مصدر خيبة وخذلان .. ينبغي ان نتجاوزها الى احتفاءات رصينة علمية.. تبين العثرات والانتصارات.. وتدرس الاسباب الكامنة للثورة بموضوعية.. وحرص ودقة.. ومن بين اهم الكتابات الرصينة التي تناولت الثورة.. مذكرات فريق مزهر ال فرعون.. وكتاب الدكتور علي الوردي (لمحات اجتماعيه) في الجزء الخامس .. بفصليه الاول والثاني والذي استغرق مجلدين. وكتاب المؤرخ الروسي كوتلوف. وكتاب المؤرخ رائد عبد الحسين السوداني (حكم الأزمة. الجزء الاول..). وكتابات المؤرخ الكردي البروفسور اسماعيل مظهر احمد.... وبهذه المناسبة لابد من ذكر دور الشيخ محمود الحفيد وعشائر الاكراد المشرف...

الاحتفاء الحقيقي يكون في نشر الدراسات عن الثورة.. وإعادة طبع المذكرات الرصينة بكتب انيقة وبأسعار منخفضة لكي تكون متاحة للقراء.. وفي الختام.. يطيب لي ان اكتب هذه الفقرات عن ثورة العشرين...

 

اقتباس

في مذكرات الكابتن الانكليزي مان نتعرف على الحادثة التالية..

في مرحلة التفاوض مع الانكليز قال السيد علوان الياسري مخاطبا الكابتن مان (نحن عشنا هنا قبل مئات السنين في وضع بعيد جدا عن الاستقلال.. ولكنكم جئتم واعطيتمونا وعودا بالاستقلال في وقت لم نطلبه نحن منكم....والآن كلما نطالبكم بالاستقلال تسجنونا..

وعندما اوشك الاجتماع على الانتهاء حدث حادث يلفت النظر.. وهو ان الكابتن مد رجليه امام الحاضرين فزجره السيد علوان قائلا (تأدب واعرف من هم الجالسين أمامك)

فسارع الكابتن مان وضم رجليه ولم ينبس بكلمة..

 

اقتباس ثان

كتبت جريدة الاستقلال الصادرة في عام 1920 مقالا جاء فيه.. (إن المآتم الحسينية اشترك فيها هذا العام جميع المسلمين.. فكنت تشاهد فوجا من السنة ومعه فوجا من الشيعة. يحملون المشاعل ويرددون اقوال الشعراء التي تقال بمثل هكذا مناسبات)..

 

اقتباس ثالث

(قرر السيد علوان الياسري والشيخ عبد الواحد الحاج سكر عقد اجتماع عام يحضره رؤوساء الفرات الاوسط للمداولة في الامر. ووقع اختيارهم على مضيف السيد محسن ابو طبيخ ليكون محل الاجتماع.. كان ذلك في 28 حزيران اي قبل انطلاق الثورة بيومين.. لكن الاجتماع انتقل الى مضيف الشيخ عبد الكاظم الحاج سكر (من شيوخ آل فتلة) في المشخاب..

وحضره من الرؤساء سيد علوان الياسري وعبد الواحد الحاج سكر ومحسن ابو طبيخ وهادي المقوطر ووداي العطية.. ومجبل الفرعون.. وغيرهم كثيرون..

 

اقتباس رابع

ومن مذكرات المؤرخ فريق مزهر الفرعون نتعرف على هذه الحادثة الدالة والتي اهملتها احتفاءات الانظمة الشمولية..

حاول الميجر الانكليزي نوربري إغراء مجبل ال فرعون فانفرد به وراح يكلمه قائلا له ان الحكومة البريطانية قوية جدا وتريد توطين الامن اكثر. وانها لا تريد سوى تدريب الشعب العراقي على اصول الحكم وانها ستخرج حال انتهاء التدريب!! ثم قال له..

يا شيخ مجبل اني اتيتك بأمر من الحاكم العام لتعاهدنا بأن تكون معنا فتنال بذلك (الجاه العظيم !) وتكون اول صديق لبريطانيا العظمى..

فاجاب الشيخ مجبل..

ان تاريخ آل فتلة ابيض ناصع ليس فيه خيانة واني لا استطيع ان اخون بلادي واخواني وديني.

وحين فشل الميجر في اغراء الشيخ مجبل رجع الى بقية الزعماء وتكلم معهم بمثل ما تكلم مع الشيخ مزهر فرد عليه الشيخ عبد الواحد الحاج سكر ..و كان قد انتدب لكي يكون ناطقا بلسان الرؤساء جميعهم

إن لنا غاية واحدة نسعى اليها وهي الاستقلال التام..

 

اقتباس خامس

تقول المس بيل (ان شعلان ابو الجون ابدى الكثير من الشراسة وهو يخاطب هيات بحيث اضطر هيات الى حبسه.)

ويقول فريق ال فرعون (ان شعلان ابو الجون خاطب هيات الانكليزي قائلا (ان هذه السياسة التي تسير عليها انت وحكومتك ستجر الدولة البريطانية الى عواقب سيئة فاعلم انك في العراق لا في هندستان!!).. في اشارة الى خضوع الهند لبريطانيا في ذلك الزمن..

 

اقتباس اخير..

كان الناس قد اطلقوا على الشاعر العراقي (محمد مهدي البصير) وكان خطيبا مفوها .. لقب (ميرابو الثورة) في مقاربة لطيفة مع خطيب الثورة الفرنسية ميرابو صاحب القول الشهير الذي وجهه لمبعوث ملك فرنسا (اذهب وقل لسيدك ..)

تحية لكل رجالات ثورة العشرين.. في ذكراها العطرة..

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2176 الأثنين 09/ 07 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم