صحيفة المثقف

الحدث السوري في ضوء التجربة العراقية: ضرورة الموقف المُرَكَّب / علاء اللامي

وخصوصا على صعيد رسم واتخاذ المواقف، بأنها قدمت صورة صافية عن سيادة العقلية "المانوية" التي لا تعترف إلا بوجود الأبيض والأسود، والمعبر عنها سياسيا بشعار "معنا أو ضدنا". لقد اعتمد النظام العراقي الشمولي وأنصاره هذه العقلية والشعار في تعاملهم مع الآخر، مثلما اعتمدها المحتلون الأجانب وحلفاؤهم في المعارضة العراقية آنذاك مع الآخر، وكان لبوش الصغير نسخته الخاصة والمحببة من هذا الشعار. لقد ترتب على ذلك عمليا، إلغاء المواقف المركبة والعميقة أيا كانت مكوناتها واتجاهات حركتها. وبالنتيجة، تم إلغاء الحق في التفكير العقلاني لمصلحة تسييد المنطق الشكلاني "الخيطي"، والذي يستسهل إطلاق الأحكام والمواقف الاستئصالية محاولا استغفال وخداع الجمهور العام وتضليله، ممارساً ضده نوعاً من القمع الناعم والمبرمج. لقد شكلت هذه العقلية الشمولية على الدوام المصدر الأصلي والتربة الخصبة للظاهرة الفاشية في العصر الحديث، ولا فرق هنا بين فاشية تقود الحكم وأخرى تصارعها عليه بأدواتها ذاتها: السلاح والمال والخداع الشمولي المانوي.

كانت المعادلة التي حكمت المشهد العراقي آنذاك كالآتي: إما أنْ تكون مع النظام الشمولي أو مع الاحتلال الأميركي، فإما صدام أو بوش ولا ثالث لهما! تفرعت هذه المعادلة، في ما بعد، إلى تعبيرات وتجليات نظرية وعملية أخرى: فأنت إما أنْ تكون مع خيار تغيير النظام بواسطة الحرب والاحتلال فتعتبر، بالتالي، مع الوطن والشعب ..الخ. أو أنْ ترفض الحرب والاحتلال فتكون بالتالي مع نظام صدام، وبالتالي فأنت ضد الشعب والوطن ..الخ. أما أنْ تكون ضد نظام صدام وضد حرب الاحتلال في الوقت نفسه فهذا ما يعتبر تناقضاً عصياً لا سبيل إلى فهمه من قبل العقلية الشمولية المانوية.

يمكن هنا، تسجيل الحفظ الذي كرره البعض من زملائنا في الساحة السورية، ومفاده أنَّ من غير الممكن المشابهة أو المطابقة بين المعارضة العراقية التي حملها الاحتلال الأجنبي إلى الحكم، وبين قوى الانتفاضة الشعبية السورية التي تقارع النظام وتريد الإطاحة به. ولا يمكننا في الواقع، رفض هذا التحفظ ومضمونه تماما، ولكنه لن يستقيم مع واقع الصراع السوري الحالي، و يكون ذا قيمة وفائدة، إلا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أمرين: الأول، هو أن عويل بعض أطراف معارضة السورية،في الخارج خصوصا، ودعواتهم إلى التدخل العسكري الأجنبي، لم يكن أقل صخباً وبؤساً من عويل المعارضة العراقية في الخارج آنذاك في هذا الاتجاه، إنْ لم يكن قد فاقها ابتذالا. والثاني، هو أننا نتحدث الآن، و قبل وقوع كارثة التدخل العسكري الأجنبي في سوريا، وليس بعده كما هي الحال في العراق، ولو كنا نحدث في ظرف مختلف "معاكس"، لما بقي لهذا التحفظ أية قيمة.

لقد حاولت أطراف عراقية معارضة للحرب وللنظام معا آنذاك، مقاومة هذه المعادلة التبسيطية المضادة للعقل، عبر التبشير بموقف "ثالث" مُرَكَّب خلاصته: نرفض النظام الشمولي ونطالب برحيله، ونرفض تغييره بواسطة حرب الاحتلال بل بوسائل أخرى! لم يكن مُقَدَّرا لهذا الموقف أن ينتصر أو يسود في النهاية، خصوصاً وأنه كان مجرد موقف سياسي لقوى صغيرة مشتتة، و عزلاء تماما، لا تتمتع بالوزن السياسي المكافئ للقوى الأخرى "الحربجية"، أي التي أخذت بخيار الحرب، ودخلت في التحالف العسكري الغربي. لقد كانت مساهمة النظام البعثي العراقي، لا تقل سلبية عن مساهمة المحتلين الأجانب وحلفائهم المحليين، في بلوغ ذروة الأزمة وتدمير العراق، حين رفض إمكانية التفكير، مجرد التفكير، ببديل آخر يفكك احتكاره للحكم طوال أربعة عقود، وجشعة الدموي للحفاظ عليه، حتى لو اضطر (لتسليم العراق أرضاً بلا شعب للعدو) حسب العبارة الشهيرة التي نسبت إلى صدام حسين، ولا يبدو أنَّ رفيقه السوري مختلفا عنه هنا كثيرا!

يكاد هذا الدرس، يتكرر اليوم في المشهد السوري وبشكل لا يقل فظاظة، الأمر الذي دفعت وتدفع ثمنه جماهير الحراك الثوري السوري في الداخل، والتي سطَّرت أروع ملاحم الفداء والتضحية من أجل الحرية والكرامة.

هنا،أيضا، يمكن تلخيص الحالة السائدة على صعيد المواقف في المشهد السوري بالتالي: إنْ أنت وقفت مع الانتفاضة الشعبية السورية وطالبت برحيل النظام الشمولي، اعتبرك النظام وأنصاره مؤيدا لحرب التدخل الغربية ضد سوريا و عميلا وامتدادا للغزاة الغربيين. وإنْ أنت رفضت التدخلات الخارجية والارتباط العلني لبعض القوى السورية المعارضة، بدول لا علاقة لها من بعيد أو قريب بالديموقراطية والكرامة الإنسانية، دول قروسطية متخلفة تعتبر الثروات الوطنية مصرف جيب، وملكا شخصيا للحاكم و أفراد عائلته وحاشيته، كالسعودية وقطر، فقد أصبحتَ مدافعا عن النظام في دمشق ومجرد "شبيح" حتى لو كنت تجهل معنى هذه الكلمة.

هناك تجليات فرعية عديدة لهذه الخلاصة، ولكنها لا تخرج عن الخطوط العريضة التي بيناها. ولكنّ الباعث على التفاؤل والأمل، هو أنّ المدافعين عن المواقف المركبة والعميقة، الرافضين لابتزاز المانويين في السلطة والمعارضة السوريتين، أكبر تأثيراً ومساهمةً في الحراك الثوري على الأرض من أطراف أخرى تجاهر بالتدخل العسكري الأجنبي، بل إنهم نجحوا حتى الآن في تحجيم دعاة التدخل العسكري الأجنبي دون أنْ يتخلوا قيد أنملة عن رفضهم للنظام الشمولي ونضالهم السلمي ضده حتى الإطاحة به. هذا ما يمكن تلمسه في مداخلات ومواقف العديد من أقطاب الحراك الثوري، كميشيل كيلو وحسين العودات وعارف دليلة وفايز سارة وهيثم مناع وغيرهم. إنَّ من يتابع تصريحات ومداخلات ميشيل كيلو و زملائه السياسية، يشعر بأنّ الأمور لم تفلت بعد من أيدي قيادات الحراك الثوري، وأنَّ النظام وخصومه من دعاة التدخل العسكري الأجنبي يحسبون لهم حسابهم. ولكنْ، لنكنْ واضحين وصريحين، فحتى هنا، يمكن أنْ نجد بعض تمثلات المواقف المثيرة للجدل. من ذلك مثلا، صمت بعض هؤلاء الأصدقاء عن التجاوزات والتصرفات الطائفية والتكفيرية، مع أنَّ بعضها لا يقل دموية عن تصرفات القوات الحكومية، والتي تقوم بها جماعات مسلحة "معارضة" ناشطة على الأرض، أو اعترافها بهذه التجاوزات مع محاولة التهوين منها والتقليل من شأنها. الأمر نفسه يحدث حين تصدر تصريحات وتصرفات ارتزاقية وتحريضية مضرة وغير مقبولة مِن بعض مَن يوصفون بمعارضة الخارج بعضها بلغ درجة أضرت بالحراك الثوري فعلا وورطت النشطاء السلميين في مغامرات مسلحة معزولة و لا أفق لها أحيانا، وغير مبررة بعامل الدفاع عن النفس بشكل جلي.

على المقلب الآخر، ولكن في اتجاه مغاير شكلا، نجد شيئا شبيها بهذا، فبعض ممن يعلنون رفضهم للدكتاتورية الحاكمة في دمشق كنوع من "تحية الصباح الواجبة"، لا يلبثون أن يصبوا جام غضبهم على المعارضة السورية ككل، وعلى الحراك الشعبي الثوري السوري بكافة تجلياته، مساوين هكذا، بين انتفاضة سلمية ومليونية عظيمة، وبين جماعات مسلحة بدأت معزولة وحولها قمع النظام الدموي إلى كيانات مسلحة نامية باستمرار وحالات دفاع مشروع ومبرر عن النفس بالسلاح في مواجهة عنف وقسوة القمع الحكومي. هذا البعض، يسكت جزئيا أو تماما عن بشاعة الحل الأمني الذي يطبقه النظام، وعن التجاوزات الدموية التي يرتكبها، ولكنه يشهر عاليا تجاوزات المجموعات السلفية المعزولة. إنّ هؤلاء يحمّلون المعارضة مسؤولية وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه، لأنهم خاضعون للغرب الرافض للحوار السوري الداخلي، وهذا أمر يصح مع بعض الأطراف المعارضة وليس كلها، ولكنْ ماذا بخصوص مسؤولية النظام الشمولي السوري ذاته عن وصول الأزمة إلى ما وصلت إليه، وتعطيله لأية إمكانية للحوار بإجراءاته الانفرادية والاستئصالية؟ ماذا بخصوص تفرده في طرح البرامج والمشاريع والخطط التي يحب أن يسميها "إصلاحية"، ورفضه الاعتراف بالآخر؟ لقد شكَّل النظام لجاناً، وغيَّر دستورا بنفسه، ثم أجرى عليه استفتاء بيروقراطيا بإدارته، ومن ثم أجرى انتخابات تشريعية تحت إشرافه وسيطرته، فيما كانت الدماء تسفك في الشوارع المنتفضة، فهل هذا هو الحوار والمصالحة والإصلاح أم أنه قتل صريح لكل حوار ومصالحة وإصلاح؟ هل كان النظام يريد أن يتحاور ويتصالح مع نفسه وبشروطه، أم مع شعبه الثائر ضده؟

إن مقولة "الغرب يمنع الحوار السوري الداخلي" صحيحة، فالغرب لا مصلحة له في ذلك، بل يريد أنْ يحصل على الجمل السوري بما حمل، ورغم أنف السلطة ومعارضيها السلميين والمسلحين، ولكن هل يفلت نظام الأسد ذاته من تحمّل مسؤولية ما حدث ويحدث؟ هل أبدى هذا النظام أي استعداد للتضحية والتنازل فلمّح، مجرد تلميح إلى انه سيقبل بخيار الشعب المعبر عنه بانتخابات شفافة ومفتوحة ونزيهة وأنه مستعد للانتقال إلى خندق المعارضة إنْ هُزِم انتخابيا؟ هل بادر النظام إلى حلول وتغييرات عميقة في بنية الدولة والمؤسسات تهدئ الشارع وتعطي أملا بإمكانية الحل السلمي المتحضر، باستثناء حذفه للمادة الثامنة من الدستور وهي مادة "ماتت شبعت موتاً" حتى قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية؟ كلا، لقد كان برنامج النظام الفعلي وعلى الأرض، معبرا عنه بتفاصيل الحل الأمني، نموذجا للجشع السياسي والاستئثار بالسلطة وانعدام الشعور بالمسؤولية التاريخية وانعدام الاستعداد للتضحية.

إن دروس التاريخ وتجارب الشعوب الأخرى جديرة بالتذكر والاعتبار في هذا الصدد، فالحاكمون، حين يدخلون في مواجهة كبيرة مع شعوبهم، يتوجب عليهم اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية أحيانا، ينقذون بها تلك الشعوب حتى وإنْ خسروا الحكم. مِن هؤلاء يمكن أنْ نتذكر إريك هونكر رئيس جمهورية ألمانيا الديموقراطية الذي قال بعد سقوط جدار برلين وانهيار النظام الاشتراكي "الشمولي"، الكلمات الجديرة بالاعتبار والتدبر التالية: حين اتسع الحراك الشعبي ضد حكمنا، وفشلت جميع محاولاتنا لاستيعابه واحتوائه، كان أمامنا خياران لا ثالث لهما: فإما أنْ نرتكب حمامَ دمٍ رهيباً في قلب أوروبا لنبقى في الحكم، أو أنْ ننسحب منه بكرامة وانتظام و نخضع لصندوق الانتخابات يحكم بيننا وبين خصومنا في وضع ليس لصالحنا البتة، وقد فضلنا اعتماد الخيار الثاني، فخسرنا الحكم وربحنا أنفسنا والتاريخ.

*كاتب عراقي

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2199 الاثنين 6/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم