صحيفة المثقف

تجريف الثقافة..ومهمة المثقفين الصعبة! / سنان أحمد حقّي

إذ أنني أجعلها مرادفة لكلمة ( Intellectual )وهي كما يعلم المطّلعون تعني أشياء كثيرة متقدّمة وقد حاولت مرّة أن أعرّب تلك الكلمة فوجدت بحس إجتهادي أنها تقابل ( أريب) وليس أديب حيث جرى الخلط بين المثقف والأديب ورآى كثيرون أن مصطلح مثقف يعني بالضرورة أوقريبا منها الأدب أوالشعر وبعض الفنون الأدبية مثل القصّة والرواية فضلا عن عدد من الفنون الجميلة ومهما يكن أعتقد أن المصطلح قد أخذ بالتوسع شيئا فشيئا ليشمل الإعلاميين وعدد من المبدعين والمفكرين وكذلك السياسيين وكثيرا من الخريجين وأقصد بهم خرّيجي الجامعات والدراسات الأكاديميةالعليا ممن هم على جانب واضح من الإهتمام بالشان العام.

ولكننا بالرغم منّا نجد أنفسنا أمام مهمة هي غاية في الصعوبة ، إذ إنحسر عدد قرّاء الكتب والمصادر الجادّة ومن الغريب أننا لا نجد إلاّ القليل ممن يقرأون الروايات العالميّة الكبرى إلاّ نفر قليل من طلبة التخصصات العالية فلم نعد نرى من هومتابع لأسماء شغلت أجيالا وأجيالا وتلقّفت نتاجهم بشغف عندما حصل وتوفّر لها مترجمون أكفاء ، أين مطالعوا أدب شكسبير أودانتي أوسرفانتس أوتولستوي ودستويفسكي أين قرّاء هوغوأين مطالعي أدب شولوخوف وأين من يقرأ الشعر الفرنسي ويتابع ما كتب أراغون أوإيلوار وسان جون بيرس؟ ثم أين من يبحث عن تراث عمالقتنا الكبار من أمثال البحتري والمتنبي وأبي تمام بل حتّى إرث من رحلوا قريبا من أمثال شوقي والزهاوي والرصافي والحبوبي ؟

شئٌ مؤسف ولكن الأمر لم يقتصر على هذا فحسب بل أننا نلاحظ شبابا قد شبّ على إهمال بل إحتقار القديم على أنه بالي ولا يميّز بينه وبين الكنوز القديمة لأرث أمّة طويل يُشكّل ما تركت من ثروة وتاريخ مزدحم بالمنجزات.

كيف ؟ ومن يُعيد لهذا الشعب وهؤلاء الشبان إهتمامهم واحترامهم لجهود آباءهم وأجدادهم الذين ملأ كثيرٌ منهم الدنيا بالأعمال الخالدة والنفيسة ؟

يُسجّل الواقع اليوم وجود كثير من الناس لم يتعرّفوا على ذلك الإرث العظيم ولا على أي إرث آخر من التراث العالمي حيث تشيع عبارة إبتكرها الأخوان المصريون للسينما وهي: ( هات من الآخر) ومغزاها أنه لا يُريد أن يتعرّف على كيفيّة التوصل إلى أيّة قناعة ويستبدلها بخلاصة ما تقول بإيجاز مفرط ولا يكترث بالحوار أي حوار إنساني راقي يطّلع فيه المحاور على مفردات قناعة محاوره وهذا يسدّ أبواب الحوار وترسيخ القناعات المشتركة والمتفاعلة كنّا نعرف أن بعض البسطاء من الناس لا يكترثون بالعلم والثقافة ويعتبرونها مضيعة للوقت ولكن اليوم تشيع بين أوساط وأفراد متعددة تُعتبر جزءا من وسط المتعلمين والمثقفين أمثالٌ وحكم تافهة من مثل ( المدارس ما توكّل خبز) و( اللي ما عنده فلس ما يسوى فلس) ويتم تشويه معاني كثير من المصطلحات والعبارات.

إن الأجيال السابقة تتذكّر كيف كان الوضع الثقافي في الخمسينيات من القرن الماضي وكيف كان معظم شباب الجيل متعطّشا للقراءة والمطالعة ومن كل الإختصاصات العلميّة والأدبيّة والفنيّة وكيف كان كثير من الموظفين يفردون قسطا من رواتبهم كميزانيّة ثابتة لغرض إقتناء الكتب والمنشورات والمطبوعات المختلفة ويحرصون على توسيع وتكريس مفهوم الثقافة بكل الإختصاصات والأشكال.

لا أريد أن أصف هموم الجيل الجديد وما فعلته مختلف التوجهات السياسيّة والتيارات الأجنبيّة في تشويه وتجريف البناء الثقافي والحضاري ولا نجني على كثير من التوجهات عندما نقول أنها مشاريع أنجزت كثيرا من هذا التجريف المستمرّ والذي بدأ لا أدري منذ متى ومازال قائما لقد كان لدينا رجال أمكن أن يُصبحوا قدوة ومثالا لمن يأتي بعدهم وفي مختلف المجالات فنحن لن ننسى في الأدب والنقد الأستاذ الطاهر ولا في النحوالأستاذ المخزومي ولن ننسى العلامة مصطفى جواد في تاريخ الأدب ولا الأستاذ جعفر الخياط في التاريخ ولا خصباك في الجغرافية ولا العلاّمة أحمد سوسة في كل من الهندسة والتاريخ ولا بهجت الأثري ولا الأستاذ طه باقر ولا جميع ذلك الطابور الطويل من الرواد المرموقين سواء في ميادين الأدب أوالإنسانيات أوالعلوم أمثال الدكتور عبد الجبار عبد الله ومحمد واصل الظاهر وعباس طه النجم أوالخضيري في الزراعة وكلّهم لهم فضل لا يُقدّر بثمن على البلاد ليس بمقدار ما أنجزوه علميا فقط بل بما أشاعوه من مشروع نهضة علميّة وتقنيّة وثقافيّة رائدة كان من شأنها أن تضع البلاد على أعتاب نهضة تستطيع فيما بعد أن تلحق بواسطتها بأمم العالم.

وبدلا عن العناية بهم وبإرثهم كما فعلت مختلف أمم الأرض فإن إهمالهم والتعتيم على جهودهم وجهود طلبتهم النجباء هوالذي اصبح حاصلا كما أن أوساطا من الجهلة ما فتئت تهزأ بكل أشكال العمل الثقافي والعلمي ولا تقيم إعتبارا إلاّ لكسب المال ولا يهم إن كان عن أي طريق يأتي ، ولم يعد يهتم بالعلم والمعرفة والثقافة إلاّ نفر قليل غالبيتهم من الرعيل الأول فقط أومما تبقّى منهم وهذه نتيجة مخيفة ، إن التجريف الذي حصل للواقع المادّي للبلاد ولبنيته التحتيّة كما يبدولم يكن كافيا بل أن الهدف هوتجريف الثقافة وإعادة أبناء البلاد ولا سيما شبابها إلى الجهل أوالمعرفة المشوّهة والثقافة المسخ التي لم تعد تمجّد إلاّ التراجع والنظر إلى الخلف والتخلّي عن الإرث الجبّار والحقيقي لهذا الشعب.

وبقدر ما تضيع علينا ثروات كثيرة بشكل مستمر فإن أحدا لا يبدوأنه يرى أن هذا يكفي بل يُريد أن يطمئن أن فردا إضافيا لن يخرج ليفكّر بإصلاح الأوضاع أوإعمار ما تهدّم على مدى عشرات السنين والتي كان من الممكن أن تكون قاعدة مناسبة لتنمية حقيقيّة.

إن الثقافة هي التي تقوم على توفير القاعدة الأساسيّة للنهضة والتنمية والتقدّم وهي أثمن من النفط والثروات كما أننا بحاجة ماسّة بعد التخريب المتنوّع؛بحاجة للإستثمار في الإنسان ولا سيما المثقف الذي أراه شعلة أومنارة بين الناس يهديهم إلى منهج الصواب والعلم ويجدر بنا أن نوليها الصدارة في أهدافنا الوطنيّة فلن تحصل تنمية إلاّ بعد تنمية الثقافة والمثقفين وتوفير أسباب الوعي الحيّ فهم أدواته والعمل على تجريفهم وتجريف الثقافة سوف يجعل مصير الشعب على كف عفريت كما أنهم أدوات التغيير والتطوّر فهل يُفلح الفلاح بلا اداة العزق والحراثة ؟ إنهم أداة التغيير الحقيقي وضمانته.

ولن يظهر فينا أطباء نطّاسون إلاّ بهم ولا مهندسون بارعون مبتكرون إلاّ بهم ولا سياسيون محنّكون إلاّ بالعناية بالوضع الثقافي ولا قادة عظماء إلاّ بفيض جهادهم الفكري ولا يجرمنّكم أن تبرّوهم فبهم يتذكّركم من يأتي من الأجيال القادمة

وأجد أن جميع المكونات السياسيّة الحاليّة عليها مهمّة فائقة الأهميّة وتتمثّل أولا بوقف تجريف الواقع الثقافي ثم وضع مناهج ثقافيّة تعمل على تثقيف كوادرها باستمرار فلا أرى اليوم إلاّ قليلا من المكونات من يُعنى بالتثقيف والثقافة فكيف يُنشد التقدّم والإعمار بدون الوعي به وبأهميّته.

لقد بلغني أن الإمام علي بن أبي طالب ( ع) قال: كل شئ إذا زاد رخص إلاّ العلم فإنه إذا زاد غلا.

والثقافة وجه من أوجه العلم واسع الضفاف.

تلك هي اليوم مهمة المثقفين والثقافة في إشاعة روح البناء والتقدّم والإنفتاح على منجزات العالم المختلفة والتفاعل معها ومحاولة المشاركة مع باقي أمم الأرض في صنع الحضارة الحديثة فبهذا نضمن ثروة لا تنضب أمّا إن مضينا فيما نحن فيه من إستهجان العلم والمعرفة وحبّ كسب المال دون أن ننظر في شرعيّته ومصدره فإن كل شئ سينضب لا محالة ولكن شعبا واعيا ومثقفا هوالضمانة بأن نظل مسنّدين إلى مساند رصينة لا سبيل إلى تداعيها مهما عدت العوادي.

مقالي هذا قد يبدومقالا تقليديا ولكنّه ليس كذلك لأن ظاهرة تجريف الثقافة ظاهرة بادية للعيان ولا مراء فيها ونحن ننذر من بيده الأمر وكذلك عموم الشعب أن هذه الظاهرة الخطيرة إن لم نوقفها ونتصدّى لها ببرامج مخلصة وفاعلة فإن أصحابها لن يتوقّفوا عند أي حدود ولن يقنعوا إلاّ بتجويع وإذلال وتمزيق هذا الشعب الأصيل الذي يتكون غالبا من أحفاد الأنبياء والرسل والأئمة والصالحين ولن يُجدي البكاء والنحيب بعد أن نرى ركام جهود كثير من العباقرة يغمر الأرض سدى.

اوجّه ندائي هذا إلى المسؤولين أولا وإلى المكونات والأحزاب السياسيّة وإلى منظمات المجتمع المدني ثانيا وإلى المثقفين والعلماء والأدباء والفنانين ليضعوا الأمر أمام أعينهم ويقوموا بمهامهم التي خُلقوا لها عبر ما يملكون من مواهب وقابليات ومع أنها مهمة صعبة وعسيرة وسط مجتمع أصبح منصرفا عن المعرفة والثقافة بشكل واسع النطاق ولكن على جميع المثقفين أن يعلموا أنه لا يوجد من يقوم بهذه المهمة سواهم ، فليُشمّروا عن أقلامهم وأدواتهم كلا حسب مواهبه ليتصدّوا لظاهرة تجريف الثقافة ولتكن البداية هي التعرّض لأي مفهوم خاطئ.

كما أغتنم هذه الفرصة لأرجوهم إيلاء الفكر الفلسفي كثيرا من العناية باعتباره منهجا للتعرّف على حُسن التفكير وسلامته وأن يُشيع مفكرونا الأسس اللازمة التي من شأنها أن تساعد على إتباع التفكير السليم لأنها اهم بداية ولها الأولويّة في تقويم الفكر.

ولا ننسى ما تستطيع أن توفّره شبكة التواصل الإجتماعي ( الفيسبوك أوسواها) في سبيل إشاعة ونشر مفاهيم وقف التجريف الثقافي المستمرّة وفي التعبئة لذلك على مختلف المستويات.

ولا يفوتني ان أشدّد على تجنّب الخوض الخاطف في تعريف المواطن على مختلف الظواهر وكذلك تجنّب ( دِمشّي ودِعبّر ، ويامعوّد..ألخ) كما يجدر بي أن أوصي بالدقّة في كل شئ.

وللحديث صلة والسلام عليكم.

   تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2200 الاربعاء 8/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم