صحيفة المثقف

إمبراطوريات الغزاة وإمبراطوريات الحضارات .. عن مجتمع الطوطم والقانون والقوّة والتملك (1-3) / علي السعدي

" يبحث العراقيون عن الإختلاف، وأرضهم عن الوحدة " من خلاصات الموضوع.

 

القوّة،تلك الكلمة  السحرية الكفيلة ببعث النشوة في النفوس والرعشة في الأجساد،فهي محرّك الحياة وضامنة استمرارها في عموم الكائنات الحيّة، لكنها في عالم بقية  المخلوقات تسير على وتيرة واحدة وبنظام أزلي لم يشهد اختلالاً جوهرياً ولا فقداناً للتوازن إلا بعد تدخل الكائن البشري .

لقد رسمت الحياة لوحة مكتملة ومترابطة في حلقات ضبطت بموجبها مستويات القوّة ووسائل استخدامها، فابتلعت الأسماك الكبيرة  الأسماك الأصغر منها، فيما طاردت الحيوانات المفترسة، الغزلان والبقر الوحشي وماشبهها لتفترس الضعيف منها، لكن الجري الذي يمارسه كلّ من قطيع الطرائد والصياد المطارِد، أسهم في تحسين النوع والحفاظ على حيويته ونشاطه، وهكذا أقامت الحياة ميزانها فلم ينقرض جنس ولم يتكاثر آخر بشكل مفرط ليحتوي كائنات غيره فيضعها تحت سيطرته أو يسلبها حريتها . 

لكن عالم الإنسان رسم الطبيعة حسب منطقه وفائدته، فجعل من القوّة وحدها، هي الحدّ الفاصل لما يستطيع – فرداً أو مجتمعاً -  الحصول عليه، وفيها ومن خلالها يتحدد الحقّ في السيطرة والتملّك، والقوّة وإن تعددت مصادرها وطرائق التعبير عن وجودها وأشكال ظهورها،إلا أنها بقيت واحدة في الجوهر: قهر إرادة الآخر وسلبه حرية قراره ، ذلك ماتخبر عنه السيرورة البشرية، ليس في منظور الحياة الإجتماعية ومارتبته من ممارسات وأدوات فحسب، بل على صعيد المعتقدات والديانات والإيمانيات بمطلقاتها ومقدساتها وأساطيرها ويقينياتها .

علاقة الإنسان بالحياة تمتاز بتشابكها وتعدد مستوياتها، ففيها الجانب الغرائزي  المتعلق بالجسد وإشباع حاجاته ورغباته، والنفسي الروحي كالحب والكره والخوف، والمخيال الأسطوري وما ينتجه من رموز وإيحاءات، واللغة بمنطوقها وألفاظها كوسيلة للتواصل، والمعتقدات الإيمانية، والسلوكيات الإجتماعية، والمنتوج الثقافي والفني، والإحساس بالجمال، إضافة إلى ممارسة السياسة، وفيها برزت معامل القوة بأكثر تجلياتها  حقيقة .

 ولما كانت الحقيقة هي(علاقة مركّبة تتصل بالرغبة وتفتتحها اللغة وتتحقق بالمعرفة وتتشرعن (تصبح شرعية) بالقوة وتتغذى من العلم والعمل والأسطورة  -1) لذا كانت القوة هي العامل الحاسم لإكتساب الواقع شرعيته كي يصبح من ثم جزءاً من حقيقة الحياة البشرية .

لكن واحدة من إشكاليات القوة، إن امتلاكها ليس مقتصراً على مجتمع دون غيره، بل  متاحة لجميع المجتمعات كلّ حسب قدراته ومايتوفر له منها، وبالتالي فالقوّة  حالة متبدلة ومتبادلة بين البشر والطبيعة من جهة، وبين البشر أنفسهم من جهة أخرى – تلك الخاصية المتعلقة بعالمهم تحديداً - لذا كان لابد من البحث عن أنجع الوسائل الكفيلة بديمومة القوّة  وتنميتها والحفاظ على مصادرها وتنويعها  .

القوّة البدنية في الكائن الفرد، كانت هي المستتبع الأول الذي مكّنه من إخضاع الآخر أو إزاحته أو الإستيلاء على مالديه من ثروات قد يكون قد استولى عليه من غيره كذلك،وفي هذا الجانب، لايختلف الإنسان الفرد عن غيره من الكائنات إلا في محاولات  الإمتلاك  وسلب الحرية، فيما بقيت القوّة البدنية هي المعتمدة في الكائن الفرد في الإنسان كما في غيره، لكن أشكال القوّة  لم تتبلور ومن ثم تتحول من بدائية دفاعية، إلى إستيلائية قهرية، إلابعد ظهور ال (أنا) مقابل ال (أنت)  وال (نحن) مقابل ال (هم)، ذلك لأن المجتمعات البشرية بعد اجتماعها في أماكن صالحة للعيش، بدأت تفترق في طرائق حياتها عن سائر المخلوقات ومن ثم برزت الحاجة  إلى إيجاد مصادر أخرى للقوّة عدا ماتوفره لنفسها من سواعد رجالها وما يصنع من أسلحة تزيد من مفاعيل القوّة وتأثيراتها.

لقد بقي الإنسان خاضعاً لقوّة أكبر لم يستطع قهرها أو التغلب عليها (قوّة الطبيعة) وما تعكسه من ظواهر لم يجد لها تفسيراً، فتعامل معها بما يستطيع،كيّف ّبعضها لوسائله الخاصة، وتكيّف مع بعضها الآخرفأوجد ما يقيه غضبها أو تأثيرها – بيوتاً تقيه برداً وحرّاً، ولباساً يستره ويدثّره – لكنه مع كلّ ذلك ظلّ على مايخشاه، فقد غزته الحياة في جسده وهناً ومرضاً وشيخوخة وموتاً من دون أن يقتل بيد عدو، كان العدو يتربص بداخله لايستطيع ردّه ولا يمكنه تجنبه أو قهره ، فيسلبه القوّة والإرادة والحياة على السواء .

حاجة الفرد إلى قوّة متعالية خارج المتناول أو المتداول أو المرئي، وحاجة الجماعة إلى تلك القوّة كذلك،لتمتين أواصر العلاقة بين أفرادها وتحسين سلوكياتهم تجاه بعضهم البعض من جهة، وشحنهم بطاقة نفسية تجعلهم على أستعداد للقتال في سبيل الجماعة بطريقة أكثر فاعلية،كذلك زيادة المنسوب في الخضوع الطوعي للقوّة المهيمنة (الدولة) من جهة أخرى، قوّة يستطيع الإنسان الفرد أن يلقي على عاتقها مهمة الإجابة على مايواجه من أسئلة  تتعلق بحياته ومصيره،باعتبارها كلّية القدرة والجبروت غير قابلة للتبدل وغير متاحة للتماثل أو الإدراك، فهي مخضعة دوماً وغير خاضعة أبداً، من هنا أنشأ المخيال الجمعي أساطيره الخالدة التي وضعت شكلاً للقوّة الكلّية مع الإستعداد لطاعتها وعبادتها بعد أن  أوكل إليها عوالمه الروحية وكيفية تحديدها على ضوء مايتلقى من تعليمات الآلهة الواصلة إليه على ألسنة الكهنة .

وهكذا اعتمدت مصادر القوّة في تكاملها وتمركزها في الجماعة البشرية ، على مرتكزات ثلاثة:

1: مقدس متعال أطّر بداية في معتقد ات خاصّة لها معابدها وكهنتها .

2:  طوطم مبجل يمثل جذراً عرقياً أو مكانياً أو رمزاً تلئتم فيه الجماعة وتُعرف من خلاله .

3: سلطة تحافظ على النظام العام في الجماعة وتسهر على تنمية القوّة وحُسن استخدامها،سواء ضد المخالف من الجماعة ذاتها، أو دفاعاً عنها أو إستيلاء على أراض وثروات تساهم بدورها في استيعاب التكاثر في الجماعة من جانب، وزيادة قوتها من جانب آخر .

إن الجماعات التي امتلكت العوامل الثلاثة المذكورة آنفاً،سرعان ما ارتقت إلى مستويات أعلى، من حيث القدرة على الاستقطاب ومن ثم التكاثر المنظم والحياة المستقرة المحروسة بقوانين تحدد دور الأفراد في الجماعة، ومهمة الجماعة تجاه الأفراد، وهكذا شيدت المدن التي تعقّدت وتشابكت وسائل العيش فيها ومن خلالها .

في كلّ ذلك، لعبت الجغرافيا الدور الأبرز والأكثر فاعلية في اختيارات الإجتماع البشري، فقد كانت المنشأ الأول والأساس، لمعتقداته وطوطمه وتكوين سلطته، بل وتحديد سلوكياته وطرائق عيشه وماوضعه من تشريعات وقوانين .

كانت الجغرافيا هي المصدر الأول للقوّة وعلى مقدار عطائها أو تقلباتها، فقد تحددت علاقة الآلهة بالبشر على أطوار، فهي غاضبة ناقمة تسكن بعيداً في أعالي السماء عند شعوب السهول أو الصحاري، وهي أقل حدّة وأكثر قرباً عند إنسان الجبال والسواحل حيث أسكنوها ذرى الجبال أو أعماق البحار، لكن التصورات عن الآلهة بقيت متقبلّة، فالكون أكبر من أن يستقرّعلى وتيرة واحدة، وكذلك الآلهة الموكلة به ومالكته في الوقت عينه .

إن الآلهة التي تملك كل شيء وترى كل شيء، قادرة على إنزال العقاب بمن يخالفها ومنح الثواب لمن يعمل بطاعتها، لكن تطور المعتقدات ارتبط كذلك بتطور الجماعات وانتقالها من البدائية إلى المدنية،فالجماعات التي تنتمي إلى طوطم واحد، كان كلّ من أفرادها  يتمتع  بالحقوق ذاتها التي للآخرين  وبالتالي فهم متساوون متناظرون بشكل عام، لكن ذلك لم يكن يغني عن اختيار أو القبول ب(رأس) من أفرادها يتمتع بالقوّة والحكمة والشجاعة كي يدير شؤونها ويشرف على إعدادها وفضّ منازعاتها، وكانت تلك أولى المعالم لما سيعرف بالرئاسة لاحقاً، وأولى بذور " الديمقراطية " كذلك .

ولما كانت الأرض هي " الرأسمال الأكبر " – خاصة بعد اكتشاف الزراعة، لذا برزت الحاجة إلى امتلاك أكثر المساحات خصباً وأكثرها قدرة  على العطاء ومن ثم " استعمارها" أي القيام بعملتي الإستثمار لها والإعمارفيها، وربما اشتقاقاً من ذلك أطلق على تجمعات النمل والنحل مثلاً، لفظ " المستعمرات " لما في الأماكن التي تقطنها تلك الحشرات من تنظيم وما في حياتها من تعاون،لكن عالم البشر، حول " الإستعمار " الى مفردة تعني الإحتلال وما يتبعه من قهر للإرادة ونهب للخيرات . 

كانت الأرض الممتدة بين نهري دجلة والفرات التي أطلق عليها " وادي الرافدين " ووصفتْ بالمضيئة " أوروك"، هي الموطن الأول لما سينشأ من تطور للإنسان في علاقته بالجغرافيا، فبمقدار ماحملت تلك الأرض من إشكالات، وفّرت كذلك من إمكانات،لقد مثلّت الحدّ الفاصل بين قسوة الصحراء وقحطها، وبين خصب السهول واخضرارها، ماجعلها مقصداً ومنطلقاً في الوقت ذاته، تستقبل غزواً وتطلق آخر، تُبنى عليها مدن  وتُدمّر أخرى، تُسنّ فيها قوانين وتتسبب بانتهاك قوانين -- وهكذا ولد من رحمها كل  ما سوف يوسم الحياة البشرية بميسه ويحدد أطرها وهويتها الروحية والجمالية والحضارية والحربية، لقد رسمت تلك الأرض بمقدار ما فتكت، وبنت بمقدار ماهدمت ووهبت بمقدار مانهبت .

جغرافيا بهذه الخصائص، لابد لها من حماية ترد عنها غزوات الطامعين، لكنها تفتقد الموانع الطبيعية التي يمكنها من عرقلة إندفاع الغزاة نحوها وهي المفتوحة من جهاتها الأربع، لذا مادامت الطبيعة قد بخلت بالحماية وأجزلت بالعطاء،سعى الرافدينيون إلى إنشاء الجيوش القويّة والبحث عن تزويدها بالأسلحة التي تضمن لها التفوق والغلبة،وقد تيسر لهم ذلك بعد إكتشافاتهم المذهلة التي غيرت مجرى الحياة فأدخلتها طور الحضارة .

.........

  1. (1)علي حرب – نقد النصّ – ص 144- منشورات المركز الثقافي العربي

 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2217 السبت 01/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم