صحيفة المثقف

زيارة لمدينة الناصرية .. قراءة في ثقافة العشيرة

 "أشم ريحة هلي" فقد توجهت برّا من أربيل قاطعا مسافة 730كم.

تجولت بشوارعها وتحدثت مع ناسها، وارتحت لأمرين: تآلف أهلها الذين لم يحصل بينهم اعتداء او تهجير طائفي، وكثرة أطبائها الذين لم يغادروها . وبرغم أن الاعمار بدأ فيها الا أن شوارعها مهملة . ولما استفسرت عن سوء الخدمات فيها أجابوني أن الذين تولوا أمرها أبناء عشائر يفتقرون للخبرة والكفاءة . ووجدت أن (ثقافة العشيرة) هي السائدة على الصعيدين الحكومي والشعبي، فأنت ما أن تتحدث مع أحدهم حتى يبادرك بالسؤال : " من ياعمام جنابك؟..يقصد العشيرة ".. ولهذا تاريخ وسيكولوجيا، فعشائر الناصرية أشجع من حارب الأنجليز حين دخلوا العراق محتلين . فواقعة عشائر آل ازيرج معروفة . ويوم أرادوا المرور بمحاذاة " باهيزه" أرسلوا من يفاوض شيوخ عشائرها للسماح بمرور زوارقهم نحو بغداد، فردّوا عليهم باهزوجتهم المشهورة " شرناها وعيت باهيزه " أي استشرنا أهل باهيزه فرفضوا بالمطلق!. وقبلها كان النشامى تسلقوا ليلا شجرة صفصاف كبيرة وأمطروا الجنود الأنجليز بالرصاص، ولما رأى الضابط في الصباح تلك الشجرة قال : " اقلعوا هذه الشجرة الخبيثة فهي السبب في قتل جنودنا " ..وأشاعها النظام السابق  ليصف أهل الناصرية بالخباثة!.

 وعشائر الناصرية تحكمت بها (سيكولجيا التمرّد) على السلطة من مئات السنين. ففي العهد العثماني "1534-1914"  امتنعوا عن دفع الضرائب للأتراك. وهم الذين هجموا في آب 1920 على سراي الحكومة وأنزلوا العلم البريطاني وأحرقوه . ولهم الدور الأكبر في ملحمة الشعيبة التي قاد فيها الشاعر والعالم (الحبوبي) رتلا فأكرمه أهلها باطلاق أسمه على أهم شارع فيها .

 ومن حق عشائر الناصرية التباهي بتاريخها المشرق في محاربة المحتلين والتمرد على السلطات الظالمة ..وبكرمهم ومنهم " بدر الرميض " المشهور بكرمه الخرافي، الذي ودعته عشائر الناصرية يوم تشييعه باهزوجة " الجود مغرّب الله وياه " .

  لكن لثقافة العشيرة مساؤها، وأخطرها ..أن الديمقراطية جاءت بأبناء عشائر فيما المحافظة تحتاج الى حكومة محلية من تكنوقراط وكفاءات تخصصية، وأحلّت الولاء للعشيرة محل الولاء للوطن، وصارت الأحزاب  تسعى لكسب ودّ شيخ العشيرة دعما لها في الانتخابات . فمن المفارقات  أن أحد الشيوخ زاره موفدان  من حزبين دينيين، ولكي " لا يكسر بخاطر أحدهما " قال لهما :" عندي مية فلاّح راح أقسمهم لكل واحد خمسين صوت !". ووصلت ثقافة العشيرة للجامعة، فأحد الأساتذة هدد مسؤولا بها ..أن وراءه عشيره! . وصار صوت الناخب يشترى ببطانية أو كارت أو جهاز موبايل، واحيانا بالدولار ..فيقبض الناخب من هذا وذاك، والضمانة هي " أن يحلف بالعباس "..ويفي الناخب بيمينه فينتخب كل من أعطاه !.

 والعشيرة تتحكم فيها عصبيات : الولاء لها، والتحالف العشائري، والتقاليد . .وتلك كانت أسبابا في نشوب معارك دامية بين العشائر، ولا ضمانة من نشوبها الآن ما دامت المصالح  تتحكم بالانتخابات.

 ومع أن الناصرية هي المدينة التي تأسست  ونشطت فيها أهم الأحزاب في العراق : الأمة ، الشيوعي، البعث، الدعوة، القوميون العرب، وشخصيات تعرفونها ..ومنها أول ثلاثة مطربين  غنوا في الاذاعة : حضيري ابو عزيز وناصر حكيم وداخل حسن، فان المدينة تراجعت فيها الثقافة التقدمية، وافتقد كورنيشها مجالس الطرب ..غير أن فيها شبابا واعدون ناشطون بالصحافة والمسرح ..وليتها تستعيد طربها، فحتى مؤسسها " ناصر الأشقر " كان عاشقا وشاعرا ومحبا للطرب، فهو القائل :" لو تون لو ترتاح لو تلزم الباب!".

                                         تحياتي لأهل الناصرية .

 

 ملحوظة: شيء جميل أن يزرع وسط الطريق بالنخيل، لكن هنالك أكثر من ألف نخلة يابسة بين سيطرة بغداد الى نهاية المدائن ..فهل هو اهمال أم لعبة فساد ؟!.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1207 السبت 24/10/2009)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم