صحيفة المثقف

فســــــــــــــــادٌ / عبد الفتاح المطلبي

نَجمَ قليلٌ من ذلكَ السائلِ الأسود، ظنَّ الناسُ ومنهم عمالُ التنظيف الكسالى الذين يعتقدون أنهم يستحقون مواقعًا أكثرَ شرفاً مما هم فيهِ ظنوا جميعا أنّ ذلك لا يعدو نضحاً من أنابيبِ الصرف، كانت تميزُ ذلك النضحِ تلك العفونة التي عرفها الجميع دائما في مخازن مخلفاتهم السائلة والمائعة القذرة في البيوت،العفونة والرائحة والنضح الأسود قد بدأت تنزّ نزيزاً متسارعاً من تحت قاعدة تمثال تجاوزه الزمن فتآكلت قاعدته وملأ ذرقُ الطيور قمةََ رأسهِ وأهْمِلَتِ الساحة ُالتي ينتصب في وسطها مائلاً قليلاً من فعل الزمنِ لأن ساحةً أخرى قد ظهرَ مجدُها لاحقاً، كان التمثالُ قد أقيم في تلك الأيام الذهبية للحاكم قبل أن يهرم و يشيخ وتفاقم ذلك الظن في رؤوس رجال البلدية الذي مفاده أن مجاري تصريف النتانة قد تآكلت، وعندما سُؤلَ الرجلُ الكبير في البلدية عن ذلك، أحضر خرائطه ومسوحاته التحتية كجزء من واجباته الرسمية وقال واثقا ً أنْ لا خطوطَ لمجاري مياةٍ عفنة تمر تحت هذه الساحة التي تتوسط المدينة والتي يتوسطها تمثال الحاكم والدُ الحاكم الشاب الحالي وفكر أنه لايوجد من يجرؤ على التصريح علنا بوجود المجاري تحت قدمي تمثال الحاكم الوالد فقال أمام الجميع إنه لا يعلم سبب تلك العفونة ولكي يخرجَ بنتيجةٍ مقنعةٍ أزاء حقيقة وجود مثل هذه السوائل القذرة نوّهَ باحتمال أن الجرذان المختفية في مجاري الصرف المجاورة للساحة هي السبب وراء هذا النتن وأنحى باللائمة عليها إلا أنه أصرّ على براءة مجاري المياه القذرة من وجودها تحت قاعدة تمثال فخامته ومن هذا النضح ولفّ لفافات الورق ثم رحلَ هو ومن معه وبذلك أغلقت هذه القضية بالنسبة لدائرة البلدية وكان على المواطنين أن يقنعوا بهذا الإجراء والإتجاه لتصريف أمورهم كل على قدر تأثره بهذه النتانة، وفي غضون أيام قلائل لاحظ المارةُ أن أرضَ الساحةِ بدأتْ تنخفضُ رويداً رويداً وتمتلئ بالسائلِ الأسود ِالعفنِ الذي صار يتسربُ علناً من تحتِ ذلك التمثال العتيق الذي فقد بريقـَه منذ زمن بعيدٍ، و من المعلوم أن الإنسانَ يكون حذراً دائما ً من أي سائلٍ أسود ولوكان ذا قيمةٍ عالمية مثل سائلِ البترول الأسود أو ذلك السائل الأسود في محابر المثقفين، راح الناسُ يتجنبون الساحةَ ويضعون بعض الصخور ومخلفات البناء والجرائد غير المقروءة وآلاف ٌ من دواوين الشعراء التي كسدت في المكتبات ومتاجر الكتب ولم تُغطِّ جزءا ولو ضئيلاً من تكاليف طباعتها ومع ذلك يتأبطها مؤلفوها بفرح وهم يهمسون لأصدقائهم ويشيرون إليها وهي تختلط بالسائل الأسود النتن أثناء العبور عليها إلى مقاصدهم ولما اتسعت رقعة ذلك السائل النتن وصار لزاما على الناس العبور إلى حيث يرغبون ظهر من كان لديه استعداداً للخوضِ في النتانةِ وحملِ الراغبين على كتفيهِ لقاء أجرٍ معلوم وكانت كل تلك الجرائد والكتب التي وُضعت للعبور عليها قد غطست في النتانة تحت ثقل أقدام الشيالين حتى اختفت تماماً ولما ضجّ الساكنون حول الساحة في العمارات التي كانت يوما ما فنادقَ من الدرجة الأولى والثانية والثالثة تدخل أمين البلدة وأشرفَ بنفسه على الأمرمقترحاً إزالةَ التمثال من أساسه وطمر مكانه وهذه سابقةٌ لم يجرؤْ على التصريح بها كائنٌ من كان من قبل إذ أن حزبا قويا من أحزاب الحكومة لا زال يحتفظ بولائه للتمثال وصاحبه، ولم تمضِ إلا أيام قلائل حتى مات الأمين متأثرا بإصابة جرثومية غريبة، وعندما شاع الأمر عن إن وباءً قد تفشى من هذا السائل الأسود العفن، هرب الجميع وحتى الذين يسكنون في الأبنية المجاورة لأبنية الساحة وبدا التمثال وكأنه يضحك عليهم هازا كتفيه إلى الأعلى وإلى الأسفل من أثر الضحك، هكذا بدا للهاربين رغم أنهم كانوا يتوقعون موت الجميع إلا الأمين إذ أنه لم يحصل أن يموت أمين عاصمة من قبل جراء جرثومة، لكنهم كانوا يموتون علنا بمراسيم من الحاكم، راح السائل العفن الذي حصّنَ نفسه بجرثومة الموت يزحف رويدا رويدا نحو الشوارع المتفرعة من الساحة بنسب تختلف حسب انحدارات تلك الشوارع، كان جنوب المدينة أكثر مناطقها انخفاضا وكانت تلك الأنحاء أكثر تأثرا بالعفونة وحالما يشم الساكنون العفونة بشكل أكيد ومركز يغادرون على عجل لا يحملون معهم إلا الخفيف الغالي حتى وإن كانوا من سكان الطوابق العليا الذين لم تصل إليهم الرائحة بعد وهكذا بدأ السائل العفن يتقدم في كل الإتجاهات بينما يهرب الناس أمامه كما لو داهمهم غول، فرغت المدينة واستفحل السائل العفن وباع الناس فنادقهم وبناياتهم وبيوتهم وحتى الشوارع لشركة من خارج البلاد أعلنت نيتها البدء باستثمارات كبيرة،وفي يوم كان الناس فيه يتوقعون شيئا ما دهمت بلدوزر عليها علامات تتعلق بالبترول يقودها رجل بملابس تشبه كثيرا ملابس الجيوش المرقطة، دهمت التمثال الذي قيل أن شركة البترول قد أقامته في زمن سابق واستخدمت البلدوزر ذاته في وضعه في مكانه وها هي اليوم قد سحقته وطمرت مكانه، بعد حين جفّ السائل العفن في هذه الساحة وقيل أنه قد خرج من تحت بناية حديثة في بلدة أخرى وإن هناك بلدوزرا عليها علامة البترول ذاتها تحوم حول المكان و لا زال الناس يهربون وقد مات كثير منهم رعبا.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2277   السبت    17/ 11 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم