صحيفة المثقف

"صحراء في الطابق الأخير" بين السرد النمطي والباطني

لأني أؤمن بأن النقد وساطة بين الكاتب والمتلقي العادي. فمن الملحوظ أن بعض الكتابات النقدية مؤخرا قد بدأت تجنح- بشكل واضح- إلى كتابة شبه إبداعية بحيث يعمل البعض على استعراض المهارات اللغوية على حساب تفكيك وتفهيم النص المنقود. وفي النهاية نجد أن هذا (النقد) يشبه عملا إبداعيا لذاك القارئ/الناقد أكثر مما هو سعي منه لتحليل أو تأويل النص.

في هذه القراءة المتواضعة سأحاول تجنب الكلمات المنمقة- من أجل التنميق- لأنزل بتحليل النص إلى الأرض بحيث يصبح في متناول أوسع شريحة من القراء. لا أنكر أن قراءتي تميل أكثر إلى التحليل السيكولوجي، والحق أن الأدب الذي أصبح يحكي نفسه بنفسه، كما هو عليه في هذه القصة، يستدعي بقوة الاعتماد على التحليلات النفسية حتى وإن كان طبعا يستدعي باق المناهج النقدية الأخرى. وعندما أتحدث عن التحليلات النفسية فأنا لا أعني أن صاحب القصة مريض عقليا أو ما شابه كما قد يبدو للبعض ! بل العكس هو الصحيح. فهذا النوع من القصص مفخخ وليس من السهل أن يعطيك شيئا من مخزون المشترك السوسيولوجي ما لم تقده من أنا صاحبه العاجية بالقوة.

هناك قاعدة واضحة في عقيدتي القرائية وهي:

عندما ينزاح العمل الإبداعي عن المشترك السوسيولوجي، فمن الأفضل الاعتماد- في تحليله- على المشترك السيكولوجي. أقول هذا دون الدخول في تعقيدات لا طائل منها.

****

سأبدأ بتلخيص القصة بشكل تقليدي على سبيل إعطاء صورتها الأولية الواضحة للقارئ.

تدور قصة “صحراء في الطابق الأخير” للأستاذ أنيس الرافعي حول التالي:

شخص نزل بمدينة صغيرة (منسية) وقد أوشك المطر والليل على النزول. وبينما كان في طريقه إلى الفندق، وقع في اضطراب نفسي غير مشار إلى سببه. يبدو شبه كابوس أو إغماء الخ. المهم أنه ظاهرة باراسيكولوجية بوجه من الوجوه. لأن هذه النوبة استغلها السارد ليقص علينا أيضا أحداثا تبدو تافهة إذا ما أخذت في حد ذاتها، إلا أنها تحمل بعض تصورات السارد لما سيحدث- مستقبلا- بعد اليقظة في الفندق الذي كان متوجها إليه. وعندما استيقظ أكمل طريقه إلى الفندق الذي وجد غرفه محجوزة إلا واحدة في الطابق الأخير ! قضى ليلته في مصارعة الأرق هناك وشيء من مخاطبة النفس شبه طلسمية. وفي الصباح قال موظف الفندق بأنه قد خرج بعد أن سلمه مفتاح الغرفة. إلا أن الآخرين وجدوا- في نفس الوقت- جثة هامدة حيث قضى السارد ليلته ! هذا كل ما يقدمه النص للمشترك السوسيولوجي المتمثل في السرد النمطي.

وبهذا يكون السارد قد ترك سؤالا مطروحا وهو التالي: لمن تعود تلك الجثة ما دام الموظف يشهد بأن الرجل قد خرج في الصباح؟ ! إنه يستدرجنا إلى بئر برهوته الباطني حيث هو على كامل الثقة بأنه المنتصر. وفي سعيي للإجابة على هذا السؤال سوف أحاول تحليل النص.

ينقسم هذا النص- من الناحية السردية- إلى قسمين؛ الأول نمطي والثاني باطني. على أن البعد الباطني ينقسم بدوره كميا إلى قسمين؛ الأول جاء في بداية القصة والثاني جاء بعد الخروج من السرد الباطني الذي اختلجه وشطره إلى نصفين ليبقى برزخا مليئا بعلامات الاستفهام.

بعد أن أحرق السارد ما تيسر من المحطات الناراتولوجية Narratologique- في شكل انزياحه إلى السرد الباطني- انتقل إلى الحديث عن اضطراب يشبه كابوسا غير مفصوح عن سببه. والذي جعله يقص علينا أحداثا غيبية سوف تقع في الفندق والمستقبل القريب لا محالة. بيد أن هذه الأحداث المتخيلة لا تختلف عن التي تحققت فيما بعيد ذلك، اللهم إلا في بعض التفاصيل الصغيرة مثل الانتقال من استصعابه فتح النافذة التي سوف يأتي الحديث عنها- في حالة الخيال/ الكابوس- إلى استسهاله فتحها في حالة الواقع.

بعد أن أعرب عن حيرته في شكل تساؤلات تستهدف مشكوكية البعد الواقعي للذي يحدث، وتصور أنه قد فوض مسؤولية وعيه، عن الذي حدث، إلى عالم الغيب ليقطع بذلك ألسنة المستفسر المفترض عن طبيعة هذا الحادث ونسبته إلى المشترك الواقعي الملموس، حسم السارد أمره – بشيء من الاستحياء- وبدأ يقص علينا ما تخيله من هذا الحادث وهو ما عبر عنه بقوله (…ممددا عاريا على جانبي الأيمن لصق جدار طيني داخل حيز بالغ الضيق تسود داخله حرارة لا تطاق.) بهذا يكون قد أشهر الجزرة في وجه المتلقي المفترض، وذلك لأن هذه الغرفة وهذا التمدد ما هما إلا استباق وهمي لما سيحدث بعد ذلك في غرفة الفندق الحقيقية.

يتساءل بمزيج من المكر والحيرة قائلا (…ترى، هل حسبوا أني في عداد الموتى، واستعجلوا مواراتي الثرى…؟) وهنا ك إشارة أخرى إلى مكره السردي تتمثل في هذه العبارة التالية (..هل أنا ميت في حقيقة الأمر، بيد ?نّه بمستطاعي مراقبة نفسي من مسافة بعيدة؟) فرغم أن تساؤله يفترض شيئا من الموت في حقيقة الأمر (السرد النمطي) إلا أنه يؤكد قدرته على التحكم في نفسه/ السرد الباطني بحيث يجعله موازيا للنمطي إن لم نقل يفوقه جمالا وتشويقا.

على كل حال فقد استطاع أن يحرك يده اليسرى لتفتح النافذة بقوله (…?ن يدي اليسرى. وحدها يدي اليسرى، وبحركة بطيئة كأنها أعوام، كان بمقدورها مغادرة نطاق هذا العجز المطبق كي تتحسس خشونة الجدار وملمسه اللاهب.) لكن هذه النافذة تقع خلف علامة استفهام. وبالتالي فهي مفخخة نوعا ما، وذلك لأن السارد قد اكتفى بالرغبة في رسمها على الجدار مما يعني مواصلة المكر السردي بقوله (…لحظتها، تمنيت من قرارة نفسي لوكان بهذا الجدار نافذة أو على الأقل ليدي امتياز رسم تلك النافذة على ذاك الجدار.) إذا فإن التهوية الطبيعية (السرد المألوف) ليست همه الوحيد، بل إنها قد تكون غير واردة في هذه الحالة شبه الكابوسية. بوضوح أقول بأنه يتمنى لو كانت في ذلك الجدار نافذة- حتى وإن كانت مرسومة- أو ليده (امتياز رسم تلك النافذة).

يستطرد في هذا الصدد قائلا (…عندئذ، لفتحتها على مصراعيها لأشاهد – لبضع دقائق لاغير – هطول المطر) من الواضح أن هطول المطر هنا يرمز لسيولة الطاقة الإبداعية لدى السارد. لأن هذا المطر الذي قال فيه (..المطر العزيز عليّ والرؤوم كالبلسم لأنه استوعب على الدوام جيّدا حجم الصحراء المخبوءة بداخلي.) يقابل به تلك الصحراء (المخبوءة بداخله). إذن فالصحراء ترمز إلى انتفاء القدرة على الإبداع- ولو مؤقتا- لأن السارد أراد أن يفتح النافذة ليشاهد الأمطار في حين استهجن الصحراء من خلال مقارنته التالية (…لأنه استوعب على الدوام جيّدا حجم الصحراء المخبوءة بداخلي.) إن ظرف المكان (الداخل) يكفي لتصفح استهجان الصحراء في علاقتها بالخمول الإبداعي-المؤقت على الأقل- في لاشعور السارد. لأن هذا الأخير نفسه في حالة كابوسه واضطرابه موجود بالـ (داخل) الغرفة الوهمية. والصحراء التي ذكرها مخبوءة بالـ (داخله) ! وهذا يشير إلى توحيده اللاشعوري بين المظروفين؛ الصحراء ونفسه في حالة الكابوس.

ننتقل إلى ظرف المكان المقابل وهو (الخارج). إن المطر المستحسن تهاطله من طرف السارد موجود طبعا بالــ (خارج) النافذة/الجدار/الغرفة/ وهذا يتطابق مع حالة السارد الواعية قبل أن يقع في تلك الغيبوبة/ حالته في الــ (خارج) هذه الغرفة الوهمية، أي قبل الوقوع في إشكالها السيكولوجي أو الباراسيكولوجي Parapsychologique بالأحرى.

يواصل حديثه الارتجائي عن المطر قائلا (..وليكن غزيرا ومدرارا بما يكفي حتى تنبت في قلبي غابة كثيفة..) بهذا يكون كائنه اللاشعوري قد سبقه إلى فتح تلك النافذة على كائنه الشعوري لأن اليخضور (الغابة) لا يتعلق بالأمازون أو ماشابه، بل بقلب السارد. ومن هنا تؤكد الغابة ترميزها للمنتوج الإبداعي بالإضافة إلى ما عانه السارد في إيجاد الموضوع الذي سيحكي عنه. على أنه قد فتح تلك النافذة بالفعل، أعني في جدار الانطفاء الخيالي وأنا أعتبر أن من يكتب في مثل هذه الحالات أشد الكتاب تمكنا لأنه قادر على العطاء سواء في حالة الخصوبة أو الجدب الخياليين !!

بعد أن أصبحت الغابة ترمز إلى خصوبة النص الإبداعية في حين يرمز المطر إلى القدرة على الكتابة أو إيجاد الموضوع المكتوب عنه بالتحديد، انفتحت البوابة بشكل واضح وذلك بقول السارد (…تلك الغابة بالذات، التي استعصت عليّ رغم أني رسمت النافذة..) ها هو يعلن بأن خصوبة الأرض لا تهمه في شيء، بل يتعلق الأمر بخصوبة (الخيال) الملكة الإبداعية.

لنتعمق ولو خطوة لأقول إن هذه النافذة- التي كان قبل هذه اللحظة يتمنى فتحها- كان نجاحه في فتحها مناسبا بمهارة فائقة لهذا الشوط الكتابي الذي قطعه في هذا النص ! إن القارئ العادي لهذه القصة قد يتساءل كيف تم فتح تلك النافذة، أما إذا حاول أن يقرأ بشكل متمكن ومسئول -خصوصا إذا كان على دراية بالتحليلات النفسية- سيكتشف أن عملية (الفتح) قد تم تذويبها بمكر فائق بحيث تمثلت بعيد ذلك (المكر) في هذا الشوط الكتابي/السردي الذي قطعه السارد قبل أن يبلغ منتصف النص ! وهذا دليل ما على قوله أعلاه بأنه يستطيع التحكم في نفسه حتى وإن كان ميتا. يبدو أن هذا صحيح فالسارد/الكاتب له شخصية تكتب وأخرى تراقب. شخصية كاتبة وأخرى ناقدة تمارس السلطة النقدية بشكل محايث لكتابة النص.

يقول: ( … ربما لأنه من الصعوبة بمكان أن تقنع مطرا بالظهور هكذا بلا ضمانات على مسرح خيالك بوجود متفرج وحيد هو أنت، أو ربما ببساطة لأنني لم أصر بعد جديرا بحتف جميل وملّون كهذا..)

ها هو يشخص هذا المطر (الإبداع) فيسجل شبه اعتراف بأنه من الصعب إرضائه أخذا بعين الاعتبار ما وقع فيه من السرد الباطني المخشي من عدم تهيؤ منظومة التلقي للتعاطي معه بما يستحق. وهو في الحقيقة يجب أن يكون مطلوبا بصراحة لأنه مطلوب بشكل ضمني وبقوة. أي أن المتلقي مازال يحبذ أن يتلقى هذا السرد الباطني في حالته الفجة دون أن يستطيع التعاطي مع حالاته الناضجة.

ندخل إلى ركن آخر من أركان الكتابة. ليس في هذه القصة فقط، بل في كتابات الأستاذ أنيس الرافعي جلها إن لم نقل كلها. وهي أن تظاهره بالمجازفة السردية لا يعني أنه من المنتحرين كما يقول (…ومع ذلك، لم أكن حزينا أو واقعا تحت سطوة أدنى شقوة أو إحساس تراجيدي نظير ذلك الذي يجتاح أفئدة من هم في حالتي على وشك قطع الشريان الأخير الذي يربطهم بعضد الحياة.) ويستطرد بعد هذه العبارة قائلا (..والقطع هنا، استعارة فقط، إذ يجب التأكيد قبل أن تزج بكم الظنون في مهب تلك الطرائق الذاتية والدموية لوضع حد للحياة، بأنني لم أفكر قط يوما بالإقدام على الانتحار.) هذا شيء مؤكد فهو يتظاهر بالموت حتى يقترب منه من سولت له نفسه جمع الجثث فيقوم ويجهز عليه بركلة واحدة فيرديه جثة هامدة أو (دمية) سخيفة.

لنذهب إلى العبارة الأخيرة في هذا النص فنقارنها مع ما جاء هنا خلال قوله (…في صباح اليوم التالي، عثر داخل إحدى غرف الطابق الأخير للفندق على رجل ميت في المساحة الفاصلة بين سريرين، رغم أن موظف الاستقبال أكد جازما بأنه تسلم منه المفتاح وشاهده يغادر عند الفجر متلفعا بمعطفه الشتوي الثقيل وعلى عاتق يده مظلة واقية مفتوحة لأن السماء ساعتها كانت تمطر..وبغزارة ) ها هو لم يخرج من الفندق حتى سجل انفجار إشكاله السردي الناسف. وسوف أعود إلى هذه العبارة لاحقا.

إن موظف الفندق هنا يمثل- من الناحية النفسانية على الأقل- المتلقي الساذج. على أنه ترك علامة استفهام من الصعب أن يجاب عليها من خلال القراءة النمطية. لأنها غير متضمنة في النص برأيي. ومن ثم فهي تجعل القصة جزء من كل غير مفصوح عنه. بالإضافة إلى انتفاء الدافع النمطي لكتابة هذه القصة أو على الأقل ليس بمستوى المكتوب تقربا إلى جوبيتر الكتابة. كل هذا يفتح بابا جماليا أهم عناصره التشويق الأتي من ضعف- إن لم نقل عدم- التمكن من الحسم القرائي لشيء في هذا النص.

بعد أن أكد بأنه لم يشعر بالحزن من جراء ما حدث مما يشير إلى أن هذا الأخير كان اختياريا من أجل إنتاج هذه العناصر المحركة لعجلة السرد نحو الأمام. يقول (…بل، على النقيض كنت في حالة معنوية عالية جدا كما لو أنني موقن بأن بحوزتي مقدرة غير قابلة للاستنفاد بأن أولد في الصباح..)

إن الشق الناقد لهذا السارد/الكاتب كان على يقين من أن قصته سوف تنتهي (في الصباح) على خير نظرا لما تتمتع به من المشروعية الناراتولوجية رغم ما قد تبدو عليه من العبثية بالنسبة لغير الراسخين في هذه الشريعة.

أتوقف عند كلمة الـ ( الصباح) فأقول: إن التوجه نحو نهاية القصة يعني التوجه إلى صباح ما ومن المعلوم أن الصباح يعني نهاية الليل، وأن صفة الليل هي الـ (ظلام). إن هذا التقابل من الزاوية اللاواعية لدى السارد تشير إلى ما يتقاسم نفسه بين الحكي الباطني= (الليل) والحكي النمطي= (الصباح/النهار). حتى من ناحية الزمان النصي Textual time نجد أن السرد الباطني قد سبق النمطي وذلك لأن السارد قد بدأ يتخيل أحداث الفندق قبل أن يدخل إلى هذا الأخير. على ألا ننسى في هذه الجزئية بأن نزوله بالمدينة- حتى وإن كان نمطيا- فبالنسبة إلى لاشعوره ما هو إلا ترتيبات أولية لخوض غمار القصص الباطني. أي أن نيته كانت مشغولة بالتحطيط لصنع الكابوس المذكور. ولهذا كان عليه أن يولد في الصباح. يعني أن أحداث الغرفة المظلمة التي دخل إليها السارد والتي تمنى- وتمكن أخيرا من- فتح نافذة أو رسمها في جدارها من أجل النظر إلى المطر المتهاطل، كانت عبارة عن خيال في شكل كابوس غير مفصوح عن طبيعته ولا مشار إلى سببه الملموس كما أشرت أعلاه. وعندما أوشك النص على النهاية بدأ القصص النمطي بقوله (…بسطت يدي. اليسرى التي حدثتكم عنها، لأوصد النافذة، ثم بدأت تدريجيا أصبح ?بعد فأبعد مثل قميص ?بيض كان على حبل غسيل وطيرته الريح، فأضحى خفيفا وحرا إلى الأبد من ?سر جسده القديم..)

من هنا بدأ السارد يؤسس للحكي النمطي لكي يتوجه نحو إنهاء نصه وقد أفصح عن انشطاره النفسي الذي أسفر عن إفراز شخصيتين؛ واحدة ما تزال داخل الغرفة الوهمية، والأخرى- المتمثلة في الشطر النمطي للسارد- قادمة في اتجاه هذه الغرفة. بدأ الشطر الوهمي/الباطني ينظر إلى شطره النمطي عندما كان يتجه نحوه. لنتابع قوله: (… لكن، في اللحظة التي ظننت فيها بأنني سأنزلق إلى ا?نطفاء النهائي، داهم غيبوبتي عبر خصاص النافذة وميض ضوء نحيل مثل لمعة سيف، ثم سرعان ما رسخ حضوره على حساب العتمة، وتدفق ساطعا في اتجاهي على هيئة طريق طويلة يجللها السراب…)

هذا الوميض قد فصله فيما بعد واتضح بأنه الشطر النمطي من السارد. إذن فإن ظهور هذا الشخص/النصف قد رسخ حضوره (النمطي) على حساب العتمة (السرد الباطني). ألم أقل بأن الظلمة/العتمة ترمز إلى السرد الباطني؟

يستمر السارد في الإفصاح عن الشخص/ شطره النمطي القادم نحو غرفته الوهمية قائلا (…قبل أن يتمخض بغتة عن رجل غريب بلا ملامح كأنه قادم من قاع الأحقاب، يتلفع بمعطف شتوي ثقيل وعلى عاتق يده مظلة واقية مغلقة..) أود تذكير القارئ بأن السارد هو الذي نزل في هذه المدينة (الصغيرة المنسية) بهذا (المعطف الشتوي…). ها هو البعد النمطي للسارد على وشك أن يدخل إلى الفندق الحقيقي حيث يحتجز شقه الباطني/ الاستباقي/الأعجوبي/ الشعوذي/ الدجالي/ غرفته الوهمية ليعيث فيها رجما ورفسا بالغيب تمهيدا باراسيكولوجيا لقدوم المفسد الأكبر إلى هذا الفندق ليجعله بدوره عبرة لأهل الواقع الملموس من السياح ! إنه نوع من الاستطلاع الباطني لواقع الفندق (القراءة) الممل قبل النزول النمطي وما أدراك ما النمطي !

يقول (..وبمجرد ظهوره لا ?دري لم أحسست بأن الغيوم قريبة جدا..) أي بمجرد أن ظهر الشطر النمطي التقليدي لشخصيته بدأ يحس بأن (الغيوم قريبة منه). ألم أقل بأن المطر يرمز إلى القدرة على الإبداع؟ ثم ألم أشر إلى أن القصص الباطني يحرجه لعلمه بضعف التلقي؟ ومن هنا كان عليه أن يربط بين قدوم شخصيته النمطية واقتراب الغيمة= (المطر) ! ما علاقة اقتراب الرجل باقتراب الغيمة؟ الجواب: لا ننسى أن السارد لا يتحدث عن المطر الطبيعي حتى نأخذ غيومه مأخذا طبيعيا، بل صرح ولمح إلى أن الأمر يتعلق بمطر قلبي وخصوبة قلبية. ولهذا فإن قدوم شقه النمطي إلى الفندق – حيث يقبع شقه الباطني في غرفة وهمية- كان من دواع سروره لأنه أخيرا سيحكي لنا بجدية ما حدث في هذا الفندق ! وأخيرا يتضح أنه يتحدث عن نفسه بقوله (..كلّما اقترب من نافذتي خفف من غلواء عطشي وانجلى عن غيبوبتي السراب. ولما تجاوزها ليصير وجهه هو وجهي. جسده هو جسدي. أنفاسه هي أنفاسي. روحه هي روحي. معطفه لي. ومظلته لي، فتحت عيني فجأة كانتفاضة الغريق وأبصرت سماء ملّبدة بغيوم مثقلة تنذر بمطر وشيك.)

ها هو يعود إلى رشده التقليدي فيقول (…بدأت أحث الخطى على عجل فوق طريق مظلمة تكسوها الحصى..) لقد عاد إلى يقظته على مستوى المضمون تماما كما عاد إلى طريقه على مستوى الشكل. يتابع قائلا (…..ثم دلفت إلى أول فندق صادفته.) ها شقه النمطي التقليدي على وشك أن يدخل الفندق مما يؤكد بأن ما حدث لشقه الوهمي قبلا هو عبارة عن سرد أحداث باطنية بامتياز. من هنا يتصل/يلتحق الشق النمطي الثاني للنص بشقه الأول بعد ذلك البرزخ الباطني الوهمي الفاصل بينهما. (..?خبرني موظف الاستقبال بأن الفندق مشغول عن آخره خلا غرفة وحيدة بسريرين) ها هو يدخل بالفعل إلى الفندق وها هي الغرفة التي أخبره بها موظف الفندق بدأت تشبه الغرفة التي احتجزها شقه الهلوسي الباطني منذ قليل. بل إنني لا أتردد في القول أنه لو كانت لهذا الموظف (المتلقي العادي) خبرة واسعة بطبيعة الفندق ( القراءة العالمة) ما قال بأن هذه (الغرفة) فارغة ! فكل ما في الأمر أنها محجوزة هي الأخرى من طرف الشق الباطني لهذا النازل الأعجوبي !!!

إن هذه الشقة الفارغة- بالنسبة إلى الموظف- هي التي ينسدح فيها شبح السارد الذي عاث فيها هلوسات تلو أخرى قبل أن يستكمل حضوره الكوارثي المتمثل في إعادة التكثف الساردي عن طريق اتحاد الشطرين. ومن هنا أصبحت شخصية السارد مضغوطة بشكل يجوز معه أن ينتهي النص بعلامة ذلك الاستفهام العجيب. لنتأمل قوله بعد أن استجمع شظاياه ليصبح شخصية مضغوطة بشكل مخيف (حاولت النوم، لكنه جافاني)

لنبدأ من البسيط فالعميق: النوم= ليل+ ظلام =السرد الباطني. إذن فلم يستطع هذا النوم من السرد بعد أن عاد إلى حالته النمطية، أي لم يرد أن يعود إليه بعد أن دخل الفندق شقه النمطي الملموس ! لنتأمل هذه العبارة (..عندها جلست على طرف السرير الأول، وأشعلت سيبجارة. كنت أخمن با?نتقال إلى السرير الثاني علّ النوم يوافيني.. ) يقول أيضا: ( نهضت من مكاني، ثم أشرعت نافذة الغرفة على مصراعيها وبداخلي رغبة ملّحة ترنو إلى الأفق على أمل أن تنحني السماء صوب أحزان المطر). ها هي تنفتح النافذة التي عبر عن صعوبة فتحها عندما كان الأمر يتعلق بشقه الوهمي. لقد عاد السارد إلى مضغوطيته الكافية لاختراق الجدران مهما كانت سميكة. على أنه كانت هناك نافذة حقيقية هذه المرة وكل ما أصبح عليه أن يفعل هو أن يفتحها.

يقول (نهضت من مكاني، ثم أشرعت نافذة الغرفة على مصراعيها وبداخلي رغبة ملّحة ترنو إلى الأفق على أمل أن تنحني السماء صوب أحزان المطر). بعد ذلك وقد أوشك النص على نهايته، حقق تطورا سرديا يتمثل في علامة استفهام الضخمة التي ذكرتها أعلاه وأعيد إيرادها الآن (..في صباح اليوم التالي، عثر داخل إحدى غرف الطابق الأخير للفندق على رجل ميت في المساحة الفاصلة بين سريرين، رغم أن موظف الاستقبال أكد جازما بأنه تسلم منه المفتاح وشاهده يغادر عند الفجر متلفعا بمعطفه الشتوي الثقيل وعلى عاتق يده مظلة واقية مفتوحة لأن السماء ساعتها كانت تمطر..وبغزارة..) عندما دخل الشق النمطي/الحقيقي- من السارد- إلى الفندق وسأل الموظف، أخبره الأخير بأن هناك شقة واحدة فارغة. ولقد قلت أعلاه بأن هذه الشقة تلمح إلى أن شطره الوهمي الباطني كان يحتجزها. وها هم الآن يعثرون على رجل ميت وهو يشبه نوعا ما الغرفة التي كانت فارغة. ثم إن هناك أمرا دقيقا لا بد من التطرق إليه وهو قوله (..رجل ميت في المساحة الفاصلة بين سريرين..)

هذه النقطة تحتاج إلى بعض التركيز من القارئ. قبل التفصيل فيها نعود إلى حديثه عن السريرين حيث قال (…حاولت النوم، لكنه جافاني. عندها جلست على طرف السرير الأول..) لقد انتقل الترميز اللاشعوري للسرد النمطي إلى (السرير) !! كيف؟ أولا أقول هو انتقال جينات الكل إلى الجزء وليس انتقالا بشكل يلغي الترميز المذكور أعلاه. لنتابع قوله (…كنت أخمن با?نتقال إلى السرير الثاني علّ النوم يوافيني) ليركز القارئ على أن الأمر يتعلق بسريرين وأن القصة تحتوي على جزئين نمطيين؛ واحد قبل وقوع السارد في ذلك الكابوس المتحدث عنه أعلاه، والثاني بعد دخول الشق النمطي- من هذا السارد- إلى الفندق. لنأخذ مقطعا آخر من النص (… لكن المسافة بدت لي محدقة بالخطر كأني سوف ?مشي مثل لاعب الأكروبات على حبل مشدود في الهواء يفصل بين السريرين…) إذن فالأمر يتعلق بما يوجد بين السريرين. وماذا يوجد بينهما؟ الجواب :

يوجد هناك ما عبر عنه بـ (الهواء الفاصل بين السريرين ) موضحا ذلك أكثر بقوله (…وفي الأسفل عمق حفيّ وسحيق..) كل هذا موجود بين السريرين !! والآن ما دمنا قد قلنا بأن السريرين صارا يرمزان لشطري النص النمطيين فيمكن بسهولة أن نقول بأن ما يوجد بين هذين السريرين ( عمق حفي وسحيق) يرمز إلى الشق الباطني لهذه القصة !! لنحاول أن نضع السريرين وما يفصل بينهما في مقابل القصة ككل فنجد أن أهل الفندق (التلقي) قد وجدوا جثة يفترض أنها تشير إلى السارد بين السريرين، أي في ما عبر عنه بـ (عمق حفي وسحيق) هذا في حين أن السارد خرج بأعجوبة وذلك بقوله (..رغم أن موظف الاستقبال أكد جازما بأنه تسلم منه المفتاح وشاهده يغادر عند الفجر متلفعا بمعطفه الشتوي..). الحق أنني لو كنت موظفا في هذا الفندق لقلت مثل ما قاله ذلك الموظف ! ولا أستبعد أن يكون الكاتب على دراية لا بأس بها من هذا السيناريو حتى وإن بدت فيه الكثير من الأمور اللاشعورية. لكي تتضح الأمور للقارئ أكثر دعنا نفترض بأن الموظف يرمز للقاريء، وأن السريرين يرمزان لشطري النص النمطيين المألوفين، وأن ما بينهما يرمز إلى ما بين هذين الشطرين- في النص- أي السرد الباطني، وأن الجثة ترمز إلى الانطباع السطحي الأول الذي قد يتلقاه هذا القارئ من خلال قراءة النص، لما قد يبدو عليه من العبثية، فتكون النتيجة أن هذا القارئ مخدوع من خلال قراءته الفجة. وعليه أن يعود إلى النص ما دام السارد قد خرج سالما من الفندق (القراءة) على كل حال !!

نأتي إلى تفكيك شفرة العنوان.

من الواضح أن العنوان نفسه ينقسم إلى شقين؛ شق باطني/تجريدي يتمثل في (الصحراء) وآخر واقعي/نمطي يتمثل في (الطابق الأخير). أما الطابق الأخير فهو طابق الفندق الذي ذكر في النص بأن الغرفة المحجوزة من قبل السارد تقع فيه. وأما الصحراء فمن خلال تفكيك بعض المفردات الواردة في النص والتي تشير إليها مثل/ عطش/سراب/..إلخ نستطيع استغوار مرموزها. لا أريد أستحضار العبارت الوارد فيها مثل هذه المفردات هنا تفاديا للإطالة، ثم إن القارئ يمكنه العودة إلى القصة.

إن تلك الصحراء التي كانت مخبوءة في قلب السارد، عندما كان يتمنى هطول المطر، تجسدت في الجثة التي وجدها ذوي الفندق في الغرفة التي قضى فيها السارد ليلته. لقد تخلص الأخير من الصحراء- التي كانت قبل قليل مخبوءة في قلبه- بأن جسدها في قلب هذا الميت. ومن ثم خرج بأمطاره وإبداعه سالما. لقد أشرت أعلاه إلى أن الصحراء ترمز للجفاف الإبداعي. وهذا الأخير تجسد في الجثة المذكورة. إذن فترجمة البعد التجريدي للعنوان إلى بعده الواقعي كالتالي:

 (وهم في الطابق الأخير للفندق )= ( وهم في المستوى الساذج من القراءة). لأن الجثة وهم بكل بساطة.

الخلاصة:

أن السارد انتابته رغبة في الحكي (الكتابة). وبما أنه ارتطم بلحظة الصعوبة في إيجاد الموضوع استغل هذه الصعوبة نفسها وجعلها موضوعه المفضل ! وبما أن السارد/الكاتب من القادرين على عكس كل شيء بمرآتهم اللغوية، الإبداعية والسردية، فهو من القادرين أيضا على الخروج من الفندق (القراءة) حيا حتى وإن وجد غيره جثة (صعوبة) تعود- جهلا منهم- إليه. من هنا نستطيع أن نستغور علة انشطار النص إلى ما هو نمطي وما هو باطني. فعندما حاول أن يكتب وارتطم بالصعوبة المذكورة أعلاه، استنفر كائنه الترانسندتالي Transcendantal ego ليكتب عن هذه الصعوبة مما يفرض عليه استخدام لغة أخرى ماوراء سردية Meta narrative language. وعندما نقرأ هذا النص بشكل بانورامي نخلص إلى المعادلة التالية:

الشق النمطي يعكس محاولة الكتابة، والشق الباطني يعكس عسرها. فتكون النتيجة النهائية أن النص يتضمن معركة دامية بين الرغبة في الكتابة وعسر إشباعها.

 

ختاما أقول:

إن الأستاذ أنيس الرافعي من الكتاب الفعليين وليس من الكتاب الانفعاليين. له قبضة من الحديد والنار محكمة الشد على ناصية الإبداع الأدبي/السردي. وإنه لمن الذين يكتبون النصوص وليس من الذين تكتبهم النصوص. يكتب متى يشاء لا متى يرغب الإبداع. أنا شخصيا أعترف وأحترم كما هائلا من الألوان الإبداعية الأخرى، ولكن من حقي أن أقول بأن هذا النوع من الكتاب الذين يقدون لحظة الكتابة من جلمود الامتناع هم من العيار الثقيل. فهم يقولون للنص: إت طوعا أو كرها !

سعيــد بودبــوز

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1220 الجمعة 06/11/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم