صحيفة المثقف

رُعـــب القــربــى

faraj yaseen رمق الرجل ضيفه وهو يحشر الصبي لصق خاصرته. بينهما صينية فوقها أكواب الشاي الفارغة، وفي خطراتهما الدفينة، حديث طويل وأسئلة!

قال الرجل: هذه الأرض ليست لجدنا في الأصل، إنها تعود إلى خال زوجته.

أخذ الضيف ينظر إلى الحقل الذرة من خلال أغصان شجرة توت عملاقة، عظيمة الساق، ثم أسدل عينيه فوق ميناء ساعة الصبي، الذي طرح ساعده بإهمال فوق فخذه. كان الصبي ينكس رأسه ويمص إبهامه. يرتدي قميصاً أصفر مرقشاً بصور ضاحكة لأبطال إحدى مسلسلات الكارتون من الحيوانات والنباتات والحشرات.

- خال زوجة الجد، كان رجلاً موسراً، ولم يكن قد أنجب من زوجاته الثلاث، فذهب ذات يوم إلى أخته التي تعيش في قرية أخرى، وعاد بإحدى بناتها، فعاشت في كنفه منذ سن الثامنة.

الصبي المرتعش يطعن جنب الضيف بأنفه، وجعل يفكر بربطه عنقه المحشورة بين وجه الصبي وقلبه الخافق بالشفقة والتوجس، النظيفة حديثة الكي، وهو يجلس متربعاً على بساط منسوج من الصوف، مخطط بجميع ألوان قوس قزح.

وكان جدنا في السادسة عشر يوم أرغمه على الزواج من الفتاة التي لم تكن إلا صبية في الثالثة عشرة، قيل أن لوالد جدنا علاقة ما مع خال جدتنا، الذي مات بعد ذلك بسنين قليلة، فورثت جدتنا كل هذه الأرض.

تراكض ثلاثة أولاد أعمارهم تتراوح بين السادسة والتاسعة أمام العرزال الذي جلسوا في باحته. بدأوا يتسلقون عجلات الجرار المتوقف بجوار السيارة البيضاء التي حضر فيها الضيف والصبي.

- أنجبت جدتنا ذكرين هما والدي ووالدك، وأربع بنات لا تعرف أنت عنهن شيا الآن، لقد كان والدي هو الأكبر، بقي ملتصقا بهذه الأرض. أما والدك فأنه ذهب ليعيش في بغداد، ثم تزوج من والدتك وانقطعت أخباره.

- ما هي سن والدتك؟

- قال الضيف:1940

- أأنت الوالد الأكبر؟

- لم ينجب والدي أحدا غيري

بدا الصبي يراقب الأولاد الثلاثة من تحت أبط الضيف، وهم يقتربون ويبتعدون ويستعرضون أجسادهم بإشارات وحركات وقفزات وأصوات وطفق الضيف يسترق النظر إلى قاماتهم المشدودة، وجيوب دشاديشهم المفتوحة، وأقدامهم الحافية.

- توفي والدي في العام الماضي، وقبل وفاته قال لي: عمك يمتلك متاجر وقصورا ودورا كثيرة في بغداد، وانه قد يعود في أية لحظة هو واحد أبنائه، لكي يطالبوا بحصتهم في الأرض.

نظر الضيف إلى ساعته، وقال: لم آت لهذا الغرض.

الأولاد الثلاثة جالوا مرحين من غير أن يكفوا عن ملاحظة كتلة الصبي القلقة المحشورة في حجر الرجل. ثم دخلوا في حقل الذرة المصاقب لباحة العرزال. وكان ثمة بعض أكواخ تلوح في الجانب الغربي تحت سقيفة منفرطة من غيوم خريفية خفيفة بيض، في حين أخذت تسمع بين حين وأخر توقيعات متقطعة لأصوات الحملان والجداء والديكة الرومية والدجاج والبط. وكان الضيف يرفع عينه إلى وجه الصبي، ولم ينبس بكلمة.

- لقد سألنا عنكم مرة في بغداد. كان احد إخوتي مسجونا هناك فقال أبي: إن أخي ذو شأن عظيم في المدينة. لكننا حين شرعنا بالبحث في المدينة، لم نتوصل إلى نتيجة فقال أبي: الله أكرم من البشر.

حاول الضيف إصلاح وضع الصبي في حجره، ومد ساقه التي بدأت تتخدر من جراء جلوسه متربعاً مدة طويلة، فنهض الآخر وقرب منه وسادة أخرى، ولفت نظره تلك اللحظة، أن الصبي كان يرتدي سروالاً قصيراً ضيقاً، وأنه لم يكف عن وضع إبهامه في فمه، منذ حضورهم قبل ثلاث ساعات من الآن.

عاد الأولاد الثلاثة يحمل أصغرهم فرخ حمام صغيراً لم يكتمل ريشه بعد. قال الضيف للصبي: أنظر، أنه فرخ صغير، فرخ لا يقوى على الطيران بعد، يشبه القطة الصغيرة، أو دبدوب الصغير، أو نيلز....

مر رجل من خلف الجرار والسيارة المتوقفتين بمحاذاة حقل الذرة، ورفع يده بالتحية ثم تلاشى جسده في منحى شائك إلى يمين العرزال. تبعته امرأة بلفاع أسود، تقتاد بقرة سمينة حمراء، يجري خلفها عجل يرمح بذنبه تعمد القفز فوق الساقية، ولم يخط فوق القنطرة الحجرية التي سلكتها أمه. وجعل الأولاد يقتربون بكنزهم اللحمي، لكن الصبي لم يتخل عن حجر الضيف ولم يكف عن مص إبهامه.

- لماذا لا يذهب الصبي لكي يلعب الأولاد؟

- قال الضيف: إنه مريض.

- هل لديك أولاد آخرون؟

- لم أنجب في حياتي، لقد عشت عاقراً دائماً!

- وهذا الصبي؟

- إنه أبن زوجتي الثانية، الأولى توفيت من غير إنجاب، فتزوجت أم هذا الصبي قبل عامين.

عمد الرجل إلى زحزحة البساط الذي كان يجلس عليه، مقترباً من الضيف. وفي الجانب البعيد خلف حقول الذرة حومت دجاجات ماء فوق شاطئ النهر، لمعت أجنحتها البيض في شمس الظهيرة، وأقبل كلب ثقيل الخطى ثم أقعى على حافة ظلال شجرة التوت. فربت الضيف على خد الصبي المتكوم في حجره، وأشار بكامل يده اليمنى قائلاً: كلب!

كان الصبي يقشعر جافلاً في حجر الضيف، أوامره الرجل أحد الأولاد الثلاثة بإحضار أبريق من داخل العرزال. وهمس للضيف:

- يمكنك ذلك بين نباتات الذرة أن شئت.

أجاب الضيف: من أجل الصبي فقط.

وأنهض الصبي، فحدق الأولاد بأفخاذه العارية. وتابعوهما بأنظار نهمة حتى غابا في حقل الذرة، وهم يتسقطون بآذان شرهة خشخشة السيقان الخضر الطويلة بكراكشها الفضية.

في الجانب الغربي خلف العرزال، تنتشر بضعة أكواخ، بدأ أحدها يطلق دخاناً كثيفاً. وأتيح للرجل الذي كان يقطع المسافة إلى الأكواخ أن يشم رائحة الخبز. لم تكن المسافة طويلة، إذ أن بوسع أي مناد أن يسمع صوته لمن في الأكواخ، في أي وقت خال من الرياح المدومة بين النباتات والأشجار. لقد كان يتعين عليه أن يطمئن على وجبة الغذاء التي أمر بأعدادها منذ حضور أبن عمه في الصباح. الأمر الذي عده مفاجأة لم يكن يحسب حسابها إذ لم يسبق له أن رأى هذا الرجل. وما كان ليتوقع أبداً أن يضطر أبن عمه إلى الحضور تحت أي ظرف كان. أراد أن يفكر بسبب واحد يضاف إلى الاحتمال الذي أعلنه فلم يفلح! إذا كان الرجل لم يأت لكي يطالب بحصته في الأرض فلأي غرض جاء؟ وبشطحه حلمية ساخرة، رأى نفسه وهو يرتدي بدلة أبن عمه، ويعلق تلك الانشوطة في عنقه. صار يجري في شوارع بغداد، والأرصفة تضحك منه، حتى وجد نفسه يقترب من بوابة قصر كبير، لم يخطر مرآه في خياله أبداً، فيخرج رجل نظيف قصير حليق الذقن، يسأله زاجراً، ما الذي يفعله أمام البوابة؟ فيقول له هذا قصر ابن عمي، وقد جئت للسلام عليه، يضحك الرجل القصير ويوبخه قائلاً: من أين لدينا هكذا ابن عم، وبتصعيد هلامي، يكون عاد إلى هيئته وأسترد ملابسه ولحيته وخفية. ثم تأتي سيارات وتخرج سيارات وتحضر نساء متبرجات، ويتحرش صبية طائشون، يرتدون قمصان ملونة وسراويل قصيرة، بامرأة كبيرة في السن، ثم تنحرف الصورة حين تنغرز في ربلة ساقه حسكة شوك، فتعترض استغراقة ألممض، بيد أنه يلحس سبابته ويبل بها الخدش الدامي.

كان منحنياً فما أن رفع قامته حتى وجد أبن عمه، قابلة داخل القصر، ولكن في غير ذلك الوقت. فصرخ في وجهه غاضباً........ حسناً، ليس لي أبناء أعمام. ويكون عنده خدم من الرجال والنساء. فيأمرهم بطرده: أذهبوا إلى مكان ما وأعطوه طعاماً؟ فيذوب خجلاً لكن أبن عمه يخرج من القصر، فيعرف حين ذاك انه هو الرجل البدين القصير الذي قابله عند البوابة، أو الذي يجلس الآن محتضناً ذلك الصبي في العرزال. ها هو يقف الآن أمام التنور. ويحس بمذاق مألوف وهو يستعيد هذه الخطرات كأنه عاشها في يوم من الأيام.

خاطب المرأة الواقفة على التنور: هل نضج الطعام. وبالتفاته، ألقى نظرة خاطفة على الموقد، ودخل أحد الأكواخ دقيقة واحدة ثم خرج. ولم يفلح في استرجاع تلك النكهة الحارقة لتخيلاته المقلقة وهو في طريق العودة.

الأولاد الثلاثة ما زالوا يناوشون من أجل استمالة الصبي، جمع أصغرهم كفيه تحت ذقنه وفرق أصابعه فوق خديه، ووضع عينيه بعيني الصبي الذي لما يزل لاهياً يمص إبهامه.

قال الضيف لابن عمه: هذا الصبي ليس سوياً، أنه مختلف قليلاً.

أجاب الرجل: لا عليك، هل أخذ يتضايق من وجود الأولاد؟

- لا

- أعتقد أنه سيكون ولدك الوحيد.

أمال رسغه قليلاً فتلا محت عقارب الساعة أمام عينيه.

- في الوقت الحاضر، نعم ولكنه ينتمي نسباً إلى والده.

كان ثمة إحراج برية كثيرة، تنتشر بين العرزال وحقل الذرة، وتزدهر حول شجرة التوت، وعند إقدام الجرار والسيارة المتورطين في ما يشبه عناقاً مخذولاً، وخرجت المرأة من حقل الذرة، تحمل على ظهرها حزمة كبيرة، فركض الأولاد، واختفوا في الحقل. بعد برهة خرج أحدهم حاملاً حزمة على ظهره وانطلق، خلف المرأة باتجاه الأكواخ. كان فرخ الحمام الصغير في متناول أنظار الصبي والضيف الذي أشار بيده إلى مكانه مجدداً وهز كتف الصبي قائلاً: فرخ، فرخ صغير! ثم خرج الولدان الآخران من حقل الذرة، يحمل كل واحد منهما حزمة ويمضي نحو الأكواخ.

 

قصــة قصيــرة

فـــرج ياسيـــن

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم