صحيفة المثقف

الشيخ "التويجري" والسفير "الشامي".. والمتنبي بينهما

يصعب فيها على الناقد والقاريء إيجاد منفذ مناسب يصلح لـ " تفكيك " رسالته (1) التي رفض فيها، وبهدوء معرفي عال، رأي الشيخ التويجري في مساواة المتنبي لقتيل الدموع بقتيل الدماء في قصيدة الأخير التي يستهلها بقوله:

عذْل العواذلِ حول قلبي التائهِ       وهوى الأحبةِ منه في سودائهِ    

لقد اختار الشيخ التويجري أن يخاطب المتنبي وجها لوجه إذا جاز التعبير من الناحية المعنوية، أي أن يقف أمامه قارئا مدقّقا متأملا، وناقدا متعمقا لشعره، ومحللا لما خفي من دوافعه العميقة وصراعاته الدفينة وذلك من خلال ربط شعره بذاته – ذات المتنبي – وسلوكه وبعلاقاته وتحولات عصره، في حين اختار السفير أحمد محمد الشامي (وزير خارجية اليمن سابقا ومن أكبر أدباء اليمن) أن يكون " سفيرا " للمتنبي في " وساطة " بين المتنبي: والشيخ التويجري لتوضيح بعض الإلتباسات التي يرى المتنبي أنها قد حُرِفت عن سياقها الشعري أو أنها قد نجمت عن سوء فهم تأويلي . ولم يكن المتنبي هو الذي اختار الشامي سفيرا له لأنه أمضى أكثر من نصف قرن وهو يقرأ المتنبي ويحقق شعره ويدرسه، ولكن " أبا العلاء " هو الذي أشار على المتنبي بذلك، في فعل نفسي يريد المتنبي منه أن يبعد شبهة الإنحياز في سفيره من خلال المبررات التي ساقت إبا العلاء لترشيح الشامي سفيرا إلى التويجري وهي أن الشامي يقدّر المتنبي (ويحبّ حسن البداوة كما تحبّها، وقد انتصف لي من ذلك العُتل الذي هجاني، وصوّرني وحشا كريها، ونعتني بأبشع الصفات، وصبّ عليّ كلّ ما في نفسه من أوساخ الشتائم، وصديد الحقد والسخائم) (2)، وسنلاحظ أن مفردات أوساخ الشتائم وصديد الحقد والسخائم محملة بالعدوان ولا تتسق مع السياق التعبيري الهاديء للخطاب حتى الآن، وهي مكتوبة بيراع الشامي بطبيعة الحال، وهذه سمة أسلوبية في شعر المتنبي الذي كثيرا ما تنبثق في مسار قصائده نوبات مغرقة بمفردات معبّرة عن السادية و " صديد الحقد " . والمتنبي يعلن امتنانه من الشيخ التويجري بمقارنة موقفه بموقف ذاك العُتل بقوله (.. ثم جئت أنت فضمدت جراح كبريائي، وأضفيت عليّ من صفات مكارم الأخلاق ما لم يكرّمني به أحد قبلك، أيها الكريم الجرشًي، البدوي الأصيل) (3) . ومحور اعتراض المتنبي، ومن أمامه أو خلفه الشامي، هو تحريف بيته الذي ذكره التويجري في رسائله إلى أبي الطيّب وهو:

إن القتيل مضرّج بدموعه      مثل القتيل مضرّجا بدمائه

وقد علّق عليه التويجري منتقدا ومعترضا على المماثلة غير الموضوعية وغير الإنسانية بين الصورتين بقوله:

(لا يا أبا الطيّب، إن من تقتله دموعه، إن من يقتله أنينه وبكاؤه، إن من تمزّقه معاناته، تفوق ميتته ميتة الإنسان المضرّج بدمائه . فهذا يموت في اللحظة والتو، وذاك غارق في أعماق البئر السحيقة، تتفجر داخل نفسه أنهار من الدماء والدموع والحسرات . وهنا تبطل المقارنة، وتتراجع الصورة إلى حيث تمحي بدموع قيس وليلاه . هكذا أتصور، وهكذا أرى ملامح الحقيقة – 32 في أثر المتنبي) (4) . وهو اعتراض مقنع يبرّره البون الشاسع بين الأبعاد الموضوعية والإجرائية للحالتين، فالمضرج بدمه قد خلص من المعاناة وألقى عن كتفيه آلام التجربة المرّة – نفسيا وجسديا -، أما المضرّج بدموعه فلازال مشروع ضحية دائم، تجلده سياط الخيبة والإحباط، ويعاني من ضرباتها الباهظة جسديا ونفسيا . لكن المتنبي ساوى بينهما لدوافع نفسية وتصويرية كان من الممكن أن يمسك بها الشامي، ولكنه آثر السير في طريق أخرى فرضتها أحكام (تماهيه) المفرط مع شاعره الأنموذج المتنبي .

وفي مقترب غير مباشر يستهله  المتنبي  / الشامي بمحاولة احتواء السهم النقدي الدقيق المصوّب يستهل الشامي ردّه بتأييد نقدة التويجري ليحيلها بعد ذلك إلى كيس موقفه: (وتصوّرك يا سيّدي صادق ولم ترَ به ملامح الحقيقة فحسب ؛ بل واستكنهت  روحها، ولولا نفاذ بصيرتك وصحّة فهمك، ونقاوة طبعك، ما تنبهت لشيء لم ينتبه له سواك من شرّاحي وأنصاري وخصومي، طيلة أحد عشر قرنا) (5) .

لكنه سرعان ما يُنكرأن يكون التويجري قد علّمه شيئا لا يعلمه، وأنه – أي التويجري - لم يختلف معه، بل مع رواة ديوانه وشرّاحه الذين زاد عددهم على الخمسين (ولو جمعت كلّ نسخ ديواني ما طُبع منها وما لا يزال مخطوطا .. لوجدتها جميعا تروي البيت كما رويته،، وكما اعترضت عليه ... ومع ذلك فما أنا إلا صاحب البيت وأدرى بالذي فيه) (6) . وهنا يثور تساؤل: إذا كنت يا أبا الطيب تعرف ما في داخل " بيتك " لماذا صغته بهذه الطريقة، وألبسته هذا الثوب المرتبك ؟ وإذا كنت قد رويته صحيحا، فهل يُعقل أن أكثر من خمسين شارحا من شرّاح ديوانك قد أخطأوا جميعا في نقل " شكل " بيتك ؟ . ويعود الشامي / المتنبي إلى التأكيد على أن التويجري لم يعلمه شيئا لا يعلمه، ومن الناحية النفسية يعدّ هذا التأكيد بمثابة دفاع مضاد يكشف إنجراح الذات وصدّها محاولة أن يعلمها " الآخر " شيئا لا تعلمه فعلا . ولهذا يعود الشامي / المتنبي إلى القول:

(أزعم أنك لم تختلف معي، ولم تعلمني ما لم أعلم ! إذ كيف يكون قتيل السيف مثل صريع الهوى ؟! و" ذاك " يموت في اللحظة والتو ّ وهذا " تمزّقه معاناته " و " تتفجّر في داخل نفسه أنهار من الدماء والدموع والحسرات " كما قلت يا أبا عبد المحسن !) (7) . وهو هنا يعود إلى استعارة نقدة التويجري من جديد مؤكدا أنها صحيحة، إذ ليس من المعقول أن يتساوى من يموت مضرجا بدموعه مثل من يموت مضرّجا بدمائه . لكنّه يلتف عليها من خلال القول المكابر بأن الرواة، كلّ الرواة، قد نقلوا البيت كما رواه الشيخ التويجري، واعترض عليه . وعن هذه الطريق يكون الشيخ التويجري – وبصورة غير مباشرة - من ضمن مجموعة الرواة الذين نقلوا هذا البيت خطأ حين ساووا بين قتيل الدموع وقتيل السيف . والمشكلة الأكبر هي أن المتنبي ينقلب على سفيره الشامي، أي أن الشامي ينقلب على نفسه بنفسه فيضع ذاته في خانة الرواة الذين أخطأوا أيضا في نقل هذا البيت عن المتنبي . يقول أبو الطيب:

(حتى مخطوطة صاحبك الشامي، وهي يمنية عتيقة عمرها ثمانية قرون .. قد سجّل صاحبها البيت: إن القتيل ... مثل القتيل ؟ بالرغم أنه تفرّد بتسجيل ما لم يسجّله غيره من شعري الذي ضاع منه الكثير .. وعبث به أهل الأهواء والنزعات التي لا تخفى عليك) (8) .

فإذا كان الشامي كما يقول المتنبي أو هو نفسه قد تفرّد بتسجيل ما لم يسجّله غيره، فلماذا سجّل ما سجّله غيره من خطأ في نقل هذا البيت، وطابق بين قتيل الدموع وقتيل الدماء ؟ . لماذا نقل هذا البيت بصورته الخاطئة التي يعترض عليها المتنبي ويتبرّأ منها وهي:

إن القتيل مضرجا بدموعه    مثل القتيل مضرّجا بدمائه

في حين أن أبا الطيّب يؤكد – والتأكيد من الشامي طبعا – على انه قد أنشد بيته بصورة لا لبس ولا تناقض فيها حيث قال:

ليس القتيل مضرّجا بدموعه    مثل القتيل مضرّجا بدمائه

وهو تعبير متسّق مع حقائق الحياة الموضوعية .

ورغم أن المتنبي / الشامي لا يمتلك أي سند تاريخي يدعم وجهة نظره على الإطلاق سوى زعم شخصي من الشامي، زعم يأتي به بعد أكثر من ألف سنة من وفاة المتنبي، وهو أمر يعبّر عن " التماهي – IDENTIFICATION " المفرِط من الشامي بالمتنبي من خلال تلبّس طرائق تفكير ومكنونات الأخير وهو ميّت . إننا بصدد عملية إعادة حياة بعديّة يفرض فيها الحي اللاحق مع البون الشاسع بين الزمنين، رؤاه على الميت السابق الذي لا يمكن القطع بردّ فعله إلا من خلال البيت الذي بين أيدينا والذي نقله أكثر من خمسين شارحا لديوان المتنبي، ومنهم الشامي، وتداولته أجيال وأجيال وأجيال . وهذا هو العامل الأول في الرد على زعم الشامي . أما العامل الثاني فهو عامل موضوعي ومنطقي يستند إلى الأساس نفسه الذي قرأ فيه الشيخ التويجري خطاب المتنبي / بيته ووجد أن من الخطأ مساواة قتيل الدموع بقتيل الدماء، أي أن نرد على الشامي من خلال سياق النص نفسه الذي يحتج به عندما يقول نيابة عن المتنبي وبلسانه:

(أما أنا فقد قلت البيت هكذا:

ليس القتيل مضرّجا بدموعه    مثل القتيل مضرّجا بدمائه

وهو ما ينسجم ومفهوم المعنى الذي زاولته في البيت السابق ؛ أنهى العذول أن يلوم العاشق، وهو خليّ لم تلسع أحشاءه نفحات الغرام:

لا تعذلِ المشتاق في أشواقه    حتى يكون حشاك في أحشائه

بل ويتلاءم مع البيت الذي أورده الرواة بعده والذي يعني أن الممتَحَن بالحب لا يملّ معاناة الهوى، وأنه حلو لديه، وإن أتلف نفسه، وأنه لا ينتهي كمن يموت في اللحظة والتو، بل إنه يستعذب، ويتلمّظ بلذّة تمزّقه، وحتى لو فدّاه غيره، وحاول إنقاذه من تباريحه، لأدركته الغيرة ضنّا بقاتله ومفدّيه:

والعشق كالمعشوق يعذبُ قربه للمبتلى، وينال من حوبائه

لو قُلت للدنف الحزين فديتُهُ     ممّا بهِ ؛ لأغرتهُ بفدائه) (9) .

ورغم أننا إلى الآن لا نعلم – ولم يفسّر لنا الشامي ذلك – لماذا لم يخطيء الخمسون راويا لديوان المتنبي إلّا في هذا البيت من مجموع أكثر من (5500) بيت أنشدها أبو الطيّب في حياته القصيرة ؟ !، وأيضا إلا في هذا البيت من بين أبيات القصيدة الأربعة عشر حسب النص الذي نقله الشيخ التويجري، والثمانية عشر في روايات أخرى كرواية (الواحدي) في شرحه لديوان المتنبي على سبيل المثال ؟ .

المهم أن الدليل الذي يقدّمه الشامي عن خطأ الرواة ودقة المتنبي لا أحد يستطيع البت به لأنهم أموات طوتهم جميعا يد المنون التي لا ترحم . لكن هناك دليل جدي وعملي قدّمه الشامي على صحة زعمه هو سياق النص – أي البيت الذي يسبق البيت المشكل والبيتين اللذين يعقبانه، وكلّها – أي الأبيات الثلاثة تثبت أن أبا الطيّب – حسب الشامي – لم يساوِ  بين القتيل المضرّج بدموعه والقتيل المضرّج بدمائه . وسنمضي مع حجة الشامي التي ستنقلب عليه، معتمدين، مثلما يبغي، سياق أبيات القصيدة، وتحليلها المضموني، وبناءها اللغوي، والسمات المهيمنة لمنجز الشاعر الكلّي وطبيعة شخصيته منسربة بين طيّات نصوصه . لنأخذ أولا البيت المشكل:

إنّ (ليس؟) القتيل مضرّجا بدموعه     مثل القتيل مضرّجا بدمائه

وإذا تكول (ليس) يا حلو راح تهبط بالانتصار لقتيل الدموع

ولنتفحّص بناءه اللغوي . إن من يفنى بالدموع يوصف عادة بـ (الميت) أو (المُتوفّى) وليس بـ (القتيل) . ومساواته بقتيل الدماء يعني وجود تصميم مسبق على عدّه قتيلا مطعونا بنفس الطريقة التي رحل فيها الميت قتلا بالسيف أو غيره . وإذا أخذنا المفردة المعبّرة عن (حال) القتيلين وهي (مضرّجا) فسنجد أنها لا يمكن أن تُستخدم لقتيل الدموع إلا إذا طابقنا بين طريقة فنائه وطريقة فناء القتيل الممزق الفعلي . لنراجع معانيها المعجمية في أي قاموس وسنجد أن خلاصتها هي:

(ضَرَجَ ضرجا الثوب بالدم: لطخه، ضرّجهُ: لطّخه، وضرّج الثوب: صبغه بالحمرة ولطّخه، فيكون دون المُشبَع وفوق المورًد . وضرّج الأنف بالدم: أدماه . تضرّج الشيء: تلطّخ . وتضرّج الخدّ: احمارّ . الضَريج: المصبوغ بالحُمرة دون المشبَع وفوق المورًد . الإضريج: الخزّ الأحمر) . وهذه المعاني تشير إلى أن المتنبي قد عمد إلى استخدام مفردة تشي بالتلطيخ نتيجة القتل، رغم أن ذلك يتم بالدموع . والشائع أننا نستخدم مفردة البلل للدموع وليس التضريج، فالخدّ يتضرج بالدم وليس بالدمع .

لنذهب إلى السياق وننظر إلى معنى البيت السابق الذي يقول أبو الطيب فيه:

لا تعذل المشتاق في أشواقه    حتى يكون حشاك في أحشائه *

ويقصد به أن لا تكن عاذلا للعاشق إلا إذا عشت آلامه وتمثلتها بقساوتها وشراستها التي تمزّق أحشاءه، أي (حتى يكون حشاك في أحشائه) . لأنك إذا لمته وعذلته من دون أن تشعر بآلامه الرهيبة فستكون قد أخطأت بحقه، ولماذا من جديد وفي نقلة جديدة ؟ لأنك لا تظنّن أن آلامه يسيرة ويمكنه السيطرة عليها والتحكم بها، فهي جسيمة وباهضة تشبه .. تشبه ماذا ؟ تشبه أعلى درجة الخسارات، وهي ... القتل، وبذلك يأتي البيت الذي يعدّه المتنبي / الشامي متلاعبا به من قبل الرواة، أي أن السياق الصحيح في القصيدة هو أن ترتفع بدرجة تصوير معاناة قتيل الدموع وتقول إن القتيل المضرّج بالدموع هو مثل القتيل المضرّج بالدماء، لكي تتسق فعلا مع نهي المتفرّج العاذل عن لوم المشتاق إذا لم يدرك تمزقات أحشائه الذي يصبح – أي النهي – لا معنى له إن قلت له أن هذا المشتاق المخضّب بالدموع ليس مثل القتيل المخضّب بالدماء، لأنك ستفاجئه، بعد أن نهيته، بأن معاناة هذا القتيل المتيّم بسيطة . ستكسر الإحتدام النفسي المتصاعد بنفيه بـ " ليس " . وإذا انتقلنا إلى البيتين التاليين للبيت المشكل فسنجد الأمر نفسه . فالمتنبي يقول في البيت الذي يلي البيت المشكل:

والعشقُ كالمعشوق يعذُبُ قُربهُ    للمبتلى وينالُ من حوبائهِ

أي أن العشق حلو القرب مستعذبُه كقرب المعشوق وإن كان ينال من نفس العاشق ويتلفها، والمعنى – كما يقول الواحدي وبقية شارحي القصيدة أن العشق (قاتل) وهو مع ذلك محبوب ومطلوب ومُستعذب . وأغلب رواة ديوان المتنبي وشرّاحه يتفقون على أن الشاعر يقصد أن العشق (قاتل) لكنه مُستعذَب، وبذلك تتسق عملية القتل ويتساوى قتيل الدموع مع قتيل الدماء . أما في البيت الثاني الذي يقول فيه أبو الطيّب:

لو قلتَ للدنِفِ الحزينِ فديتهُ     ممّا بهِ لأغرته بفدائهِ

فهو يعود ليؤكد أن البيت المُشكل يجب أن يكون: إن القتيل ... مثل القتيل، وذلك لأن الدنف (وهو ذو الدنف أي المرض المزمن الملازم والمستعصي على الإبلال) إذا أردت أن تفديه بأن تقول له: ليت ما بك من عذابات وضنى سبّبه الشوق فيك بي لأغرته أي لغار منك لأنك ستحل محله وتسلبه (راحة) العذاب على يدي المعشوق، أي أن الدنف، عن طريق هذا السلوك التدميري للذات، يريد الوصول إلى أعلى أشكال الإخلاص المتفاني في حبّ حبيبه والذي يتمثل في الموت حبّا ؛ أي أنه – وهو المخضّب بدموعه – يبغي الوصول إلى مرحلة الفناء النهائي كالمخضّب بدمائه . وهذا ما يفرضه السياق الذي أراده الشامي كسند لزعمه كسفير للمتنبي، فانقلب السحر على الساحر وثبت أن كل القرائن تشير إلى أن المتنبي كان قد قال: إن القتيل .. مثل القتيل، عن سبق إصرار وترصّد ولم يكن، كما يقول الشامي، ضحية سوء تفسير أو خطل تأويل من رواة وشرّاح – من بينهم الشامي ذاته كما قال أبو الطيّب - عبثوا بشعره أو صحّفوه أو حرّفوه .

وهناك عامل آخر شديد التوكيد لما استنتجناه ويتمثل في (المناسبة) التي فرضت اشتغال المتنبي على القصيدة . فالقصيدة لم تأت أصلا ضمن موقف تأملي أو انفعالي فرضته صراعات دفينة شديدة الاحتقان في نفس الشاعر، أو كرد فعل على حدث خارجي مليء بالمعاني النفسية والوجودية العميقة، ولكن استجابة لمحفّز خارجي تمثّل في أن أبا الطيب قال هذه القصيدة امتثالا لأمر من سيف الدولة بإجازة أبياتٍ لـ (أبي ذر سهل بن محمد الكاتب) على هذا الوزن والروي وهي هذه:

 يا لائمي كفّ الملام عن الذي   أضناه طولُ سقامه وشقائهِ 

 إن كنت ناصحهُ فداوِ سقامهُ     وأعنهُ ملتمساً لأمر شفائهِ

 حتى يُقال بأنّك الخلّ الذي       يُرجى لشدّة دهرهِ ورخائهِ

 أو لا فدعهُ فما بهِ يكفيهِ من     طولِ الملامِ فلستَ من نصحائهِ

 نفسي الفداء لمنْ عصيتُ عواذلي    في حبّهِ لم أخشَ من رقبائهِ

 الشمسُ تطلعُ من أسرّة وجههِ        والبدرُ يطلعُ من خلالِ قبائهِ

وما معنى الإجازة في الشعر؟

معجميا يعني الفعل أجاز (الشاعر): استعمل في شعره الإجازة، والإجازة في الشعر: أن يزيد الشاعر على كلام غيره بعد فراغه منه . أي أن المتنبي استجابة لأمر من أميره سيف الدولة، كرّر ما قاله أبو سهل واستنفده، ثم برع في الإيغال في تجسيم صور شعرية أشد مضاء في النفس من صور الشاعر الذي أجازه – وبالمناسبة فقد كان هناك عدد كبير من قصائد المتنبي هي عبارة عن استجابات لطلبات من سيف الدولة يقوم أبو الطيب فيها بـ "إجازة" الشاعر المعني والإضافة عليه . لقد "أجاز" العشرات من الشعراء – وراجع شرح ديوان المتنبي للبرقوقي وابن جني والواحدي والمعرّي .. وغيرهم - . لكن ما يهمنا هنا هو أن أبيات أبي ذر الكاتب التي أجازها المتنبي بطلب من سيف الدولة كما ذكرنا، هي عبارة عن تفصيل للصورة التي كثّفها المتنبي في الأبيات الثلاثة – البيت الذي يسبق البيت المشكل والذي يستهل بـ " لا تعذل المشتاق ... "، والبيتان اللذان يعقبان البيت المشكل واللذان يبدآن بـ " والعشق كالمعشوق .... "، قام أبو الطيّب بتكثيفها بقدرته الشعرية الهائلة والمحكمة، وهي تصل إلى النتيجة نفسها: أن يصل العاشق بذاته المضحية إلى ذروة انهمامها وانشغالها بحب معشوقها حدّ الفناء، ورفضه النصح المحايد، الذي يجهض مشروعه في الفناء في ذات المحبوب، وإصراره المسبق والمبيّت على تدمير ذاته بحيث يرتفع بها كضحية ملطّخة بالدموع إلى مستوى الضحية الملطّخة بالدماء . وهنا يثبت بما لا يقبل اللبس والزعم أن رأي الشيخ التويجري في عتابه للمتنبي – وهو يقصّ أثره بصبر وأناة – ورفضه مساواة قتيل الدموع بقتيل الدماء، أكثر رسوخا وتدعيما من رأي السفير الشامي – الذي ستكون لنا معه، سفراء متطوّعين عن الشيخ التويجري لم يُشِر علينا بمهمتنا أحد، وقفة مقبلة مطوّلة حول موضوعة  " التوحيد "،  وقد اتضح أمامنا الآن أن السبب الرئيس الذي جعل الشامي ينبري للدفاع عن شاعره المفضّل والأثير، يتمثل في التماهي المفرط مع شخصية " بطله " الكبير . في حين أن الشيخ التويجري احتفظ بموقف مستقل فصل فيه ذاته عن شاعره المميّز الذي لاحقه أكثر من خمسين عاما ولكن من دون أن تذوب ذاته في ذات " محبوبه " كما حصل لدى السفير الأديب الشامي .   

 

حسين سرمك حسن

بغداد المحروسة

 

.........................

هوامش:

 (1) في كتاب الشيخ التويجري (رسائل خفت عليها من الضياع) – الدار العربية للعلوم ناشرون – بيروت – الطبعة الثانية – 2008 .

(2) المصدر نفسه – ص 351 .

(3) المصدر نفسه – ص 350 .

(4) في أثر المتنبي بين اليمامة والدهناء – عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري – الدار العربية للعلوم ناشرون – الطبعة الثالثة – 2008 .

(5) رسائل خفت عليها من الضياع – ص 350 .

(6) المصدر نفسه – ص 350 .

(7) المصدر نفسه – ص 350 .

(8) المصدر نفسه – ص 351 .

(9) المصدر نفسه – ص 352.

* يذكّرنا هذا – كما يقول الواحدي - بما قاله البحتري:

  إذا شئت أن لا تعذل الدهر عاشقاً    على كمدٍ من لوعة الحب فأعشقِ

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1243 الثلاثاء 01/12/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم