صحيفة المثقف

لمياء هي الافضل

MM80لم تكن المسافة طويلة مابين بيته ومبنى البلدية .. الا أن عمره الذي جاوز السبعين بسنتين ومفاصله المتآكلة تجعل المهمة صعبة يوما بعد يوم .. مبنى البلدية من الشواهد القليلة المتبقية على نشوء مدينته التي كانت يوما مليئة بالحدائق والزهور وتشي بذوق ساكنيها الذين كانوا لا يخرجون من بيوتهم إلا بملابس (الطلعة) .. هكذا كانوا يسمون الملابس المخصصة للخروج من المنزل.

كل يوم وبعد أن ينقضي من وقت العصر نصفه الأكبر كان يخلع بيجامته المخططة بخطوط رمادية عريضة ويلبس بدلته ويتأكد من إطفاء جميع أزرار الكهرباء والمصابيح باستثناء مصباح الفناء الخارجي الضروري لإضاءة الباحة الخارجية مما يسهل مهمة إيجاد ثقب القفل لكي يضع فيه المفتاح حين يعود بعد أذان المغرب...وقبل أن يخرج من الباب إلى الزقاق الضيق يلتفت إلى البيت بحركة فطرية يكررها يوميا ..يستدير بصعوبة بسبب ظهره المتصلب وقامته المنحنية ويتحسس جيوبه ليتأكد من وجود المفاتيح وينظر إلى شباك المطبخ دون أن يركز بصره صوب شيء معين...ويخرج.

الطريق إلى مبنى البلدية مليء بالدكاكين الحديثة...أصحابها من الغرباء الذين يتحدثون بصوت عال، ويرغّبون الزبائن بسلعهم بشكل مبتذل..يقطع الطريق من أمامهم دون أن ينظر إليهم، وحين يصل إلى مبنى البلدية يرفع رأسه ببطء نحو شبابيكها المقفلة ويقف لثواني أمام ذلك الباب القديم الذي يبدو بلا لون ويستدير بحذر ليجلس على المقعد الحجري تحت شجرة التوت العملاقة أمام المبنى ..في هذا الوقت من اليوم تبدأ أسراب العصافير بالعودة إلى مأواها في تلك الشبكة المعقدة من الأغصان التي تمثل منزلا كبيرا لها وتبدأ تلك الضجة اليومية ...زقزقات ألاف العصافير التي تأخذه بعيدا فيجلس بهدوء تام ليستمع إلى تلك المعزوفة اليومية وهو يرفع حاجبيه وينظر إلى الأرض على بعد متر واحد من أمامه. ذلك هو المكان الوحيد الذي يقصده ليقضي فيه بعض الوقت بعد أن انتهى به المطاف وحيدا في بيت صغير متهالك يقبع في أخر الزقاق المقابل للنهر والذي لايمثل له سوى سرير ينام عليه أخر النهار ولا يستطيع التعامل معه على انه منزلا...كان له منزلا جميلا كبيرا في حي راق..اضطر لبيعه ليشتري بثمنه بيتين لولديه واستأثر الثالث بحصته نقدا ليشتري سيارة.

الضوضاء العظيمة التي تحدثها عوائل العصافير تأخذه بعيدا وشيئا فشيئا تتحول إلى الضوضاء التي كان يحدثها التلاميذ في المدرسة الابتدائية التي كان يعمل فيها معلما للغة العربية قبل أن يتقاعد عن العمل. أصوات التلاميذ تشبه زقزقة العصافير ويخيّل له انه يسمع أصوات المعلمات وهن يحاولن تهدئة الأطفال أثناء الفرصة بين درس وأخر وقد يبقى مبتسما وهو يتخيل انه يسمع اصواتا بعينها لتلاميذ أصبحوا ألان رجالا.

تذكر انه بحاجة لان يشتري حنفية ماء جديدة ..الحنفية القديمة تسرب الماء قطرة قطرة في الحوض المتآكل محدثة نقرا مستمرا طوال الليل سبب له الأرق..نهض بصعوبة عن المقعد الحجري باتجاه السوق وكان يتذكر بائعا يفترش الأرض بمواد مستعملة يجلس قريبا من المكان..وفكر انه قد يجد عنده حنفية مستعملة صالحة ..في الطريق إلى البائع فكر انه قد يمر على بيت ابنه الأكبر ليصطحبه معه ويساعده في إصلاح الحنفية المعطوبة..غير رأيه بعد ثواني قليلة ..تذكر كيف إن زوجته تأففت ألف مرة على الغداء وهي تتبرم من مضايقة الحجاب الذي تضطر لارتدائه داخل بيتها بسبب وجود الأب. وحين قال لها (بنيتي أنا مثل والدك لا داع لارتداء الحجاب أمامي) لم تجبه ولا حتى بنظرة بل اكتفت بتلك النظرة التي تجيدها وتكررها مع أي حديث أو تصرف له..نظرة استنكار توجهها لابنه وهي تميل رأسها وترفع حاجبيها وتمط شفتيها باستهزاء واستهجان. ليس ذلك ما أثر فيه بل نظرة ابنه المتخاذلة التي تقول (استحملي الرجل الخرف من اجلي). أدرك البائع وهو يلملم أغراضه ويكومها بشكل عشوائي داخل كيس كبير ..طلب منه حنفية مستعملة ومازالت صالحه فأشار إلى كومة أمامه وقال دون أن يرفع رأسه..ابحث هنا..اخذ يقلب الأغراض يبطأ، وجد حنفية حالتها معقولة واختبرها بحرفية ..وسأله عن ثمنها..وبعد تفاوض قصير اخرج ثمنها وقبل أن يناوله للبائع نظر إلى دمية قديمة متسخة تمثل بنتا صغيرة ترفع يدها اليمنى وتشير بيدهااليسرى إلى الجانب وقد استغرب وجودها مع كومة من قطع الغيار القديمة..يده ممدودة بالنقود ونظره متسمر على الدمية ودون أن يدري وجد نفسه يسأل البائع عن ثمنها..رفع البائع رأسه هذه المرة بوجه شبه نائم وهمهم(خذها بلا ثمن).

أصلح الحنفية بصعوبة بالغة فيداه متصلبتان والبرد يزيد الأمر صعوبة..فالشتاء فصل قاس لكبار السن..اختبرها يبطأ وشعر بالرضا حين وجدها تعمل كما ينبغي..نهض يبطأ وتوجه نحو الممر كأنه يمشي على مسامير بسبب التهاب المفاصل المزمن وتناول الدمية من على الطاولة ووجد نفسه يغسلها بالماء والصابون وحين انتهى منها حملها بالمنشفة واخذ يجففها وهو يردد..(عوافي للحبابه..عوافي للحبابه)...في أخر حمل لزوجته قبل أن تفارق الحياة بسبب مرض المّ بها تمنيا أن يكون القادم بنتا..وطالما تحدثا عن البنت الحنونة التي ستلم كبرتهما ..اتفقا أن يطلقا عليها اسم(لمياء) ..ولكن كان القادم ولدا ..هو الأصغر ألان ..زاره قبل أسبوعين لدائرته ..وحين أحس بان الوقت لم يكن مناسبا غادر بعد دقائق..أحس بضيق في صدره وحزن كبير يجثم على قلبه حين تذكر أخر كلمات قالها الابن الأصغر على السلم الخارجي للدائرة وهو يودعه ( بابا...من تجيني مرة ثانية حاول أن تصبغ حذائك) ...كان حذاؤه قديما وربما لم يصبغه منذ فتره...فعلا كان منظره لا يتناسب مع البدلة...هكذا اخذ يبرر لولده في طريق العودة .

في السبعينيات من القرن العشرين...وحين كانوا صغارا كان يعلمهم فنون الحديث واللباقة وكان يقول لهم إن ذلك يسمى الدبلوماسية..فقد كان- وهو المعلم- يريد لهم أن يكونوا نجوما في المجتمع...والحق إن الدبلوماسية أكثر شيء برعوا فيه وهم يحاولون التهرب من استضافته بعد أن باع بيته ليكون لهم بيوتا خاصة بهم...كان قد اختار السكن مع ابنه الأوسط ليس لأنه أفضلهم، بل لان زوجته ابنة أخيه الوحيد وظن إنها الأفضل لاستضافته خاصة وقد كانت المفاوض الأعظم لاقناعه ببيع البيت والتي قطعت على نفسها وعودا بحجم الدنيا بأنها ستسكنه في عينيها...لم تستحمله سوى ثلاثة أشهر مثلت خلالها مئات الأدوار بحرفية عظيمة للإصابة بجميع أمراض الكون...فوجد نفسه يتغدى الخبز مع الشاي ولا يتعشى....وحين وشى له حفيده بسر الغداء السري الذي يجلبه ابنه من المطعم دخل في نوبة صمت وكـآبه انتهت بعد اجتماع الأبناء بأن يستأجروا له بيتا ليأخذ راحته وينعم بالهدوء!! لم يكونوا يجتمعون عنده إلا صباح أول أيام العيد..وكان واضحا إنهم يبادرونه بالزيارة كي لا يجد عذرا لزيارة احدهم باقي أيام العيد.

الشمس مازالت في بداية نزولها اليومي نحو خط الأفق ..والعصر في بدايته...تهيأ لرحلته اليومية نحو مبنى البلدية ارتدى بدلته الوحيدة وتوجه نحو باب المطبخ..عاد أدراجه إلى الداخل وحمل الدمية بحنان بالغ ووضعها في شباك المطبخ من الداخل لتشرف على الباحة الخارجية ..الشمس تزول نحو جهة المغيب لترمي بخيوطها الصفراء الغامقة على وجه الدمية لتحدث حركة في ملامحها كأنها تقطيبه ما..اقترب منها وداعبها بحنان بالغ وقد اقنع نفسه بأنها حزينة لمغادرته المنزل...لمس رأسها بلطف ووعدها بالحلوى عند عودته....في المساء كانت لمياء على مائدة العشاء البسيط ...يأكل معها ويحدثها بشتى المواضيع...بالأمس قص عليها حكاية حميد الخياط..صاحبه الذي وجد ميتا في بيته دون أن يعلم به احد..كان له أبناءا هاجروا خارج الوطن...واخذ منها وعدا بان لا تتركه يموت وحيدا.

في الصباح التالي كانت الشمس مشرقة بحب والدفء يلف البيت..وضع لمياء في شباك المطبخ من الخارج وهو يقول هيا حبيبتي لننظف الباحة الخارجية...الشمس في كبد السماء ترسل أشعتها القوية لتسقط على وجه لمياء فتحدث حركة كأنها ابتسامة...شعر بالمرح والحماس واخذ ينظف الباحة الخارجية وهو يمزح معها ويقص عليها الطرائف ليقهقه عاليا ويشعر بالحبور وهي تضحك لطرفاته .....قرر أن لا يخرج عصر هذا اليوم ..فاليوم ذكرى ميلاد حفيده لابنه الأصغر..وقد تعود أن يأتي الابن عصرا ليصطحبه إلى البيت ويجتمعون على مائدة العشاء باحتفال بسيط كل عام...وجد نفسه يجلس بقلق أمام لمياء وهي تطالعه بصمت...نظر إليها بحزم قائلا(هل تظنين انه سيأتي)....في العام المنصرم أصر حفيده على أن يطفئ الجد الشموع الاربعه..وحين أطفأها الجد بصعوبة نهضت الأم كالملدوغ وحملت معها الكعكة وهي تتمتم بكلام يوحي بالتبرم والقرف...ساد جو من الصمت ..وبعد قليل سمعها تقول بصوت عال لزوجها ( الم تر بصاق أبيك غطى الكعكة..كان يجب أن تمنعه من إطفاء الشموع).

كان وجهه محتقنا وهو يجلس قريبا من المدفأة ذلك المساء...بصره متسمر على وجه لمياء المضاء نصفه بضوء النار المتوهج من المدفأة....ابتسم لها بحنان وقال...لماذا تشيحين ببصرك عني..هل تظنين إنني حزين لأنه لم يات لاصطحابي؟؟ابتسم بحزن ..ونظر إلى الجدار حيث يضع صورة تجمع أبناءه الثلاثة بملابس المدرسة...أطال النظر فيها وبدأت الابتسامة تتحول إلى عصرة حزن وهو يقول بصوت خفيض...(لم أحس يوما إنهم بحاجة حتى لدعائي) ... لمياء تقف بصمت في شباك المطبخ تراقبه وهو يهم بالخروج في رحلته اليومية ...قطع المسافة مابين باب المطبخ والباب الخارجي ببطء شديد....واستدار كعادته وهو يتحسس جيوبه ونظر إلى شباك المطبخ وهو يركز نظره على وجه لمياء البريء الصامت...أحس بحنان شديد وافتر فمه عن ابتسامة بطعم البكاء ورفع رأسه إلى السماء وقال(ربي أحفظ لي لمياء...فهي أفضل ابنائي).

 

احمد فاضل فرهود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم