صحيفة المثقف

أصابع وملامس .. قراءة للوحة الألم للفنان ابراهيم رمضان الملي

wejdan alkashabيعمل الفن في واحدة من وظائفه على إعادة تشكيل الذات الإنسانية، وإخراج المعاناة الكامنة في أعماقها لتحويلها إلى حالة مواجهة صريحة وفاعلة، لتحرير هذه النفس من آلامها، وإخراج هذه الهموم من مكامنها المعتمة ووضعها في حيِّز ضوء النهار، فتتخطى ـ بهذا الاخراج ـ روح الفنان وذاكرته معاناتها، بل أنَّه يعمل كذلك باتجاه تفعيل مشاركة المتلقي للفنان في آلامه ومعاناته مشاركة وجدانية يعمل الفن بأشكاله المتنوعة على ايجادها، وهذا ما سنحاول الكشف عنه في تحليلنا للوحة الفنان ابراهيم رمضان الملي التي اسميتها {الألم}.

لنقف أولاً عند تعريف الملمس الذي سنوليه اهتماماً خاصاً في التحليل، حيث حاول بعض الباحثين تحديده بقولهم {تعبير يدلُّ على الخصائص السطحية للمواد، ويتشكَّل من خلال ترتيب جزئياته ونُظم إنشائها في نسقٍ تتضح من خلاله السمات العامة للسطوح، وما ينتج عنها من قيم ملمسية متنوعة، وهذه الخاصية نتعرَّف عليها من خلال الجهاز البصري} وكذلك عن طريق ادراك العقل لهذه القيم، فأصبح للخامات وملامسها في حدِّ ذاتها متعة جمالية تنضاف إلى متعة تلقي اللوحة.

تشير الطروحات التي تناولت اعتماد ملامس السطوح في انتاج اللوحات الفنية إلى أنّها تختلف من ناحيتين :

1. من حيثُ الدرجة: حيث تعتمد على التضادات: صُلبة– لينة، خفيفة – ثقيلة، ناعمة – خشنة، كما أنَّها قد تكون منتظمة أو غير منتظمة.

2. من حيثُ النوع : فتكون إمَا ملامس حقيقية {طبيعية أو صناعية}، حيث يعمل الفنان على إضافة عناصر نباتية أو حيوانية أو مواد جامدة على سطح اللوحة، مثلاً : الخشب والزجاج والقماش، والمواد المعدنية، وأجزاء الشجر، والفرو وغيره.

وللفنان حريته الكاملة في اعتماد هذه الملامس التي تتحقق باستعمال تقنيات مختلفة مثل : الحفر، والعجائن اللونية، وتقنية التوليف، وتقنية البصمة.

أو ملامس ايهامية يمكن ادراكها بحاسة البصر دون اللمس، وغالباً ما يكون نقلاً عن ملامس حقيقية مثل ملمس الخشب أو الزجاج أو غيره. ويمكن للفنّان تحقيق هذه الملامس عن طريق التقنيات والمعالجات التشكيلية على سطح اللوحة ذات البعدين باعتماد النقطة والخط والمساحة.

تشكِّل الطبيعة مصدر الايحاء الأساس للفنان فأينما اتجه بنظره ستثيره المخلوقات الحيّة التي تشكّل ثروة من الأشكال المختلفة في ملامسها السطحية، ففي الحيوانات مثلاً سيجد ملمس كل من التمساح والأسماك والفراء والصوف والريش مختلفة عن بعضها، وملمس السمكة يختلف عن ملمس القواقع والشعب المرجانية، وفي النباتات سيرى الأشجار والأوراق والأثمار تختلف ملامسها عن بعضها، والملابس المصنوعة من الحرير يختلف ملمسها عن الملابس المصنوعة من الصوف مثلاً، وكلُّها تمثِّل مصادر إلهام للفنّان، كما تشكل الجمادات عناصر مضافة لما سبق لما لها من ملامس متمايزة فالصخور الصقيلة ذات الحافات الحادة تختلف في ملمسها عن الحصى الصقيل أو الحجر الخشن، ويختلف أيضاً ملمس سلك معدني عن ملمس قطعة من الزجاج، ولهذا يعمد الفنان إلى إعادة اكتشاف البيئة حوله، فقد يجد مطلبه في كومة نفايات أو ربَّما في بعض الموجودات البيتية أو ما تخلِّفه الصناعيات أو ما يجود به مرسمه فيعمد إلى توظيف هذه المعطيات في لوحاته، وهذا بالتالي يمنحه أُنموذجات جديدة من خلال خاصية التوليف، وتضيف أيضاً رؤية وملامس جديدة تعين تجربته الفنية، وتثير متلقي لوحاته بتقنياتها المتنوعة.

2110 ibrahem

 

سأُحاول قراءة لوحة الفنان ابراهيم حيث يكشف المسح البصري لها عن تقسيمها إلى قسمين متساويين يفصل بينهما غصن شجرة متخشب يمثِّل ملمساً حقيقياً، في النصف الأول اشتغل الفنان باتجاه ابراز القيمة الإنسانية لهذه اللوحة، فرسم شكلاً انسانياً في وسط هذا الجزء تماماً ولكنَّه اعتمد التشويه في رسمه وفي قيمه الملمسية، فلم يظهر منه إلاَّ الشكل الخارجي بدون تفاصيل تكوينية طبيعية واضحة، فالرأس يفتقد مكوناته الإنسانية، والوجه يخلو من تفاصيله ومع ذلك حظي الرأس باهتمام مركَّز من قِبل الفنان، فبدا ملفوفاً بما يشبه الغلالة، وبدلاً من العينين والأنف كانت هناك شبه مربعات بطبيعتها الأُفقية والعمودية تتموضع باللون البرتقالي لتحيل المتلقي إلى رؤية أُخرى للمربع، فهو شكل مستقر بأبعاده، ولكنَّ استقراره هنا مشوب بضربات فرشاة تُشوِّه هذه المربعات فينعدم استقرارها، وهنا لا بُدَّ لنا من تأشير رغبة الفنان في موضعة هذه المربعات في الرأس، هذه الرغبة الواعية في ايجاد اقتران بين الشكل القّار للمربع واستقرارية القيم الثابتة في الذاكرة الإنسانية، ولكنَّ التشويه المتمعد للشكل , واضفاء الخشونة على ملمسه منح اللوحة فرصة اظهار التخبط القيمي الذي يعانيه إنسان اللوحة، كما أنَّ العينين هما وسيلة الرؤية فإخفائهما دالة مضافة على الضياع.

وتبدو اليد اليسرى ضائعة الملامح، كما أنَّ الرجل اليسرى أوضح ملامحاً إلاَّ أنَّها بلا قدم، وتكاد اليد الأُخرى تثبت حضورها ولكن دون كفِّ، وتمتد بعيداً عن الجسد، رغم أنَّها متصلة به مما يؤشِّر فكرة الفنان في حرمان هذه اليد من مؤشر وجودها، بل أنَّها تمتدُّ لتضيع في فوضى لونية تتموضع فوقها وحواليها، كما تضيع الرجل اليمنى في غمرة الأشكال المتراكبة والخشنة الملمس، إنَّ الفنان حين عمد إلى تضييع تفاصيل القدمين والكفّين إنَّما كان يؤشِّر ضياعاً انسانياً، فالإنسان المرسوم في لوحة {الألم} هو أي إنسان يعيش معاناة وجودية وضياعاً حياتياً، فهو بلا قدمين تثبتان وجوده، وبلا كفّين تنتج وتبدع، وهذا ما أراد الفنان اعلانه حين اعتمد اللون الأسود المشوب بالرمادي ليغطي مساحة الجسد.

أمَّا التركيب الملمسي للجسد فيتشكل من ملمس ايهامي يمكن رؤيته بحاسة البصر حيث اعتمد الفنان توزيعه على الجسد من خلال تحوِّل اللون من الأسود إلى الرمادي، وإضافة ضربات فرشة بألوان متعددة تجتاح الجسد وكأنَّها تيارات تنهشه، وتُضيّع معالمه وثوابته، ولم يجد الفنان اكتفاءً فنياً في هذا التركيب فأضاف الى الجسد ملمساً متعدد الأسطح باستعماله ملمساً حقيقياً نجده في استعمال سدادة الأنابيب حيث لصقها في موضع القلب، ومن المعروف أنَّ هذه السدادة توقف نضح الماء من الأنبوب في الواقع المُعاش، إلاَّ أنَّ الفنان حوَّلها إلى فاتحة لتنضح الدم من القلب مباشرة إلى خارج الجسد، وهي بشكلها وملمسها الخشن وغير المنتظم إنَّما تؤشِّر تأثير الأشياء الخارجة عن الجسد والمتداخلة فيه لتعلن عن الألم المضاف إلى هذا الجسد، وهذا يؤكده كون الدماء السائلة من القلب إلى الفاتحة إلى خارج الجسد لونها أحمر نقي، وأصبحت هلامية القوام للدلالة على أنَّ القلب هو الآخر تحوَّل من حالته المتماسكة إلى ما يشبه أشلاءً تخرج من الجسد مع الدماء التي تسيل بمسارين، الأول عمودي منسكب، والثاني أُفقي يمتد في سيلانه في الجزء الأسفل من اللوحة حتى يقطع نصفها الثاني أيضا.

ويجاور موضع القلب والسدادة جزء صغير من شجرة أفاد الفنان من شكلها لتوظيفها في اللوحة فبدت أشبه ببقايا القلب الممزق وأوردته وشرايينه الناتئة هي الأُخرى خارج الجسد.

إلى يسار الجسد تمتدُّ سكّة قطار تنحني صاعدة من الزاوية السُفلى إلى ما يقارب منتصف اللوحة في جزئها الأيسر، ولكنَّها ليست سكة واضحة الملامح بل عمد الفنان إلى تشويه مسارها بتداخلات من الألوان المتأرجحة بين الأصفر المغبر ولمسات من البرتقالي في بداياتها لتميل إلى اللون الأخضر القاتم من جزئها الوسطي إلى أعلاها، وعمد الفنان إلى كسر ايقاعها الصاعد وتشويه معالمها بضربات لونية متداخلة ليؤكد ضياع مسارها، كما أنَّه عمد إلى تضييع معالم بداياتها بكتلة هلامية من الصبغة اللونية ليظهر ملمسها المتعدد الأوجه والخشن أيضاً معتمداً اللونين الأبيض المشوب بالأصفر والأصفر التبني في بروزاتها، فيما كان اللون الرمادي المائل للأسود محدداً لبُعدها الثالث، وهذا الملمس الخشن إنَّما يحيل في دلالته إلى عرقلة المسار أمام الإنسان في محاولته للصعود والابتعاد، وتكاد السكة تنتهي قرب نفق أسود بلا ملامح، فلا تدخله بل تكاد تحاذيه، مما يؤشر ضياع المسار.

وفي يمين الشكل الإنساني اعتمد الفنان لصق شكل دائري هو جزء من أُنبوب بلاستيكي متهرئ من مخلّفات الأشياء المستعملة في الواقع المُعاش، ليتحوّل عبر لصقه على سطح اللوحة وملئه بعجينة لونية ذات قوام هلامي إلى ما يشبه الإناء الذي ينضح منه هلام يتوزع بين اللونين الأزرق والأبيض، أمّا ملمسه فهو أقرب إلى الخشونة وتعدد الأسطح، إذاً الموجودات الحياتية الجامدة هي الأُخرى تنضح بالخشونة، إلاّ أنَّها تحمل علامة وجود ايجابي بنضحها الماء، وايجابيته تكمن في أنَّ الفنان منحه علامة لونية هي الأبيض والأزرق مما يؤكد وجود ماء نقي يغذي ويعين على الاستمرار.

ويكتمل المشهد بما يحيط بالأنبوب من اضافات على اللوحة متمثلة بقطع صغيرة من الحجر والحصى مغلفة بطبقة من الصبغة الهلامية الخشنة، معتمدة اللون الأصفر الداكن في سطوحها، ومجموعة ألوان متدرجة ومتضادة في ثنياتها.

إنَّ اعتماد الفنان تقسيم اللوحة بشكل عمودي إلى نصفين إنَّما جاء نتيجة وعي ووضوح في الرؤية، حيث أكَّد هذا التقسيم باستعماله قطعة من غصن شجرة، وهذه اشارة تحيل إلى رؤية الفنان الفلسفية، فالشجرة تقع في منتصف الطريق بين الإنسان الكامن في الجزء الأول من اللوحة وبين همومه المتراكمة في جزئها الثاني، إذاً الطبيعة تؤدي دورين متضادين هنا فهي تفصل وتجمع في آنٍ واحد، تفصل لأنًّها عمودية التواجد في اللوحة فبدت وكأنَّها حاجز، وتجمع لأنَّ الإنسان يتعايش معها وهي غالباً مصدر إلهامه وإبداعه، لكنَّ الفنان لم يلصق الغصن كما هو في وجوده العياني بل منح الفرشة فرصة المرور المتكرر عليه، ليظهر بألوان تتراوح ما بين الأصفر والبني الداكن، وهي ألوانه الطبيعية إلا أنَّ الملمس الخشن أضاف إلى شكله تأكيداً حيث لصق الفنان قطعاً صغيرة متباينة الأحجام والأشكال عليه، إضافة إلى كونه مثقلاً في جزئه الأسفل بما تراكم عليه من اضافات هلامية القوام وملصقات متعددة الأسطح شكَّلت معادلاً سلبياً لشكله الطبيعي، فلا وجود لأي ورقة نباتية {سواء حقيقية أو ايهامية} عليه.

الطبيعة بوجودها الحر والمتنوع تُعدُّ عنصراً من عناصر إثراء الفنان، وتفعيل عينيه بما تمتلكه من تغيرات وتبدلات إلاَّ أنَّ الفنان هنا عمد إلى تضييع معالمها، فلا يكاد المتلقي يتأكد من كونه غصناً طبيعياً إلاَّ برؤية الكسر في أعلاه، وهذا الكسر المتعمد هو فصل وانقطاع للغصن عن أصله الشجري والاستمرار الحياتي، وفي الوقت ذاته هو كشف لجوهره النقي الجميل الذي لم تلمسه فرشاة الفنان.

لنحاول الآن مقاربة الجزء الثاني من اللوحة، حيث يكاد الملمس يطغى عليه، متمثلاً في الملصقات المنوّعة التي تتوزع على سطح اللوحة تؤازرها الألوان، والملصقات هنا أوراق كتابة لكنّها محروقة الأطراف، وقطع من قماش خشن معجون بالأصباغ، إضافة إلى خليط من الأصباغ هلامية القوام ومتعددة الأسطح، وبعض أجزاء صغيرة من أغصان أشجار، تنفرش كلّها على سطح هذا الجزء من اللوحة لتمنح متلقيها شعوراً بالخشونة والقسوة والتداخل الذي بدا وكأنَّه يُضيَّع معالم هذه الملصقات، والفنان هنا أراد أن يؤكد لمتلقيه قتامة المشهد باعتماده الألوان الداكنة مع قليل من الألوان الفاتحة للسطوح المتعددة، ولكنَّه أيضاً منح هذا الجزء وجوداً إنسانياً وإن بدا مُشوَّهاً، فأصبح رأس الرجل أقلُّ وضوحاً بسبب التراكم اللوني، وإلى جانبه شكل جسد أصغر مما يشير إلى كون هذا الشكل لامرأة تصرخ، لكنَّها تمدُّ يدها إلى غصن الشجرة وكأنَّها تستمد منه العون لتحقق الاستمرار الوجودي، وفي أقصى الزاوية اليسرى بدا جسد إنساني آخر متحجراً لكنَّه موجود رغم التحجر الذي يكتنفه، فأصبح هذا الجزء من اللوحة مكملاً للآخر، ولكنَّه مفعم بالألم والمعاناة وتداخل المكونات، وضياع وجودها الأصيل، إنَّ تعمُّد الفنان ادخال الأشكال الإنسانية في هذا الجزء من اللوحة أظهرت رغبته في أن يكون مساحة تكرِّس دلالات الألم عبر الملمس الخشن والألوان الداكنة.

في الثلث الأعلى من سطح اللوحة حاول الفنان معادلة قتامة الثلثين الأوسط والأسفل فاعتمد ألواناً فاتحة شغلت هذا الثلث الذي اتخذ من شكل الطبيعة وجوداً له، لكنَّ الطبيعة هنا فشلت في فرض ألوانها على الفنان لأنَّه اختار لها ألوانه هو، فاستعمل الألوان الأساسية {الأصفر والأحمر والأزرق} والثانوية ومشتقاتها بتدرجات وتداخلات، ولكنَّها مغبرة الوجود وبعيدة عن التشبع، وهذا يؤشر بالتالي فوضى لونية تحمل قصديَّتها معها، لأنَّ دلالتها هي ابراز ضياع الأشكال الأصيلة والواضحة للطبيعة أيضاً، ولكنَّ الفنان هنا عمد إلى اللون الأزرق الذي تخلل أشكال الطبيعة المفروشة في هذا الجزء ليمنح اللوحة بُعداً جمالياً، فهو لون السماء المشرقة التي تمنح الأمل والحياة في ظل قيم سماوية عُليا، ويقابلها في الجزء الأسفل من اللوحة اشعاعة ثانية للأمل تكمن في مسار اللون الأحمر الدموي، فهو يختلط مع الماء الخارج من الانبوب، ويسير بوجود متعثر إلاَّ أنَّه مع ذلك يصل إلى أرض صغيرة لكنَّها خضراء، فيسقيها، ثمَّ يكمل مساره صاعداً إلى نسغ الشجرة البادئة بالنمو والارتفاع إلى أعلى .

تميزت هذه اللوحة بخشونة الملامس حيث عمد الفنان إلى استعمال خليط من الأصباغ لتكون هلامية الملمس، وشكَّلت الملصقات عاملاً مُضافاً لهذه الخشونة، فأصبحت من وجهة نظر الفنان أُنموذجاً آخر للضياع والألم والمعاناة، واللوحة هذه إنَّما تمثل محاولة لإعادة صياغة الواقع العياني المعاش والمؤلم تكثيفاً لمرارته وكشفاً لما يتسبب به من آلام عبر ملامس خشنة فرضت وجودها على سطح اللوحة، ولكنَّ الأمل يظل موجوداً.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم