صحيفة المثقف

هرمونات التخييل في ديوان: وشم بالشوكولا للشاعرة أمينة الصيباري

تقديم: يتضمن هذا الديوان لفيفا من النصوص الشعرية، إضافة غلى استهلال "عتبة القول" والذي ينجز وظيفته التمهيدية لجغرافية القصائد وإحداثياتها. ومن بين المعالم التي تنطلق منها هذه العتبة: معلم الإحساس والذي يتنوع إلى كيفيات: كيف تحس الشاعرة بالعالم؟ وإلى نوعيات: ما هي أنواع الأحاسيس التي تشخصها الشاعرة من خلال تعبيراتها المجازية؟

إن الإحساس بالوجود تذوق له؛ فقد تحس بحلاوته أو بمرارته أو ببرودته أو بسخونته .. كما قد تحس بألوانه أو بقساوته أو بعذوبته .. وذلك استنادا إلى طبيعة تفاعل الذات الشاعرة بعناصر الوجود وأشيائه، وبعلاقاته وعناصره، وبمتخيله وواقعه ..

لقد بَأّر هذا الاستهلال بعض العلامات الدالة مثل: رائحة الأرض، المرارة، السكر، الشوكولا، قارورة العطر .. إن هذه العلامات تحمل آثارا دلالية تؤول إلى محتد الإحساس كمنطلق للكتابة الشعرية في هذا العمل، وكأفق للتفاعل عند القارئ مع عوالم الديوان .

إن النصوص تعبر عن نوعية المذاق أو الطَعْم الذي تم تصويره أو تمثيله شعريا: فبأس إحساس انكتبت النصوص؟ وبأي نكهة تتذوق الشاعرة الوجود؟ وأي اشتهاء خلقته عند القارئ؟

 

من العنوان إلى النص:

يشكل العنوان جزءا أساسيا من بنية النص الكبرى. ينجز وظائفه بالفصل والوصل، فهو يصل القارئ بالنص وعوالمه عبر الإغراء والفتنة وركوب مغامرة القراءة. كما أنه يفصل النص عن غيره من النصوص والآثار الفنية من خلال تسميته وتصنيفه. إن العنوان طُعْم وطَعْم، فهو طعم (بالضم) وضع بقصد الغواية والإغراء وللإيقاع بالقارئ في أحابيل المعنى ووهج الدلالة. كما أنه طعم ( بالفتح) من خلال تأثيره فيه وتذوقه له يخلق لديه طعما وذوقا خاصا. ربما يكون بداية لتذوق باقي النكهات /النصوص الأخرى.

 

يتركب عنوان الديوان من مكونين:

وشم: أو وسم وهو العلامة أو ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة التي تحشوها بالنؤور وهو دخان الشحم . ومن بين دلالات هذا العنصر: الظهور أو البروز: أوشمت المرأة بدأ ثديها ينتأ . وكذلك النظر: وشم في الأمر نظر ويعني أيضا: الكلمة حيث قال علي ابن أبي طالب: ما كتمت وشمة أي كلمة حكاها .. إن الوشم طيف من الدلالات فهو كتابة أو رسم على الجسد أو غيره وهو الكلام أو الخطاب، كما أنه التأمل والنظر دون أن نغفل علاقته بالأنثوي وعالم المرأة والطبيعة .. فهل هذه المدارات الدلالية هي ما تتأسس عليه جغرافية المعنى في قصائد الديوان؟

شوكولا: مادة غذائية صلبة مصنوعة من الكاكاو. له صيغته الكيميائية المميزة له كباقي المواد الغذائية، ويتنوع إلى شوكولا سوداء أو بيضاء أو بالسكر أو بالحليب .. كما أنه مادة لا تتحمل درجة حرارة مرتفعة ويتطلب أن يظل بعيدا عن الروائح التي تفسد طبيعته وخصوصيته. وهو يقترن بمعان ودلالات تولدها سياقات الاستعمال أو مقامات التوظيف: يقترن الشوكولا بالخصوبة وبالمناسبات والاحتفالات، كما أنه يوحي بالترف والبذخ وبالمتعة واللذة، إضافة إلى الاستغفال والاستغلال ...فما هي الآثار التي يجذرها هذا المكون في المنجز الشعري؟

يفيد التركيب الذي طبع العنوان هنا (وشم بالشوكولا) أن الشوكولا مادة أساسية في عملية الوشم وانطلاقا من تضايف دلالات مكوني العنوان يمكن لنا أن نفترض بعض الاحتمالات أو التوقعات التالية:

- الكتابة الشعرية في الديوان وشم بالشوكولا .

- الشوكولا إحالة على الذوق والطعم المميز: المالح والحلو والمر ..

- الوشم بالشوكولا رؤية للوجود والحياة، لكنها رؤية وتأمل تحمل في ذاتها التناقض والتكامل:

- التناقض: الوشم يقترن بالدوام والخلود، بينما الشوكولا فبالذوبان والمحو .

- التكامل: الوشم علامة خالدة والشوكولا طعم خالد بدوره -

الوشم والشوكولا يحيلان معا على الأنثوي كمجموعة من القيم والخصائص التي تميز المرأة كأنثى في الوجود الإنساني وكطرف محوري في العلاقات الإنسانية ...

الوشم بالشوكولا كتابة شعرية تتخذ شكل أكلات أو حلويات أعدت لمناسبات ولضيوف، لكنها أكلات بالمجاز وبالتمثيل والتخييل .

 

هرمونات التخييل عند الشاعرة: القهوة – الشوكولا – العطر

يكشف القارئ لنصوص الديوان أن الشاعرة تعرض تشكيلة من الأطعمة أو أنواعا من الوجبات، حيث كل طعام أو وجبة تحمل في تركيبته طعما (بالفتح) خاصا أو ذوقا مميزا . والذات الشاعرة إنما تهدف من ذلك إلى تقديم تجربتها في صناعة وجبة شعرية بطعم الشوكولا. فهل هي مارة أ حلوة؟ هل هي مالحة أم بون ملح؟ وبالتالي فبأي نكهة أعدت لنا الشاعرة ذلك؟

يكشف نص " نزيف " 1 عن رؤية الشاعرة للكتابة الشعرية، واعترافها بقهر الفعل الشعري . إنه نزيف من الأحاسيس وسيل من المشاعر وفيض من الأفكار . إن القصيدة بالنسبة للشاعرة مولود يولد بمعاناة وألم، ولا يأتي إلى الوجود حبا وطواعية . ورغم حدة المعاناة فهو مولود مليء بأحاسيس تتراوح بين المتعة والألم، بين السعادة والشقاء، بين الراحة والتعب، بين اليأس والأمل، والشاعرة في هذا تشبه الخزفي الذي يشتغل على مادة الطين، والحلواني الذي يشتغل على مادة العجين والرسام الذي يشتغل على مادة اللون .. جميعهم يبحثون عن شكل أو قالب ليضعوا فيه المعنى .. ولعل الطريقة التي اعتمدتها الشاعرة، أنها أعدت لنا تشكيلات شعرية تشبه الأطعمة أو الأكلات أو الحلويات بنكهات مختلة وبقوالب متباينة ..

 

النكهة المزدوجة: الحلاوة / المرارة:

يبنى النص الشعري عبر آلية المجاز والتمثيل أو التخييل الذي يفيد الإمكان والاحتمال، ويحقق الإمتاع والافتنان . ويدرك القارئ لنصوص الديوان أن كثيرا من مقاطعه كان الطّعْم أو المذاق أساسه وأفقه:

في قصيدة " تيه " 2 تنظر الشاعرة إلى كون القهوة: ليل صغير في الفنجان ... وكأنها اختزلت الليل بحجمه وكثافته في فنجان، وبالتالي عندما نشرب أو نحتسي من الفنجان فنحن نرشف الليل الذي تحول إلى مشروب، قد يكون بنكهة القهوة أو غيرها من المشروبات الأخرى التي يكون الفنجان إطارا لها . وفي نفس القصيدة تقول الشاعرة:

الشوكولا العاشقة السمراء،

بها تكتمل نكهة الحب،

فالشوكولا غذت عاشقة ومتيمة، وحضورها تكملة لنكهة الحب، مما يفيد أنها تندرج ضمن طقوس العشق، وكأن الشاعرة بهذا التصوير تجعل الحب أكلة أو وجبة أو طعاما يقدم لضيف عزيز، بنكهة راقية وبمذاق باذخ، تقديرا واعتبارا له . الشوكولا عنصر أساسي في صنع نكهة الحب من خلال حضورها هدية أو مادة، فتبقى ذكرى ورمزا يؤرخ للحظة ويحفظها من المحو .

وفي قصيدة " حروف الشوق " 3 تستهل الشاعرة قصيدتها ب:

بيني وبين الصباح وعد فنجان

هل ستأتي به القهوة

أم قطعة السكر؟

فالقهوة وسيط بين الذات وحلمها أو أملها، حيث يصور المقطع طقسا يوميا تزاوله الذات، فبينها وبين كل صباح وعد، والوعد يتطلب الوفاء، فهي تنتظر الآتي وترجو أن يحمله إليها الصباح تقديرا أو تحقيقا، ولو تعذر الحقيقي اكتفت بالخيالي والحلمي، والسؤال يدل على وضعية الحيرة والانتظار . القهوة بنكهتها وطعمها وطقوس شرابها تحمل في ذلك أسرارا وتحتفظ بذكريات وتختزن ضمن متخيلها زمنا ولحظات، تحتفظ بمن كنا نحب ومن كنا نكره، بمن يفي بوعده ومن كان رفيق الخيانة ....

وفي قصيدة " هدي " 4 تستمر القهوة كمشروب في الحضور، وكطقس يومي يشهد على كرنفال الأحاسيس والمشاعر، يبشر بميلاد الفرح وينذر بعواصف عاطفية، تقول الشاعرة:

روت لي حبات الرمان

قصتي وأنا أرشف القهوة ...

وفي سياق ميلاد المشاعر وموتها، حضورها وغيابها، انبعاثها وموتها، تكون القهوة أكثر الشهود على ذلك . ولتقوية شهادتها وإبعادها عن الكذب تستعين بالورد والعطر حيث هما من أكثر الأشياء حضورا ورمزية في صناعة مشاعر الحب وصيانتها من التلف والفتور، كما انهما من أكثر الآثار التي تحفظ ذكريات الحب وتوثق لحظات العشق لقاء أو فراقا . بداية أو نهاية:

لم تهدني وردة ولا عطرا ...

وتتأكد هذه القيمة للعطر عندما تقول:

ويمحو غفران أسرك العطر ....

فربما من سلبيات تجربة العشق أسر المعشوق لعاشقه، ويتضاعف الأسر من خلال الأشياء التي كان لها حضور قوي في تلك التجربة مثل العطر والورد والكلام ...أي كل ما من شأنه أن يقوي العلاقة ويؤرخها . وبعد الانفصال قد يتحرر العاشق من أسر معشوقه، لكنه يستمر أسيرا له من خلال هذه الأشياء والذكريات .

و ارتباطا بطقس القهوة، تستمر الشاعرة في بناء تمثلات وعوالم خيالية، يكون للقهوة تأثير قوي في بنائها . جاء في قصيدة " صدى ": 5

الصباح شمس في فنجان

رشفات النور تشعل خيال المرارة

تروي قصة الشمس والسكر ...

فالصباح شمس بديل عن القهوة أو العكس، فهما متشاكلان أطلقت الشاعرة لفظ أحدهما على الآخر لكثرة اشتراكهما، فشرب القهوة بداية كل شروق رفقة شمسه يبعث صورا ويحيي ذكريات نكهتها المرارة، ويفتح نافذة المآسي ويكتب حكاية التناقض أو التنافر بين مذاقي الحلاوة والمرارة .

و في قصيدة " بوح " 6 تتابع الشاعرة بناء متخيل المرارة والحلاوة من خلال إيحاءات وترميزات الحلو والمر:

في قعر الفنجان

سكر تفتت

من فرط الحلاوة

قهوة مرة

مرة كأنها عصارة حزن ...

لقد أصبح الفنجان وطقوس القهوة صباحا أو مساء، في البيت أو المقهى، علامة مميزة لوضعيات مفارقة تعيشها الذات، تنصت إلى أفكارها وتهمس إلى أحلامها . إنه طقس من المشاعر والعواطف، مسرح من الذكريات والوقائع، وليمة من النكهات والأذواق، فحسب حالة الذات النفسية والوجدانية تشرب قهوتها بإحساس المر أو الحلو .

و يتسع مدار الحلاوة في الديوان، من خلال مصادرها، أو عبر موادها مثل ما جاء في المقطع التالي 7:

مشمشة خجولة

يعبرها الدود طولا وعرضا

بهدوء المنتصرين

يرتع في الرحيق

و ينتشي بالعسل

بعض الحلاوة لعنة ....

فالمشمش فاكهة موحية بالحلاوة، لكن في نفس الوقت موحية بالفساد، ويتجلى ذلك عندما صورت الشاعرة الدود كجيش يعبر هذه المشمشة بهدوء المنتصرين، راتعا في الرحيق منتشيا بالعسل . لكن لم يعلم أن في ذلك حتفه وهزيمته، وبهذا تتضح العلاقة بين الحلاوة والمرارة: الانتصار حلاوة والانهزام مرارة . الطراوة والطزاجة حلاوة والفساد والتعفن مرارة .

و في قصيدة " كينونة الروح " 8 تتابع الشاعرة الاحتفاء برمزية القهوة قائلة:

القهوة لا تنتظر أحدا

يخبر عنها الدخان

تشيعها الرائحة

إذا لم ترشف ساخنة

يجفل فيها المعنى ...

القهوة تفرض ذاتها، وتخبر عن وجودها، من خلال الدخان المنبعث منها أن خلال رائحتها، والإحساس بها أو الاستمتاع برشفها استجابة لندائها وقراءة لرسائلها وتمثل لوحيها . إنها رسالة مليئة بالمعاني وقلم من يفك شفراتها فينتحر فيها المعنى وتختنق فيها الدلالة إذا لم نكن في الموعد معها .

و في قصيدة:" كفر ماكر "9، تخالف القهوة موعدها مع الذات من خلال تمثيل مظهر من مظاهر الكفر أو القلب، تقول الشاعرة:

و تمكرني قهوة عينيك

تهرق فينتشي الفنجان ....

فالمرارة كناية عن الخيانة، واستعارة للمكر، يصدران من عين المرء، وخاصة من عين المحبوب أو المعشوق، فيلجأ العاشق إلى الفنجان بقلبه وهرق ما فيه من قهوة لقراءة ما كتب في الغيب ولمعرفة سر الكفر والنكران ...

و في قصيدة " مراودة "10   تتابع الشاعرة تمثلات المرارة:

أعلم فقط أني أعشق

ملوحة البحر من شفتيك

و أسكب من عينيك

فنجان قهوة الصباح ....

تكتفي الشاعرة بالاعتراف بعشقها وتقتصر على ذلك فقط، وكأنها في طقس البوح والمراجعة مع الذات . فهي تراود نفسها على الاعتراف والاكتفاء بالعشق فقط، وبما يكفيها من معشوقها .

وفي قصيدة " وشم بالشوكولا " 11 تتابع الشاعرة تمثيل بعض تفاصيل طقسها الأثير:

سأعد للصباح قهوة أخرى

وللقهوة نكهة أخرى

وللنكهة دهشة أخرى ...

إنها تعلن تحولها عما كانت تقوم به سابقا، تتطهر من ذنوب ماض ولى وانقضى، وتبدأ حياة جديدة بطقس جديد .

من خلال هذا المقطع وغيره ن يكتشف القارئ للديوان ارتهان الشاعرة إلى الصباح كيوم تال موال، رمز لبداية جديدة ...لكن لما كان هذا الصباح لا يحمل جديدا ومتعب في انتظاره تحول إلى لحظة للمحنة والابتلاء، فكان الخروج والعصيان محاولة لرأب تصدعات الذات وإعادة التوازن بعد اختلالات كثيرة، وخاصة ما يتعرض له الوجدان من هزات تكاد تقض أساسه وتجعل الهشاشة صفته .

على سبيل الختم:

لقد تشكل متخيل الحلاوة / المرارة من خلال ترميزاته، ولا سيما ما يحيل عليهما أو يوحي بهما تحقيقا أو تقديرا . حقيقة أو مجازا. وقد شكلت القهوة أهم رمز استحضرت من خلاله الشاعرة الإحساس بالمرارة، كما نوعت في تلك التمثلات من خلال استحضار ذكريات أو تجارب كانت ذات بصمة واضحة في تركيب وبناء متخيل الديوان ككل . ومن جهة ثانية شكلت الشوكولا أهم رمز أو كثفت من خلاله الشاعرة أيضا دلالة الحلاوة، بالإضافة إلى بعض العناصر التي تقترن بالحلاوة في التجربة الإنسانية مثل: السكر والتفاح والمشمش والرمان ...

من جهة ثانية حاولت الشاعرة في هذا الديوان الكتابة بالذوق والتخييل بالنكهة، حيث لم تبتعد النصوص الشعرية عن عالم المذاق والنكهة . وبالتالي عن الإحساس بالمرارة والحلاوة . وأغلب النصوص كانت تصويرا وتمثيلا لهذين المذاقين، إما منفصلين أو متصلين ممزوجين . ويجد القارئ مذاقا ثالثا هو الملوحة في بعض المقاطع الشعرية. وارتباطا بعالم الأنثى، يحفل الديوان بعنصر آخر هو العطر الذي يحمل من خلال نوعيته أو خاصيته أو تركيبته، ثم من خلال آثاره الدلالية التي لا تبتعد كثيرا أو قليلا عن متخيل الحلاوة / المرارة .

 

إنجاز الدكتور المصطفى سلام

.....................

1 - أمينة الصيباري: وشم بالشوكولا .مطبعة سليكي أخوين – طنجة . ط 1 . يناير 2015. ص:   8 .

2 - الديوان: ص 6 .

3 - الديوان: ص 11 .

4 - الديوان: ص: 63 .

5 - الديوان: ص 35 .

6 - الديوان: ص 43 .

7- الديوان: ص 44 .

8 - الديوان: ص 52.

9 - الديوان: ص 56.

10 - الديوان: ص 61.

11 - الديوان: ص 80.

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم