صحيفة المثقف

هنيئا لكَ موتكَ!

yasamyna hasybiوحين أبكي بلا سببٍ، فمعناه أني فهمت كل شيء..

معناه أيضا..

أنه لا مزنة في السماء على قيد الهطول وأن حلمي الوحيد يفترش قارعة الطريق.

كبُرتُ بما يكفي لأُدركَ بأن الريح قد تحملني على أكتافها لأعْـبرَ الحياة!

وأنّ قليلاً من الإنكسار مفيدٌ للقلب!

ولا يُـخْجلني أبدًا أن أعترف..

بأني أقطع صَلاتي أحياناً لأرهف السّمع لخطوات أبي وهو يتنقّـل في شوارع الجنة، باحثا عن بيتٍ يليق بأمي حين تلحق بهِ هناكَ!

أمي التي تسألني منذ رحيل أبي:

- هل يوجد في الجنة تنّور يدويّ، فأبوكِ لا يستطعمُ خبز الأفران الحديثة؟

 

أمي كانت تمشي حافية في أحلامها حتى لا تزعج نوم أبي..

وتجمع دوائر الحب من عينيْه قبل أن يستيقظ من النوم ثم تصنع منها مربىً وتدهن بها قطع الخبز التي كنّا نتناولها في وجبة الإفطار قبل الذهاب الى المدرسة.

 

أمي هي الوحيدة التي كانت تستطيع أن تدخل إلى "الأبد" دون أن يراها أحد ثمّ تعود منه محمّلة بسلال من الضوء!

نتحلّقُ حولَها، نسألها عن شكل الأبدِ؟؟

فتضحكُ مِـلءَ أمومتها وهي تغزل لنا أقمصة من الضوء للسنواتِ القادمة.

 

وحين مات أبي، أطفأتْ أمي أضواء عمرها!

ولملمتْ "رائحته" من أرجاء البيت ثم وضعتها في إطار ذهبي وعلقتهُ في غرفتها.

أمي لم تعرف أبدًا..

أن أبي اعترف لي - وهو بكامل قواه العقلية- بأنه أحبّني أكثر من كل إخوتي وبأن قسوته علي لم تكن سوى دورًا ثانوياً في مسرحية من تأليفه وإخراجهِ.

أمّي لا تستطيع أن تتصور بأنْ يكون أبي "غَيْرَ عادلٍ" في تقسيم شطائر الحب على أبنائهِ!

...

كانت تفخر كثيرا بحكمته وتقول بأنه كان يعرف الكثير من الأمور..

كان أبي يعرف مثلاً بأنّ الكراسي الفاخرة تُصنع من الأشجار الآيلة للسقوط.

وأن أسماء بعض الأوطان مزورة كقناني السّكر الذائب التي يبيعها جارنا "الأعرابي" على أنها عسل حقيقي.

أبي كان يعرف أيضاً بأنه سيرحل قبل أن يسقط التاريخ من عينيه وكان يصلّي ويشكر الله كثيرا على تلك النعمة.

..

الآن وقد مضى على رحيل أبي ست سنواتٍ..

وبلغتُ أَنا من العمر "زمنًا داعِـشًيّا" أقول له:

هنيئا لكَ موتكَ يا أبي !

 

ياسمينة حسيبي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم