صحيفة المثقف

الصراع بين أنصار الحداثة والليبرالية

adil amirوهكذا يتخيل هؤلاء المفكرون حالة طبيعية افتراضية لم يكن الناس خاضعين فيها لأية سلطة، باستثناء قانون العقل أو القانون الطبيعي. في هذه الحالة كان الناس يعيشون في حالة من التساوي والاستقلال. فالتساوي يعني أن لا أحد يملك بالطبيعة حق حكم الآخرين. وقد ظل المشكل المطروح في هذه الحالة هو معرفة كيف تم الانتقال من حالة الاستقلال هاته إلى المجتمع المدني الذي يخضع فيه الناس لسلطة مشتركة. وقد قدمت نظرية العقد الاجتماعي حلا لهذه المعضلة.

وسواء كان الخضوع للسلطة الناشئة عن العقد خضوعا طوعيا ناتجا عن مصادقة الرعايا أم خضوعا قسريا ناتجا عن غزو أو انتصار فإن أفراد المجتمع يتخلون عن قسم من حريتهم الطبيعية لصالح حاكم فرد أو لصالح جمعية (Assemblée) تمارسها بالنيابة عنهم.

وإذا كانت نظرية التعاقد قد وجدت صدى سياسيا في الواقع السياسي آنذاك فذلك لأنها كانت استجابة متوازنة وموفقة للتحول التدريجي الذي حدث في تركيب السلطة في أوربا. فهي من زاوية موجهة ضد السلطة الزمنية للبابا، كما أنها تحاول من زاوية أخرى أن تعيد للسلطة الملكية استقلاليتها بإقامتها على أسس دنيوية خالصة.

إلا أن هذه النظرية، التي انبثقت من حضن مدرسة الحق الطبيعي ستتبلور أكثر على يد جان جاك روسو J.J.Rousseau الذي عاب على غروتيوس أنه لم يتوان عن “تجريد الشعوب من كل حقوقها ليزين الملوك بها بواسطة فن رفيع” (الكتاب الثاني – الفصل الثاني من “العقد الاجتماعي”.)، مما يعني أن نظرية التعاقد ستأخذ مع روسو منحنى ديمقراطيا أوضح، وستتجه أكثر نحو التأكيد على سيادة الشعب.

لكن ما سيميز نظرية روسو، من حيث أن كل رواد مدرسة الحق الطبيعي يرجعون السيادة للشعب، هو قوله بأن هذه السيادة تعود في الأصل فقط إلى الشعب بل هي مستمدة منه وراجعة إليه دوما وأبدا. فالشعب لا يتنازل عنها ولا يكلها لأحد. فسيادة الشعب حق غير قابل للتفويت، ولا يمكن أن يكون هناك سيد آخر غير الشعب. والدولة الوحيدة المشروعة في نظر روسو هي تلك التي يمارس فيها الشعب ذاته السيادة، وهي الدولة الجمهورية وبغض النظر عن الفروق التي تفصل بين رواد نظرية العقد الاجتماعي

بوفندورف-هوبز-لوك-روسو)(فإن بالإمكان إبراز بعض السمات المشتركة بينها، والتي تندرج في إطار مساهمتها في بلورة حقوق الإنسان.

   مع مرور الوقت اشتد الاختلاف واحتدم الصراع بين أنصار الحداثة والليبرالية وبين معارضيها في المجتمعات العربية والإسلامية وهي مجتمعات تراثية تاريخية تعيش على الماضي ولا يمكنها التخلي عنه، ومن التيارين الاثنين التيار الليبرالي والتيار السلفي ظهر تيار آخر يحاول من جهته تجاوز أزمة التخلف وحل إشكالية الحداثة بمنهج يجمع بين الليبرالية والحداثة والتراث، ويركب ويوحد بين التراث والوافد، وقامت دعوات عديدة تدعو إلى عدم الاكتفاء بالقول بأنّ التراث وحده يكفي، وبالموقف الذي يرد الحلول كلها إلى التراث الروحي الديني، الكتاب والسنة، الإسلام عقيدة وشريعة، فالقول يكون صحيحا والموقف يكون سديدا في حالة واحدة هي الاجتهاد في قراءة التراث واستثماره من غير تعصب للفرق والمذاهب التي يعتبرها الكثير من المهتمين بدراسة التراث فرقا ومذاهب ذات أبعاد سياسية وصراعاتها حزبية، وفي حالة التحرر من تأثير السياسة في الرؤى الاستشرافية وفي التوجهات نحو قضايا الحاضر والمستقبل بروح نقدية تعتبر المقاصد والمصالح، في هذه الحالة يمكن الاعتماد على الإسلام عقيدة وشريعة لأن التراث في هذه الحالة يصبح لا يمثل ما تركه لنا الأسلاف من اجتهادات بل يمثل بالإضافة إلى ما تركه الأسلاف ما تمّ التوصل إليه من اجتهادات تتمثل في حلول لمشكلات الحاضر والمستقبل، فيجتمع الماضي والتراث بالحاضر والعصرنة أي اجتهاد الماضي باجتهاد الحاضر.

   إنّ بذل الوسع والعطاء في التوحيد بين ما هو في الماضي وبين ما هو في الحاضر يمثل الدلالة الحقيقية لمعنى التجديد، وحسب تصور بعض المفكرين المعاصرين للموضوع هو أنّ التجديد المراد في الإسلام الذي يتناول ما جاء به الإسلام ببيان ما جاء في العقيدة والشريعة للناس، أما ما جاء خارج العقيدة والشريعة من العلوم والمعارف والأفكار والمناهج في السياسة والاقتصاد والبحث العلمي والصناعات فهذه لا صلة لها بمعنى التجديد بالمدلول الفقهي الإسلامي، ولا صلة لها بالتراث الإسلامي كتراث خاص بالمسلمين وملك لهم حتى وإن كانت من إنتاج أسلافهم، فإنتاج أسلافهم في ميادين العلوم العقلية والتجريبية والفنون والصناعات هو جزء من التراث الإنساني العالمي، هو إسهام حضاري للأسلاف وحضارتهم في التراث الإنساني الحضاري العام، وارتباط التراث الحضاري الإنساني العام في ميدان الفلسفة والفن والأدب والعلوم والمناهج والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية يبقى دوما متصلا بالماضي، وإذا كان الذي يطبع العصر الراهن هو حصول التقدم بوتيرة سريعة جدا فإنّ الشرعية العلمية تُضفى على العلوم الرياضية والتجريبية من خلال أخطاء العلم والأمر نفسه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، لأن تاريخ هذه العلوم هو تاريخ لنظريات ومواقف لم تعد مشروعة في عصرنا، تجاوزها العصر وأصبحت تراثا، هذا ينطبق على جميع العلوم التراثية اليونانية والعلوم ما قبل اليونان وعلوم العصور الوسطى وعلوم العصر الحديث، مما يدل على عدم وجود معنى للتجديد بالمفهوم الإسلامي في المجال العلمي العقلي والطبيعي والإنساني لارتباط التفكير العلمي بالإنسانية ماضيا وحاضرا ومستقبلا على الدوام، ولارتباطه بالتراث الإنساني العام كلّما أصبح في الماضي.

ويقتضي شرط الحداثة والتحديث في علاقته بإنتاج العلوم الإنسانية التفكير في تهيء الشروط المؤسسية الحاضنة للبحث في هذه الظواهر، فلا يمكن أن ينتعش هذا البحث بدون إمكانيات مؤسسية ومالية داعمة، بل ومؤسسة لمجال هذا البحث، فبدون هذه المؤسسة بل المؤسسات ستظل خطوات البحث متعثرة، وهذا ينعكس بالضرورة على إرادة التأصيل فلا نتقدم لا في بناء الظواهر ولا في معرفتها، بل يظل الجهل المرادف للتقليد سيد الزمان، وتظل نخب الباحثين تعيد إنتاج أطياف النظريات الجاهزة دون أن تتمكن من بناء ما يسمح بمعرفة واقع الإنسان العربي، وواقع المجتمع العربي في مختلف تجلياته ومظاهره وإذا كنا نعرف الإيقاع السريع الذي يعرفه واقع تطور العلوم الإنسانية في المجتمعات الحداثية المتقدمة، أدركنا الفوارق البعيدة التي تفصلنا عن عتبة الاستيعاب، بل أدركنا صعوبة التأصيل دون انخراط فعلي قادر على مراكمة المعارف والنظريات التي تمكننا من إعادة إنتاج المفاهيم والنماذج العلمية بالصورة التي تجعلها مطابقة لأحوالنا، وهو الأمر الذي يترتب عنه المساهمة في ابتكار المجالات المعرفية الإنسانية الجديدة، التي أفرزتها متغيرات العالم في نهاية القرن العشرين، حيث نعيش اليوم في واقعنا إشكالات معقدة تستدعي توظيف الآليات المعرفية الإنسانية، للتمكن من مواجهتها والتغلب على آثارها السلبية في حاضرنا ومستقبلنا. لم يكن من السهل علينا في الصفحات السابقة مقاربة موضوع تأصيل العلوم الإنسانية في الفكر العربي المعاصر، وذلك لأن التأصيل في العمق عبارة عن مسعى نظري يفترض تراكما كميا وكيفيا في مجال البحث في الإنسانيات بالآليات والوسائل العلمية. كما يفترض انخراطا واسعا من طرف الجامعات ومراكز البحث في إنتاج المعارف المتعلقة بحياة الإنسان في مختلف أوجهها، بما في ذلك المباحث التي تخوض في اللامرئي واللاشعوري والمتخيل واليومي، والمباحث التي تعنى بمختلف الظواهر التي يفرزها واقع الإنسان، سواء في علاقته بذاته أو في علاقاته بالإنسان أو في علاقاته الأخرى بمختلف مظاهر الحياة.

أو في سياق عارض وسريع أخرى، ولهذا السبب تنوعت الأمثلة مع تركيز كبير على علم الاجتماع وتركيز أكبر على بعض المعطيات المحلية الخاصة ببلادنا، حيث نمتلك معطيات أكثر مقارنة مع ما نعرفه عن معطيات الأقطار العربية الأخرى. وقفنا عند ثلاثة شروط مركزية، في موضوع كيفية بلوغ عتبة التأصيل، الأول والثاني منها يرتطبان بالمجال المعرفي، والثالث يتعلق بالمجتمع والتاريخ وفضاء الصراع السياسي والثقافي في عالمنا العربي، حيث تشكل المعطيات الآنفة الذكر الخلفية الناظمة لمختلف الفعاليات الذهنية الجارية في الواقع ومن بينها ما يرتبط بمجال البحث في العلوم الإنسانية. تعود انحرافات المشاريع الإصلاحية إلى جملة من الأسباب التي يجب أن ننتبه لها في دعوتنا وعملنا حتى لا تتكرر هذه الانحرافات في الاتجاه السلفي المعاصر، ومنها: ضعف التأصيل الشرعي، وقصور التربية السلوكية والتعبدية، والانبهار بالتيارات العلمانية وطرائقها في التفكير، وأساليب الصياغة المنهجية للأفكار، وفقدان البدائل والمشاريع المنافسة، وتواضع آليات العمل، واختلاط مصادر التلقي، والانفتاح غير الراشد وغيرها من الأسباب، وهذا يستدعي ضرورة العناية بالتأصيل العلمي، والتربية التعبدية، والاعتزاز بالمنهج، وإيجاد البدائل المنافسة، والمشاريع والمؤسسات التي تحتوي الشباب، وترشدهم.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم