صحيفة المثقف

نقد مفهوم الحرية في فلسفة سبينوزا

1mohamad bakoh – علاقة مفهوم الحرية بالفلسفة الأخلاقية: إن الحرية كفعل طبيعي هو فهم الضرورة. وبالتالي، فالإله وحده هو الكائن الحرّ بهذا المعنى عند سبينوزا. أما باقي الكائنات الطبيعية الأخرى فيعتبرها فيلسوفنا موجودة وجودا مطبوعا، أي غير حر، وليس وجودا طابعا، كما هو الشأن بالنسبة للإله الحرّ .

من هنا، تعلقت واشتبكت فلسفة سبينوزا بالفلسفة الأخلاقية، بسبب عجز فلسفته إثبات قوة الطبيعة بتجلياتها المختلفة، ومنها قوة الانسان، أمام القوة المفترضة لما وراء الطبيعة، وبالتالي، تكون فلسفة سبينوزا هنا الابنة الشرعية للفلسفة الأفلاطونية، وقبله أستاذه شيخ الفلاسفة الأخلاقيين سقراط، الذي ضحى بالفلسفة من أجل الأخلاق، وبعدهما بكثير الفلسفة الديكارتية التي ألهت العقل، والكانطية، التي توجت الفيلسوف متحدثا بلسان المسيحية حسب نيتشه .

و انطلاقا من رؤيته الفلسفية الأخلاقية، يصل سبينوزا مضطرا إلى أن الإنسان بمثابة ظاهرة من الظواهر الطبيعية، التي بإمكاننا البحث فيها كباقي الظواهر العلمية والطبيعية المحيطة بهذا الإنسان . أي أننا يمكننا فهم الإنسان، كما يمكننا فهم الطبيعة، باعتبار الإنسان ما هو سوى جزء لا يتجزأ من قوانين الطبيعة . هكذا، تركز فلسفة سبينوزا على هذا التفاعل غير المشروط بين ما هو إنساني وما هو طبيعي، وفق نوعية النسق الذي يشملهما، من حيث التوازن، في حالة وضعية الإنسان الطبيعية القوية، أو من حيث حالته المختلّة (فقد التوازن) السلبية، التي يصبح خلالها طرف في هذا النسق، سواء كان الأمر يتعلق بالإنسان أو بعنصر من العناصر الأخرى للطبيعة، مختلّا وفاقدا للتوازن الطبيعي، فيختلّ تبعا لذلك التوازن الطبيعي العام الذي يشملهما، أي يختل النسق العام للحياة الطبيعية .

غير أن هذا الاختلال للتوازن الطبيعي، كما لاحظه ودرسه سبينوزا، يكون بدرجات مختلفة ومتدرجة، وبالتالي يصبح معه، مع مرور الوقت، أي اصلاح أو محاولة إعادته إلى وضعيته الطبيعية القوية والسليمة، أمرا يكاد يكون مستحيلا . لهذا يستعمل هنا سبينوزا مفهومه المعروف ب " الكوناتوس " الذي يعني الجهد الفكري الداخلي للفرد الإنساني، من أجل تحقيق الحفاظ والاستمرار الممكنين، في إحدى وضعيات حياة البقاء، وفق النظام الطبيعي القوي والسليم للأشياء الطبيعية .

 

2 – مفهوم الانسان عند سبينوزا  

إن المعنى الشائع للحرية، حسب سبينوزا، يرتبط بغياب واضح للموانع والضرورة، وبالتالي فالفعل الإنساني، يتوهّم البعض، يقوم على أساس إرادة إنسانية حرّة، أي أن يفعل الإنسان ما يشاء، ووقتما يشاء ويريد .

يؤسس هذا التصور الفلسفي الزائف بالنسبة لسبينوزا، على التسليم بفرضية الوجود الضروري لثنائية: الجسد والنفس، باعتبار القيمة الرمزية والسامية للنفس على حساب قيمة الجسد، المقصية هنا، واستقلالية الأولى على عالم المادة المحسوس الضروري ..

لعل هذا التصور الميتافيزيقي للإنسان، من منظور سبينوزا، يقوم على أساس تفكير خاطئ أو انحراف فكري، لهذا وجب تصحيحه، من أجل تجاوزه، ومن هنا جاء المفهوم المتداول للحرية وعلاقته بالإنسان مفهوما تشوبه أيضا الكثير من التناقضات، وسوء الفهم من الناحية الفلسفية . من هنا كان النقد السبينوزي لمفهوم الحرية مختلفا وقاسيا ومتجاوزا فيما بعد، لمفهومه الشائع والمستعمل في عصره، والمتوارث من فلاسفة قبله . لأن الفعل الإنساني الحرّ عند سبينوزا ليس ناتجا عن فعل الارادة (الفكر، النفس، الرغبة) كما يتوهم ديكارت مثلا، إنما هو ناتج عن نوازع الجسد والهوى وميولات الذات والنفس . الفعل الحرّ البشري، كما هو متداول وشائع، ينبني على أساس التفكير العقلاني الذي يقوم بإقصاء قيمة الجسد، وأيضا إقصاء فعل رغباته الطبيعية . في حين ينظر سبينوزا إلى نظام الأشياء، عكس ما هو سائد، كما لو كان هو نفسه نظام الأفكار. الفكرة هنا تعني الرغبة والهوى والميل . إن ماهية الإنسان هنا هي الرغبة . الإنسان هو كائن راغب، وليس كائن عارف . نظام الأفكار هو نظام النوازع الجسدية . وبالتالي، فالنفس عند سبينوزا ليست جوهرا مستقلا ومميزا، بل هي صوت الجسد ذاته، بتعبيراته الصارخة والعديدة .

هكذا، تخلص فلسفة سبينوزا الأخلاقية، إلى صياغة أطروحة فلسفية مبدعة وقوية، بخصوص مفهوم الإنسان، باعتبار أن " الفلسفة تفكر، لكن عبر المفاهيم "1 لهذا نظر فيلسوفنا إلى الإنسان، كمفهوم فلسفي متميز، من حيث هويته المركبة من مستويين متكاملين هما : المستوى الطبيعي (الجسد)، والمستوى السيكولوجي (النفس)، وبذلك فالإنسان هو كلّ هذين الجزأين : كل ما هو نفسي فهو جسدي، والعكس صحيح . وبالتالي، فالجسد والنفس كلاهما يعبران عن نفس الجوهر، ولعل الذي يتغير إنما هو أنواع وزوايا تصورنا لهذا الجوهر، فنتمثله حينا كفكر مركز، وحينا آخر كما لو كان امتدادا .

إن هذا التأكيد السبينوزي على طبيعة العلاقة "التماهية"، إلى درجة "الذوبانية" بين جسد الإنسان ونفسه، في كل واحد (المادة والروح في التقسيم الفلسفي الميتافيزيقي الافلاطوني)، من حيث أفعالهما، وامتداداتهما الأثرية، يجعلنا نقول عن الفلسفة، مع محمد الشيخ، كما لو هي " لاهوت مقنع " 2 . فالجسد هنا ينتج الأفكار، والنفس تنتج الرغبة . أما التذكر والتخيل والتفكير .. فهي أفعال جسدية أولا وأساسا، عكس التصور الفلسفي الديكارتي، الذي ركز على الفصل والتمييز بين كل هذه الملكات والقدرات البشرية، بوضعها جميعها داخل دائرة النفس ضدا للجسد .

هكذا، نستنتج أن فلسفة سبينوزا، التي رفعت من قيمة الجسد والنفس معا، في إطار كل مركب واحد، مع إعادة اعتبارها للجسد، رغم تجاوزها للمفهوم الفلسفي التقليدي الذي كان غارقا فيما هو ديني وميتافيزيقي سابقا، فيما يخص مسألة حرية الإنسان، إلا أنها – نعني فلسفة سبينوزا - تبدو مترددة متأرجحة بين فعل المهادنة، فيما يخص مقاربتها النقدية للمسألة الدينية والأخلاقية، وبين فعل الاختراق والهدم الجذري لأسس وأصول تلك المسألة، في لحظة تاريخية وحضارية حرجة، كانت فيها الهيمنة السياسية والوصاية الأخلاقية للعقل الكنيسي، ولتفكير رجال الدين المتواطئ مع التوجه المفروض للفلسفة الميتافيزيقية .

 

.............................

1 – جيل دولوز وتجديد الفلسفة، جمال نعيم، ص 366

2 – نقد الحداثة في فكر نيتشه، محمد الشيخ، ص 477

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم