صحيفة المثقف

الشّباك الأزرق

ali salihjekorفي صغري، وفي ظهاري الصيف اللاهبة يتملكني الضجر، ويدب الملل الى قلبي، حينما نُرغم على القيلولة اللعينة الممتدة الى نهاية العصر، كنت أستلقي على ظهري وأتطلع نحو المروحة السقفية وهي تدور بكسل، محدثة صريراً خفيفاً، برتابة وإيقاع ثابتين، يسارع بإطباق جفون أخوتي المتناثرين على أرضية الغرفة، كنت أنتظر إغفاءة أمي، المتلفعة بشيلتها السوداء، وسماع شخير أبي المُتعب من كد نهار طويل، فأتسلل بخفة قِط، وأرتقي حافياً السلم المفضي الى سطح دارنا الصغير.

أصف الحجرين المركونين الى جانب التنور الطيني، وأعتليهما، لأطل على باحة الدار الخلفية، التي تسكنها جارتنا العجوز، والنظر للشباك الخشبي الأزرق ذا الظلفتين، الشباك الذي تسحرني زرقته، وألق ضياء الشمس الملتمع على حوافه، والنور المندلق على زجاجه.

أحدق فيه طويلا، طويلاً، منذهلاً، ربما لندرة الألوان في بيوتنا الحائلة كلون التراب في حينا الفقير، ينتابني حلم أن أدنو منه وألمسُ خشبه الناعم، وأطلُ منه الى الغرفة الصغيرة التي ظلت لغزاً في مخيلتي، ماالذي في داخل تلك الغرفة ياترى؟؟ هكذا كنت أحدث نفسي!!

مكثت أرقب العجوز وهي تُدّور المغزل بحركة رشيقة، وتتطلع الى نقطةٍ ثابتةٍ أمامها، دون أن تلتفت، ولولا حركة كفّيها، لخِلتُ أنها تمثال حجري يقبع أمامي.

لم أستطع أن أتبين المكان الذي تحدق فيه، فالزاوية التي أطّلُ منها لاتتيح لي رؤية ما يواجه المرأة، أصبحت تلك النقطة لغزاً أخر يحيرني ويثير تساؤلي وفضولي.

وبينما كنت سارحاً أرقب المرأة والشباك الأزرق، مَرقَ شبحُ صبي مسرعاً، لم أستطع أن أتبين ملامحه، راودني إحساس أني أعرفه، سأنتظر لعله يعود ثانية، فأتعرف عليه.

إرتفعت الشمس في السماء، وأنحسر ماتبقى من ظلٍ قصير كنت ألوذ به لأحتمي من وهج الشمس الحارق، لكن ظهور الصبي ووجوده في هذا المكان، دعاني الى تحمل اي شيء كي أحل هذا اللغز الجديد، إنتظرت طويلاً لأرى إن كان سيظهر الصبي مرة أخرى!!

آه، إنه هو، أحمد صديقي في الصف، أحمد الذي أجلس وأياه على رَحلةٍ واحدة..

أحمد، أحمد، ناديت عليه بأعلى صوتي، ملوحاً له بكلتا يدي..

رفع رأسه نحوي بفتور، إلتفتت العجوز إلي للمرة الاولى، نادتني: سليم، سليم، تعال يابني، تعال وألعب مع أحمد، تعال..

نَحّت المغزل وكومة الصوف جانباً، وأستوت قائمة بخفة أمرأة شابة، ثم أحضرت سلماً طويلا إمتَدَّ من جدار سطحنا الى الباحة التي تقف عليها..

إنزل يابني، لاتخف، إنزل..

لامست قدمي أولى درجات السلم، لم تنتابني رهبة الأرتفاع، ولاخشية السقوط، وفي لحظة خاطفة وطأتُ بلاط الباحة المزينة بألوان الورود، وأصص الزهور الملونة، بدت لي أوسع كثيراً عما كنت أراه من السطح.. مدت المرأة يدها إلي وأبتسمت على نحو جميل..

تعال ياسليم، كانت يدها دافئة ومعطرة، قبلتني على خدي، عطر شيلتها كالعطر الذي يضمخ شيلة أمي، الأمهات يتشابهن حتى في العطر!!

أحمد ياأحمد، نادت عليه، هذا سليم ياأحمد، سليم، صاحبك الذي يجلس معك على رحلة واحدة، رحلة واحدة..

ظَلَّ أحمد صامتاً، يحدق بي بذهول، رحلة واحدة!!، آه عرفتك، أنت الذي كنت هناك على ذلك السطح، تنظر ألينا أنا وجدتي!

حيرني كلامه، فهو يعرفني ولايعرفني، ملامحه غريبة، لكنه هو أحمد، احمد الذي يجلس معي على رحلة واحدة..

تَسمرتُ واقفاً بمواجهة الشباك الأزرق، كان لونه ناصعاً مذهلاً، لم أر من السطح إطاره الموشى باللبلاب والأزهار البيضاء الصغيرة.. ولم أتنبه الى الستائر الشفافة التي تهفهفها النسمات المنعشة التي تهب من داخل الغرفة..

تعال ياسليم، وأنت ياأحمد، تعالا ياولديَّ، تعالا، سارت أمامنا نحو باب الغرفة الموصد، أستلت من جيبها صرة مفاتيح، إنتقت مفتاحاً كبيراً بحجم إصبع يد رجل، أدارته في قفل الغرفة، ثم دفعت الباب برفق..

ياإلهي، ماهذا؟؟!!

تفتحت الغرفة عن أطرافٍ متراميةٍ، رَحبة، على نحو غير مألوف في بيوتنا، كانت هناك نافورة وحديقة غناء، ركضنا حول النافورة، إصطدت بالونات ملونة كانت تحلق في فضاء الغرفة، قفزاتي سريعة وعالية، خلتني أطير، نوافذ صغيرة تحيط الجدران من كل جانب، أصص ورد على الشرفات، عصافير وطيور ملونة تحلق في كل الأتجاهات، المصاريع مشرعة، والضياء الأبيض يندلق على الخضرة الداكنة لأوراق الشجر والمروج الخضلة الندية..

تذكرت الشباك الأزرق، بحثت عنه، بدا لي بعيداً في الطرف الآخر من الغرفة، جلس تحت نافذته رجل نحيف، يشبك ركبتيه بكلتا ذراعيه ويحدق في الفراغ، دنوت منه، تطلعت بوجهه، عيناه غائرتان بشكل مخيف، برزت عظام وجهه الشاحب، تراجعت الى الوراء خطوتين، إرتمى علي بسرعة وطوق ساقي بذراعيه، صرختُ مرعوباً.. جاء صوت العجوز:

لاتخف منه يابني، إنه سعدون، إبني سعدون، يريد أن يلعب معكم، إلعب معهم ياسعدون، إلعب معهم ياقرة عيني، لم يمهلك الموت أن تلعب مع أترابك، لاتخف منه ياسليم، إنه لايؤذي يابني، آذوه كثيراً في أقبيتهم المظلمة، رحل منذ زمن بعيد وهو يحلم باللعب، كان صغيراً يوم أخرجوه من القبو، الى القبو.. إلعب ياسعدون..

مددت يدي اليه بالبالون، كان يتبسم وعيناه تنضحان بالدموع، وحينما قبض على البالون، تلاشى كل شيء، إنطفأت الأضواء، وأختفت الألوان، أفقت على صياح أمي في الأسفل.. سمعتها تقول لأبي:

لن يترك عادته الذميمة في الهروب الى السطح، والتلصص على بيت جارتنا البصيرة أم سعدون، لاأعرف من أي طينة هذا الولد.

 

علي صالح / جيكور

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم