صحيفة المثقف

جماليات القبح في اللوحة الفنية

wejdan alkashabيشكِّل علم الجمال واحداً من فروع الفلسفة التي تبحث عن الكمال فيما تطرحه من أفكار حول الجمال، ولكنَّ الفنان في واقعه المُعاش يرى القبح والجمال في حيثيات رؤيته العيانية اليومية، وتكمن تمظهرات القبح والجمال معاً في ذاكرته على حدٍّ سواء، ولكنَّ التعامل معهما يقع في خانة الاختلاف، حيث يحاول الفنان أحياناً موقعتهما في موقع واحد بحيث يتساويان، وهنا تبرز وظيفة ذاكرة الفنان، تلك الذاكرة الخبيرة في الحكم على الأشياء جميلة كانت أو قبيحة، وفي الحكم على المواقف : هل تتموقع في خانة الخير أم في خانة الشرِّ؟

ولا بُدَّ لنا هنا من الإشارة إلى أنَّ مكنونات الذاكرة إنَّما تتكوَّن نتيجة للإدرك بنوعيه :

الأول : ادراك خارجي يكون نتيجة لما تستلمه الحواس الإنسانية من معطيات الأشياء المادية المحيطة به والتي يتعامل معها الفنان بشكل دائم .

والثاني: ادراك داخلي يتأسس عن طريق تأمل وتفكير الفنان، وينبني هو الآخر انطلاقاً من معطيات الإدراك الخارجي، وهنا يتكامل الادراك بنوعيه ليشكِّلا خزيناً ثرَّاً لذاكرته، سواء كان هذا الخزين واعياً أم كامناً في لا وعي الفنان، وحين يصل الخزين إلى الذروة يتحرَّك مُشكِّلاً دافعاً ذاتياً للفنان لفرشه على مُسطَّح اللوحة .

والدافع هنا قد يتحرّك لإنشاء لوحة تفتح الأبواب والعيون للتمتع بالجمال، وهذا يثير المتلقي إثارة ايجابية تجعله يعيش مع اللوحة متحسساً مواطن الجمال فيها، سواء أكان الجمال متجسداً بانسيابية الخطوط أو بموقعة الأشكال أو بالتلوين، أو ربَّما يتكوَّن من خلال الدلالات التي تعمل اللوحة على إبرازها، وهنا تكمن حقيقة الإبداع الفني الذي يحرِّك قدرة الفنان على استعمال تقنياته وحرفيته لتشكيل لوحة تنطق بدلالاتها .

وهنا لا بُدَّ لنا أن نسأل هل يمكن للفنان أن يتعامل مع الجمال فقط ؟ مع انتباهنا إلى أنًّ الجمال هو تصوّر للكمال ؟ وهل يمكن للفنان أن يقتفي نهج مَن وضعوا له المقاييس والنسب لتكون دليلاً له ؟ أم أنَّه حاول على مدى الزمن الخروج على هذه المقاييس الصارمة والنسب المقننة ليفرش تجربته الخاصة على مسطّح اللوحة ؟

إذا انطلقنا من فكرة قارّة تعلن أنَّ الجمال والقبح يتساويان أمام عين وذاكرة الفنان، سيكون لنا المجال مفتوحاً للحديث عن القبح مثلما نتحدث عن الجمال منطلقين من فكرة أنَّ القبح مساوياً للجمال في الانتاج الفني، وحسب فان كوخ يمكننا أن نتفق معه في اشارته {إنَّ للأشياء القبيحة خصوصية قد لا نجدها في الأشياء الجميلة} مما يؤشِّر أنَّ الفنان قد لا يميل إلى إظهار القبح في لوحته لأنَّه قبيح، بل لأنَّ القبح حالة وجودية تتمظهر في الكثير من المواقف والنوازع والتصرفات الانسانية، كما تتمظهر في الطبيعة وفي الحيوان والجوامد على حدٍّ سواء، فهي ليست حالة غريبة أو نادرة الحدوث، بل أنَّها جزء من تكوين العالم الذي يقف الانسان في مركزه، ويستلم اشاراته منه، لتبدأ فرشاته في نقلها إلى العالم الفني، فيشتغل في اتجاه أنسنة الحيوان مثلاً أو حيونة الإنسان، أو قلب موازين المنظور الذي تعارف عليه الفنانون، أو التقاط منظر طبيعة ميتة، أو أشياء خلَّفها الإنسان خارج يومياته ليعيد انتاجها في لوحة فنية ضمن سياقات فلسفية وجمالية خاصة به، فيخرجها من حالتها الأصلية التي وقعت عليها عينه لتدخل حالة جديدة تمنحها تأويلاً جديداً، لأنَّ القبح الذي نراه في اللوحة هو صورة جديدة منقولة عن أصل مما يجعلها متفاوتة في قيمتها، وهي لا تخضع لقوانين أو اشتراطات عامة في هذا الظهور، بل أنَّ مقياسها الوحيد هو قدرة الفنان على اقتناص اللقطة واعادة انتاجها .

يشير تركو فينيكو إلى أنَّ الجمال جزء مكمِّل لجوهر الإنسان، وهو حاجة أساس في وجوده لأنَّه بالتأكيد يرغب بالتمتع بالمظاهر الجمالية المتنوعة، مظاهر الطبيعة ربيعاً مثلاً أو الاستمتاع بالشعر والقصص والأساطير والأفلام وغيرها مما يثير في نفسه احساساً جمالياً مميزاً يساعده {حسب تركو فينيكو} على أن يعرف نفسه ويعرف كذلك العالم من حوله بصورة أدق وأعمق وأشمل، كما أنَّه سيتوقف أمام القبح أيضاً ليعيد مناقشة منظومة القيم القارّة في ذاكرته . إنَّ المتلقي وهو يتذوق العمل من خلال عملية حيّة ومتفاعلة ومباشرة إنَّما يعيش حالة الموقف الجمالي الذي يعرِّف به ستولينيز حين يقول أنَّه انتباه وتأمّل متعاطف ومنزّه عن الغرض لأي موضوع كان، أي أنَّ المتلقي يستطيع ادراك أنَّ اللوحة كانت مثيرة بما فيها من ألوان منتقاة وبالكيفية المقدّمة بها، وما تحتويه من دلالات، مع ملاحظة أنَّ تقديم موضوع اللوحة يختلف من فنان إلى آخر، ومن عصر إلى آخر، وربَّما يكون تقديم الموضوع القبيح فنياً يحمل قصدية الفنان على إشعار المتلقي بوظيفة الفن التطهيرية {حسب ارسطو} من جهة، ولأنَّه يذم القبيح ويستنكره من جهة ثانية، وليست هذه هي الوظيفة الوحيدة للفن بل أنَّه يساعد المتلقي على فهم قيم الجمال والقبح وتذوقها، كما أنَّه يعمل على اثارة وتطوير وتوجيه القدرات الابداعية الكامنة لدى كل إنسان بما تسمح به امكاناته، ينضاف إلى ذلك أنَّ الفن يساعد المتلقي على تكوين منظومة معرفية حول الفن وخصائصه ومدارسه وتياراته .

مثَّل القبح حضوره في الكثير من الأعمال الفنية، وعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نذكر أعمال الدادائين التي أظهرت القبح أكثر من إظهارها للجمال، فالفنان مارسيل دو شامب وضع شوارب لموناليزا دافنشي، كما أنَّ الفنان الفرنسي دي لاكروا قدَّم مشهداً قبيحاً في لوحته { مذبحة شيو } التي قام بها الأتراك رداً على المذبحة التي قام بها اليونانيون، ينضاف إلى ذلك لوحة جورنيكا لبيكاسو التي رسمها عام 1937 م بعد أن قصف الطيران النازي الألماني قرية جورنيكا الاسبانية، وقتل الكثير من سكانها، وكان القصف مأساة ولهذا نجده استبعد الألوان في لوحته ما عدا {الأبيض والأسود وتدرجات من اللون الرمادي} و أفاد من قيم الضوء والظل في إظهار قبح السلوك الإنساني من خلال تركيز الإضاءة على أشلاء الجثث الإنسانية، كما أنَّ الأشكال التي اختارها بوصفها رموزاً تنطق بالقبح، فاختار الثور ليكون رمزاً لوحشية النازي وقوَّته التي قامت بالعدوان الهمجي، يقابلها الحصان الذي أراده رمزاً لاسبانيا المقهورة والمتألمة ولهذا جعل الحربة تخترق فكَّه وتخرج من بين أسنانه، أمَّا المصباح الذي يتموقع في القسم الأعلى من اللوحة فهو رمز لموقف العالم الرافض للعدوان، ويتوسط اللوحة في ثلثها الأعلى شكل يشبه اليد الانسانية وتحمل مصباحاً صغيراً جداً لا يكاد يضئ ليكون رمزاً للظلم، فيما تتوزع بقايا متناثرة للأجساد الإنسانية التي مزَّقها القصف على خلفية اللوحة السوداء، وهي تمدُّ يديها إلى الأعلى في حركة استغاثة:

760-wijdan

وعلى الرغم من أنَّ القصف حصل نهاراً إلاَّ أنَّ بيكاسو أظهره وكأنَّه حصل ليلاً كي يزيد من تأثير المشهد المأساوي أولاً، ويؤكد سوداوية القصف ثانياً، والتأكيد على أنَّ هذه الكارثة قلبت نهار القرية إلى ليلٍ ببشاعتها، مما يؤكد على أنَّ بيكاسو عمد إلى خلق حالة الإثارة لدى المتلقي ووضعه مباشرة أمام مآسي العدوان ليثير رغبته في إدانة كل حرب تدمر الوجود الإنساني، من هنا يمكننا القول أنَّ القبح والجمال يتساويان في الظهور في اللوحات الفنية، وأنَّ القبح يمكن أن يظهر من خلال جماليات الفن .

 

د . وجدان الخشاب

العراق

11 / 6 / 2011م

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم