صحيفة المثقف

للتعايش السلمي شروط يا فقهاء الأمّة!!

كيف يمكن لك أن تقنعني أيها الشيعي: إنّك من دعاة التعايش السلمي ودولة المواطنة، وأنت ملزم بالعمل وفقاً لفتاوى فقهيّة تخالف هذه المدعيات؟! فهل ستلتزم بها لتكون من التُقاة البررة، أم ستتنكّر لها لتكون من العصاة الفجرة؟!

التساؤل أعلاه جزء من مجموعة تساؤلات مُقلقة يطرحها كثيرٌ من النابهين في الوسط الشيعيّ دون أن يسمعوا إجابة مقنعة لها، سوى ما يقرع آذاننا من هنا وهناك على طريقة: (أستر ذهبك وذهابك ومذهبك)، غالقة بذلك مسار التفكير، وواضعة عشرات الاستفهامات على كلّ من يريد أن يفتّش عن سبب ذلك.

وتعميقاً لأمثال هذه التساؤلات، ومحاولة البحث الجادّ عن حلول لها، سأطرح مثالاً فقهيّاً بسيطاً، استقيه من الرسالة العمليّة التي يُلزم مراجع الدين الشيعة مُقَلِّديهم بالعمل وفقها من أجل براءة ذِمَمِهم أمام خالقهم؛ نسلّط الضوء على هذا المثال لنعرف الآليّة التي أوصلت الفقهاء للحكم السليم في قناعتهم، وهي الآليّة التي وَصَفتُها في مقالات سابقة بـ (الآليّة الميكانيكيّة) التي تحوّل الفقه والفقاهة من علمٍ عمليٍّ يُراد منه إعطاء إجابات لاستفتاءات الناس اليوميّة، إلى علمٍ نظريٍّ رياضيٍّ يتّكأ على واقع وفهم مجتمعي سابق، وليس له علاقة بحاجات مجتمعه اليوميّة.

 

لا يجوز إعطاء الزكاة إلى أهل السنّة

أجمع فقهاء الطائفة الشيعيّة على عدم جواز إعطاء الزكاة لا للكافر ولا لغير الشيعي، بمعنى: إن من تتوفّر لديه زكاة مال، وهي التي قرّرها الله سبحانه في كتابه للفقراء والمساكين...وغيرهم من مستحقيها، فلا يجوز له أن يعطيها إلا للشيعيّ المستحقّ حصراً، ولا يُجزي إعطاءها لغيره حتّى وإن كان فقيراً إلا على أساس عناوين مصلحيّة جاذبة، بل نصّوا على أن غير الشيعي لو أعطى زكاته إلى الفقير مّمن هو على مذهبه، وبعد ذلك استبصر وتحوّل إلى المذهب الشيعي، فلا تُجزي تلك الزكاة التي دفعها للمخالف، ويجب عليه إعادتها أيضاً.

قال السيّد السيستاني وهو يشرح شرائط مستحقّي الزكاة:

«...الإيمان: فلا يُعطى الكافر، وكذا المخالف[غير الشيعي] منها...». منهاج الصالحين: ج1، ص374.

كما نصّ السيّد الخوئي (1992م) على أن هذا الحكم لا خلاف ولا إشكال فيه أصلاً، وتدّل عليه بعد الإجماع نقلًا وتحصيلًا طائفةٌ من الأخبار وأكثرها صحاح.

لا أريد أن استعرض الأخبار التي استظهر السيستاني وغيره منها هذا الحكم الذي يتناقض مع بدهيّات حقوق المواطنة ومبدأ التعايش السلمي الذي تدعو له بعض المنابر من هنا وهناك، ولكنّي سأقف على روايةٍ واحدةٍ من الروايات التي اعتمد عليها (بعض) الفقهاء في تسويغ (تفاصيل) هذا الحكم لا أصله، والرواية وإن كانت ضعيفة السند بالإرسال وعدم توثيق بعض رواتها، أو لتشكيك بعضهم في دلالتها، إلا أنّ هذا الأمر لا يعنينا كثيراً، ولن يؤثّر على أصل ثبوت هذا الحكم كما صرّح الخوئي بذلك، لكنّا سنذكرها لبيانها الواضح، كشاهد على ما نريد الوصول إليه من خطل الفهم المتداول لأمثال هذه النصوص.

روى الطوسي في كتابه التذهيب بسند غير نقي، عن الرضا (ع) قال:

«سمعت أبي [الكاظم] يقول: كنت عند أبي [الصادق] يوماً فأتاه رجل فقال: إنّي رجلٌ من أهل الري ولي زكاة، فإلى مَن أدفعها؟

فقال (ع): إلينا.

فقال: أ ليس الصدقة محرّمة عليكم؟

فقال (ع): بلى؛ إذا دفعتها إلى شيعتنا فقد دفعتها إلينا.

فقال: إنّي لا أعرف لها أحداً [أي لا أعرف مستحقاً شيعيّاً لها].

فقال (ع): فانتظر بها سنة [حتّى تجد مستحقّاً شيعيّاً لها].

قال: إن لم أصب لها أحداً؟ [أي لم أجد بعد سنة مستحقّاً شيعيّاً لها].

قال (ع): انتظر بها سنتين، حتّى بلغ أربع سنين، ثمّ قال له: إن لم تصب لها أحداً فصُرَّها صراراً واطرحها في البحر؛ فإنّ الله عزّ وجلّ حرّم أموالنا وأموال شيعتنا على عدوّنا».

وهنا علّق المرحوم السيّد عبد الأعلى السبزواري (1993م) قائلاً: «المراد بالعدوّ هنا: كلّ من أنكر الولاية وقدّم غيرهم عليهم، وأيّ معاداة أشدّ من ترجيح المرجوح على الراجح، وإزالة الحقّ عن أهله ومحلّه؟!» مهذّب الأحكام: ج11، ص218.

وبغض النظر عن المناقشات في سند الرواية ودلالاتها التي سجّلها جملة من الفقهاء المعاصرين كما أسلفنا، لكنّي سأطرح تساؤلاً أفتح من خلاله المجال للرؤية السليمة التي نعتقد بصحّتها في أمثال هذه النصوص، والسؤال هو:

لو كان الإمام الصادق (ع) خليفةً للمسلمين في حينها كجدّه علي بن أبي طالب (ع)، وامتدّت خلافته من البحر إلى النهر، ومن المحيط إلى الخليج، فهل سيجيب بنفس هذا الجواب الذي ذكره أيام الهدنة كما يعبّرون، ويمنع الأكثريّة من فقراء شعبه ومساكينهم من حقّهم المشروع، أو سيتعامل بطريقة مختلفة تتّكأ على أساس قانون المواطنة والمساواة بين جميع أطياف الشعب في الحقوق والواجبات؟!

سأترك المجال لفقاهة الشيخ حسين علي المنتظري (2009م) لتجيبنا على هذا السؤال، وهو فقيه انطلق في فهم أمثال هذه النصوص من سياق دولة ونظام ومواطنة واستحقاقات مجتمعيّة، ورؤية تختلف عن الرؤية المشهورة (بعض) الشيء؛ إذ لم يؤمن هذا الفقيه بثبوت إطلاق لأمثال هذه الأخبار، يمنحُها صلاحيّة الامتداد إلى كلّ زمان ومكان كما فعل مشهور الفقهاء الإماميّة، بل قرّر: أن الأخبار التي استفاد منها المشهور هذا الحكم [أعني عدم جواز إعطاء الزكاة إلا للفقير الشيعي] إنّما هي لبيان وظيفة الشخص الذي يُزكّي فقط؛ رعاية لظروف خاصّة، ومن هنا فلا يمكن الحكم بشمولها للوالي الذي يُعدّ مبسوط اليد على الإطلاق، خصوصاً إذا لحظنا سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وبعض النصوص الروائيّة الصحيحة.

لكن المؤسف: إن فقهاءنا المعاصرين تعاملوا مع أمثال هذه النصوص بطريقة رياضيّة؛ حيث كبّلوا أنفسهم بمجموعةٍ من القواعد الكلاميّة والأصوليّة والفقهيّة التي لا يمكن لها أن تنتج غير ما ذكروه؛ لأنّهم فرضوا في الرتبة السابقة: إن جميع حركات وسكنات المعصوم هي تشريع صالح لكلّ زمان ومكان، وقد تغاضوا عن حيثيّة المعصوم البشريّة، والتي لا يمكن سلبها عنه مهما فرضنا عليه قيود كلاميّة أو فلسفيّة أو عرفانيّة، ولكن: الذي دفع وسيدفع ثمن نتاجات هذه القواعد هم: أيتام آل محمد (ع) فقط، كما هو حاصل بالفعل.

 

ميثاق العسر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم