صحيفة المثقف

الدين والظمأ الأنطولوجي للمقدس

801-jabarيثير المفكر الاسلامي عبدالجبار الرفاعي في كتابه الجديد (الدين والظمأ الأنطولوجي) أكثر من قضية اشكالية في التفكير الديني اليوم، أهملها الكثير من كتّاب الأدبيات الاسلامية، إذ نجد المفاهيم والشعارات في هذه الأدبيات تتبادل الكلمات والعبارات ذاتها. وهي كلها كتابات مسكونة بالدعوة لتغيير العالم، في ضوء تفكير مبسط، يختزل المفاهيم المركبة بفهم وعظي مسطح، لا يمتلك أدوات ومهارات الحفر في طبقات المجتمع، ولا يستند الى كشوفات العلوم والمعارف البشرية الحديثة، ومعطياتها البالغة الأهمية في التعرف على طبقات النفس البشرية، ونسيج العلاقات الاجتماعية، وفاعليات التغيير، وعوامله المرئية وغير المرئية.

لكن كتابات الرفاعي خلافا لغيرها من كتابات زملائه، مسكونة يتفسير العالم وليس تغييره، انها تحاول تحليل طبيعة النفس البشرية، والتعرف على مدياتها وأغوارها، ودراسة الدين وتجلياته المختلفة في المجتمعات، والتعرف على أنماط التدين، عبر دراسته في ضوء الوقائع المجتمعية المتنوعة، والكشف عن العوامل المتعددة المنتجة له، وكيفية ولادة تلك الأنماط وتعبيراتها وتحولاتها وتطوراتها، كل ذلك يقوم به الرفاعي في سياق المعطيات الحديثة والراهنة للعلوم الانسانية، بدراية وفهم جيد.

يتحدث الرفاعي عن الدين، ويدافع عن أصالته ومكانته المحورية في حياة الكائن البشري، لكنه لا يكرر ما يقوله غيره من زملائه الاسلاميين. فلا نعثر في كتابه هذا على توصيات وأحكام قيمة، وصيغ جاهزة، وشعارات مبتذلة، بل حتى عنوان كتابه (الظمأ الأنطولوجي) هو عنوان مبتكر، لم أعثر عليه في الكتابات العربية، مضافا الى أن عناوين فصول الكتاب غير متداولة في الأدبيات الاسلامية، إذ يعالج الدكتور الرفاعي ما أسماه (نسيان الذات)، وهذا الضرب من النسيان من المنسيات في كل كتابات زملائه الاسلاميين، وكأنه هنا يستأنف البناء على القاعدة (اعرف نفسك بنفسك) التي صاغها الفيلسوف سقراط "469 – 399ق.م". كذلك يعالج الرفاعي في فصل آخر (نسيان الإنسان)، وفحوى معالجاته هذه تشير بما هو مهمل في التفكير الديني اليوم.

يشي مدخل الكتاب بمضمونه الذي تدور حوله موضوعاته، وهو: (الدين والظمأ الأنطولوجي للمقدس)، يضعنا الرفاعي في صورة ما يرمي اليه في فصول هذا الكتاب، فيشدد على أن هدف الكتاب يتلخص في اكتشاف مهمة الدين ومجاله في حياة الكائن البشري، وكيف تم التلاعب بذلك في هذا العصر، عندما عملت الجماعات الاسلامية على ترحيل الدين واخراجه من حقله الخاص الى فضاء آخر، تحوّل معه الدين الى وقود يحترق في صراعات الهيمنة والاستحواذ على المال والقوة والسلطة.

801-jabarيرى الرفاعي الى مهمة الدين المركزية بوصفها تتمثل في إرواء ظمأ الكائن البشري للمقدس، فحيثما كان انسان لا ينفك عن هذا الظمأ، وحيثما كان الظمأ للمقدس لابد أن يحضر الدين. كذلك يرى الرفاعي أن الدين يقدّم تفسيراً وتبريراً لتأبيد الحياة، واستمرار وجود هذا الكائن على الدوام. إذ يشرح الدينُ الموتَ بالشكل الذي يغدو فيه مجرد تحول من طور وجودي إلى طور وجودي آخر، أو تبدّل من نمط وجود إلى نمط آخر، أو من نشأة إلى نشأة أخرى.. ويضيف: صحيح أن الطور الثاني يكتنفه إبهام وغموض، غير أن الدين يقدّمه كمعطى نهائي ناجز لا نقاش فيه، ويصوّره بنحو يتبدى فيه مقنعاً لمعتنقيه، بوصفه شكلاً من التطور والصعود والتجرد والتسامي في رحلة تكامل الكائن البشري.

ولا تقتصر مهمة الدين على ذلك، بل أنه حسبما يعتقد الرفاعي، يمنح الانسان معنى لما لا معنى له، ذلك أن: الإنسان يبحث عمّا يتجاوز الوقوف عند سطوح الأشياء، والاكتفاء بظواهرها، ومفهوم أعراضها الحسية، فهو يفتش على الدوام عمّا هو أبعد مدى من المعنى البسيط. إنه في توق لاكتشاف "معنى المعنى". في رحلته مع الدين وبالدين يمكنه بلوغ "معنى المعنى"، ذلك أن الدين يمتلك جهازاً تفسيرياً يسمح بتعدد التأويلات وتوالدها، فكما أن الوجود لا متناهٍ، فإن الكائن البشري بطبيعته لا يكفّ عن ملاحقة التفسيرات والتأويلات اللامتناهية أيضاً،كي يعزز ذلك شعورَه بأنه ليس متناهياً.

أثار الفصل الأول موضوعا مهملا في أدبيات الاسلاميين، تناول فيه المؤلف (نسيان الذات)، بالشرح والتحليل، فأضح أن الإنسان يولد بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضًا: القلق، اليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والعدمية، والجنون... إلخ.   وكشف عن أن عودة المرء لذاته تبدأ بالخلاص من عبودياته، واسترداد حرياته، ونبه إلى أن (أخطر أنماط العبوديةِ عبودية العقلِ، إنها هي الّتي تُفضي إلى عبوديةِ الروحِ والعواطفِ والضميرِ. الجبانُ عقلُه مشلولٌ، لا طاقةَ لديهِ للتفكيرِ، ذلك أنّ التفكيرَ شجاعةٌ، وأحياناً تكون ضريبتُه موجعةً، وفي بلادنا من يفكّر بحريةٍ لابدَ أن يكونَ مُستعداً للتضحيةِ بمقامهِ ومالهِ وانتمائهِ لجماعتهِ، بل ربما حياتهِ).

الفصل الثاني جاء بعنوان: (نسيان الإنسان)، والذي يغطي 70 صفحة من الكتاب، وهو كما وصفه المؤلف (محاولة أولية لكتابة سيرة ذاتية). ويشير الرفاعي في أول فقرة من هذه السيرة إلى (صعوبة الاعتراف)، بل يعترف بتعذر الحياد والموضوعية في (كتابة الذات عن الذات، ورواية الذات لسيرة الذات)، إذ يصرح بأنه: أمضى قرابة أربعة عقود من حياته في الحوزة العلمية، وانخرط في عمر مبكر في الجماعات الإسلامية، مضافا الى ولادته ونشأته في قرية جنوبية لا تنتمي الى العالم الحديث، وكل هذه المحطات يسودها التكتم وقلة البوح والاعتراف. ومن الجميل أن يعلن الرفاعي بصراحة: (لا أزعم أني أمتلك ما يكفي من روح المجازفة والمغامرة والشجاعة، لتدوين ما يخدش الحياء، أو ينتهك التابوات المتجذرة في عالمنا، خاصة وأني مازلت منتمياً للحوزة، ومتساكناً مع الإسلاميين بألوانهم واتجاهاتهم كافة، وحريصاً على حماية ذاكرتي المشتركة معهم، وعدم التضحية بعلاقاتي التاريخية، بل أعمل على تعزيزها، وعجزي عن الانفصال والخروج والانشقاق على المحيط الاجتماعي، ذلك أن من يعترف بخطئه في مجتمعاتنا يغامر بفقدان هويته، ويكون الطرد والنفي واللعن مصير كل من ينتقد قبيلته وطائفته وحزبه). لكنه مع كل ذلك لا يبخل باعترافات مثيرة في محطات حياته، تحكي الوقائع والظروف والأوجاع والبؤس والحرمان الذي كابده في طفولته، وانخراطه في بداية شبابه في حزب الدعوة، ودراسته وتدريسه في الحوزة التي بدأت سنة 1978 واستمرت الى اليوم. وهو لا يمر على تلك المواقف مرورا عابرا، وانما يحاول أن يقدم لنا في سياق كل موقف تفسيرات متنوعة، ورؤى فلسفية، وتأمل نقدي عميق، حتى أضحت وقائع حياته هامشا محدودا حيال ما صاغه من مفاهيم وآراء ونتائج لتحليل وتفسير تلك الوقائع والحوادث، التي تبدو لنا عادية بالنظرة الأولية. يختم الرفاعي سيرته بقوله: ( تعلّمتُ أن الحياةَ عبورٌ متواصلٌ... لا أتهيب المغامرة مهما كانت شاقة، ولو افتقدتُ أية وسيلة أستعين بأظفاري للحفر بين الصخور، والعض بأسناني لتفتيتها،كما هي عادتي، منذ مغادرتي بيت أهلي بعمر اثني عشر عاماً، واستقلالي في إدارة شؤون حياتي، وتجرّع مرارت أيامي).

نتمنى على الرفاعي كتابة هذه السيرة بشكل موسع، وطباعتها في كتاب مستقل، بعد تحريرها وتغذيتها بمحطات حياته، وتطور تجربته الروحية الاخلاقية الفكرية. انها سيرة ملونة لشخص ريفي، انخرط مبكرا في الجماعات الاسلامية ثم غادرها 1985، كما درس في الحوزة 1978 التي مازال يواصل انشغالاته التدريسية والفكرية في فضائها، وهي سيرة لا تغرق باليومي والعابر، إلاّ بقدر توظيفه لتشكيل رؤية للعالم، وبناء فهم للحياة، ورسم صورة تلتقي فيها ألوان متنوعة، تبدو كأنها لوحة ناطقة. يحتاج الشباب الاسلاميون لهذه السيرة قبل غيرهم، وأخال انها مرآة ترتسم فيه أحلامهم وأقدارهم، وربما مصائرهم، ذلك أن أحلامهم وأقدارهم هي أحلام وأقدار الرفاعي أمس، وان دروبه دروبهم، وان مآل الرفاعي اليوم يتطابق معهم في: ايمانه، واخلاصه لدينه، وتدينه، وأخلاقه.. وإن كان اشتق لنفسه دربا لا يتطابق مع كتّاب أدبياتهم، وسلوك الكثير من رجالهم.

تحدث الرفاعي في الفصل الثالث من كتابه عن: (المثقّف الرسوليّ علي شريعتي)، وهو يعني بمصطلح (المثقّف الرسوليّ) هنا (المثقّف النبويّ)، أي ذلك المثقف الذي يرى نفسه بمثابة النبي المرسل إلى أمته لهدايتهم. وأردف الرفاعي عنوان الفصل بتوضيح ينص على أن ما قام به شريعتي هو (ترحيل الدين من الأنطولوجيا إلى الأيديولوجيا)، فشرح كيف عمل شريعتي على (أدلجة الدين والتراث). اتسمت هذه الكتابة عن فكر شريعتي بالتحليل النقدي، وتشريح مرجعيات فكر شريعتي، واحالته الى الروافد التي تغذى منها، ومحاكمة آرائه، بالاعتماد على نصوصه الفارسية. وبوسعنا القول ان هذا الفصل مرافعة نقدية جادة لأدبيات الجماعات الاسلامية، عبر اختيار مؤلفات شريعتي كنموذج، بوصف هذه الآثار ظلت ملهمة لأكثر من جيل من الشباب، وما زالت حتى اليوم واسعة الانتشار في البلاد العربية، بعد ترجمة معظمها مؤخرا. ولا تبوح بمحتواها الأيديولوجي إلاّ للخبير الذي يقوم بحفريات دقيقة لآرائه. وهي أول مراجعة شاملة تغربل أفكار علي شريعتي بالعربية.

تناول الرفاعي في الفصل الرابع: (التجربة الدينية والظمأ الأنطولوجي للمقدس)، فأوضح أن التجارب الدينية بمختلف مستوياتها وأنماطها هي منهلُ إرتواءِ الظمأ للمقدس. ومع أنها تختلف باختلاف البشر، وتمثلهم للالهي في البشري، لكن كلَّ شخصٍ يرتوي منها حسب استيعاب ظرفِ وعائه، وقدرتِه على المثول في حضرة الله. التجربة الدينية تمثل البعد الأنطولوجي في الدين، وجوهره وذاته وروحه وباطنه العميق. التجربةُ الدينية جوانيةٌ، غاطسةٌ في الذات، بل متماهيةٌ معها، لا يمكن بلوغُها بأدواتٍ ووسائلَ حسية، وربما لا تشير اليها ظواهرُ التدين إلخارجية، أو قد تشي بعكسها أحياناً، كما لدى بعض رجال الدين، الذين ربما يؤشر خطأ ما يمارسونه من قداسات وطقوس وشعائر، إلى عمق تجاربهم الدينية، رغم أن عالمهم الباطن بعيد عن الله.

في الفصل الخامس عالج المؤلف (تكفير الآخر المختلف) وكيف اننا جميعا نهرب من تسمية الأشياء بأسمائها، ونلجأ لحيل مفضوحة، تتكتم على ما تتضمنه المدونة الكلامية والفقهية، من أحكام: المشركين، أهل الذمة، الرق، الجزية.. إلخ. وتكفير الفلاسفة وذوي التفكير الحر، وأتباع الفرق والمذاهب.. فقد كفّر ابن تيمية مثلا من المسلمين: الفلاسفة، والمتصوفة، والجهمية، والباطنية، والإسماعيلية، والنصيرية، والإمامية الإثني عشرية، والقدرية.

ورأى الرفاعي أن مأزقنا يتلخص في أن العقل الإسلامي يكرّر ذاتَه باستمرار، ولا يني يستنسخ ماقاله الأوائل، ويستأنف قواعدهم وعباراتهم ومصطلحاتهم وآراءهم كما هي. ولم يخرج من نسَجَ على منوالهم واقتفى آثارهم عن تلك القواعد والآراء في الغالب، إلاّ بحدود بيان القاعدة وشرح العبارة، وشرح شرحها، والحواشي والتعليق عليها، وتوضيح المراد واستخلاص المضمون. ذلك "أن الأول لم يترك للآخر شيئا"، حسب القول الموروث، الذي سمعناه وقرأناه كثيرا، وأضحى قيداً على تفكيرنا، لايسمح لنا أن نفكّر كما فكّروا، ونتأمل مثلما تأملوا، ونصوغ قواعد بديلة لتفكيرنا الديني، في سياق عصرنا ورهاناته، والمعارف والعلوم والفنون المستجدة فيه، كما صاغ السلف قواعدهم التي تشكّلت المعارف بالتدريج في مرحلة بعيدة زمانياً عن عصر البعثة الشريفة، واستقت من المعطيات السائدة في عصرها، ولم يتخطَ أفقُ انتظارها من الدين المشروطيةَ اللغوية والسياسية والاجتماعية والنظام المعرفي والرؤيةَ للعالم المهيمنة فترةَ انبثاقها. ينبغي ألاّ نفتقر للحسّ التاريخي في دراسة الموروث الديني، ولا نتردّد في اكتشاف مواطنِ قصوره وثغراتِه المتنوعة، وعجزِه عن الوفاء بمتطلبات روح وقلب وعقل وجسد المسلم اليوم. فضلا عن ضرورة أن نتعرف على آفاق الحاضر، ونستبصر مديات المستقبل. وشدد الرفاعي على ضرورة الخروج عن المناهج والأسس وأدوات النظر الموروثة للتفكير الديني، بوصفها "أنساقاً عميقة" وحدوداً نهائية، يعاد انتاج الأسئلة والأجوبة ذاتها من خلالها كل مرة. انها تعطّل العقلَ، وتسجن عمليةَ التفكير الديني في مداراتها المغلقة، ولا تكف عن التكرار والاجترار، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ. تبدأ مثلا من أصول الشافعي ولاهوت الأشعري لتنتهي بهما، وتنتهي بههما لتبدأ منهما.. وهكذا.

هذه اشارات لبعض فصول هذا الكتاب، ولم نستوعب فصوله الأخرى، وهو كتاب تخطى ما هو مكرر في الكتابات الاسلامية المماثلة: إن من حيث عنوانه، أو مضامينه، أو عناوين مباحثه، أو جرأته على قول ما لم يقله غيره، أوكشفه عن حدود حقل فاعليات الدين وآثاره الايجابية البناءة، وكيف انه لو تم اقحامه في حقول أخرى تنقلب وظيفته الى الضد، اذ يصير اداة للهدم لا البناء، وتنضب كل فاعلياته وآثاره الايجابية، كما تبرهن على ذلك صورته المتوحشة اليوم في تدين داعش والسلفية الجهادية، وكما يدلل على ذلك اختباره في فشل وفساد تجربة اسلاميي السلطة في البلاد العربية.

 

هاجر القحطاني

قاصة وناقدة عراقية مقيمة في لندن.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم