صحيفة المثقف

الحب والصمت .. من كتاب عالم الصمت لماكس بيكارد

هناك صمتٌ اكثر من اللغة في الحب.

أفروديت، إلهة الحب، خرجت من البحر، من بحر الصمت. أفروديت هي أيضا إلهة القمر، التي قبضت على صمت الليل بشبكة خيوط ذهبية القتها الى الارض.

كلمات العشاق تزيد الصمت. أنها تخدم فقط لجعل الصمت مسموعا. كل الظواهر الاخرى تأخذ شيئا من الصمت؛ وحده الحب الذي يمنح من نفسه الى الصمت.

العشاق هم متآمرو الصمت. حين يتحدث الرجل الى حبيبته فانها تنصت الى الصمت اكثر مما تنصت الى الكلمات المنطوقة لحبيبها. "أسكت"، تبدو انها تهمس له. " أسكت لكي اتمكن من سماعك !"

الماضي والحاضر والمستقبل في اتحاد في الصمت. ولهذا رُفع العشاق أعلى من استمرارية الزمن القاسية. كل شيء يمكن ان يبدأ ثانية. المستقبل و الماضي كليهما محفوفان بالحاضر الابدي . يقف الزمن ساكنا من اجل العشاق. فطنة و هواجس العشاق تأتي من الوحدة التي يكون فيها الماضي والحاضر والمستقبل موجود في الحب.

لا شيء يوقف التدفق الطبيعي للحياة العادية بقدر ما يفعله الحب. لا شيء يعيد العالم الى الصمت اكثر من الحب.

خلال الصمت الموجود في الحب، يتم انتزاع اللغة من عالم الصخب والضجيج اللفظي و تعاد الى اصلها في الصمت. العشاق هم اقرب الى بداية كل الاشياء، وقت كانت اللغة غير مخلوقة بعدُ، وقت كان يمكن ظهور اللغة في اية لحظة من كمال الصمت الخلاق.

ليس اللغة وحدها بل العشاق انفسهم تم تخليصهم بالحب من عالم " الظواهر الناشئة" (غوته) ويقادون الى الظواهر الاولية اللاأصلية. الحب ذاته هو الظاهرة الاولى، ولهذا السبب فان العشاق عُزّل بين الناس الاخرين. لانهم يعيشون في عالم الظواهر الاولية، في عالم حيث يكون الساكن اكثر اهمية من الديناميكي، والرمز اكثر اهمية من التوضيح، والصمت اكثر اهمية من الكلام.

التكتم الموجود في الحب هو التكتم الذي في كل البدايات. العشاق يترددون من النزوح من عالم البدايات الذي يسكنونه في الحب الى عالم الضجيج الصاخب.

كلّ التحولات التي يمكن ان يمر بها الرجل او المرأة خلال تجربة الحب تأتي من تلك البداية الجديدة التي هي هبة كل الظواهر الاولية اللاصلية. والقدرة التي يستمدونها من الحب تأتي من القوة التي يتمتع بها الحب باعتباره احد الظواهر الأولية.

تشرق وجوه العشاق بألق ضوء الحب الاصلي. ولهذا السبب تصبح الوجوه اكثر جمالا في الحب.

كل ألغاز العشاق تنبع من متاخمة اصول الحب الخافية. كلما تعيش قريبة من هذا اللغز الاصلي كلما سيكون حبهم اكثر ثباتا و مكابدة.

العشاق مضطربون، انها حقيقة. الا انه اضطراب لغز الحب المرتد من الظاهري نحو الواقع، بينما هو يحوم مرتعشا على تخوم العالم الخارجية.

الا انه يحن الى وعي الذات، وليس هناك ظاهرة اولية اخرى تجازف بالمخاطرة الى حد بعيد في هذا العالم الخارجي كما هو الحب. ليس هناك في اي واقع ظاهري توجد الظاهرة الاولية واضحة جدا كما هو في الواقع الظاهري للحب. وليس في أيّ مكان آخر يكون اللغز الاصلي و الواقع الظاهري قريبان الى بعضهما كما في الحب.

لقد قلنا ان هناك صمتا اكثر من اللغة في الحب. ان كمال الصمت الموجود في الحب يصل الصمت الموجود في الموت: الحب والموت ينتميان الى بعضهما. كل فكرة وكل صنيع في الحب يصل من خلال الصمت الى الموت. لكن معجزة الحب هي انه حيثما يكون الموت يظهر الحبيب.

ثمة صمت في الحب اكثر من الكلام:

" ان من الاسهل بصورة لا تقبل المقارنة ان يحب المرء عندما يكون صامتا مما عندما يتحدث. ان البحث عن الكلمات مؤذ لحركة القلب في الحب. لو ان المرء لا يفقد في الحياة شيئا سوى الحب، فان الفقدان عظيم، لو يعرف المرء   القيمة الحقيقية للحب. (هامون، تم الاستشهاد به من بريموند، الصوفية والشعر) .

انه من الاسهل ان تحب عندما يكون الصمت. انه اسهل لانه يمكن للحب ان يصل في الصمت الى اقصى زوايا في الفضاء. لكن هناك خطرا ايضا في هذا الصمت: هذا الفضاء الذي يمتد الى اقصى الزوايا هو صمت لا محدود و مطلق؛ ثمة فسحة فيه لكل شيء، حتى للاشياء التي لا تخصّ الحب.

انها اللغة التي تجعل في البداية الحب واضحا و محدد المعالم، التي تمنحه ما يعود اليه فقط. انها اللغة التي تجعل الحب أولا ملموسا و تضعه بثبات على ارض الحقيقة الصلد. خلال اللغة وحدها يمكن للحب ان يصبح حب الرجل والمرأة الحقيقي.

"الحب هو الينبوع العادي الذي غادر سرير الحصى المحفوف بالازهار والذي يغيّر كتيار او كنهر طبيعته ومظهره مع كل حركة الآن، و يتدفق اخيرا في محيط لا متناه، الذي يتراءَى للعقول الناقصة أن يكون مليئا بحركة رتيبة، لكن الارواح العظيمة تصبح على شواطئه مستغرقة في تأمل لانهائي." (بلزاك)

 

قحطان جاسم

...................

ترجمة من كتاب

Max Picard, The World of Silence, tr. by Stanley Godman, London: The Harvill Pess, 1948

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم