صحيفة المثقف

الربيع العربي الملغوم.. إستشراف الأزمات القادمة

jamal alatabiلم يمنع الثلج النرويجي الدكتور جعفرعبد المهدي صاحب، إذ إختار منفاه بعيدا، من أن يوقظ فينا الروح الساخنة، وهو يتناول بالدراسة والبحث قضايا عصرنا التي تتدفق في عقله وضميره بالتحليل العميق والرصدالماهر، إذ أغنى هذا الرجل مكتبتنا بأكثر من عشرين كتابا، صدرت له عن دور نشر عربية وأجنبية، وعشرات المقالات والدراسات في ميادين السياسة والفكر والمعتقدات الدينية القديمة، والإجتماع والفلسفة، وعدّ باحثاً متخصصا في معرفة ومتابعة الشؤون البلقانية،لسعة إطلاعه فيها،لأنه درس وتخرج من جامعة بلغراد (اليوغسلافية)، وعمل لسنوات طويلة في معاهد وجامعات ليبيا مدرّسا وباحثاَ،ونال جوائز عدّة، لنشاطاته ومشاركاته الفكرية والأكاديمية .

إن صدور كتابه الأخير(الربيع العربي الملغوم)، هو الذي دعاني الى البدء بسيرته الذاتية أولا، وهو غني عن التعريف، إذ أزعم ان قلة من المتخصصين والمتابعين من لم يتوقف عند منجزه الفكري،وأسمح لنفسي نيابة عن هذه القلة لأقول : ان القارىء العراقي، لعقود من الزمن ظل محروما من التعرف على الجهد الفكري الإنساني، بسبب سياسات القمع، ومصادرة الحريات التي مارستها الديكتاتوريات، وانظمة الإستبداد، والحروب والحصارات، أبشع ما فيها، أنها انتجت فجوة تاريخية تراجع فيها العقل العراقي، وقدرته على الإبداع .

   قدم الدكتورجعفر كتابه الصادر مؤخراً عن (دار نيبور للطباعة والنشر) إستشرافاً مستقبلياً لمجرى الأحداث في المنطقة العربية وما جاورها، معتمداً على تخصصه الدقيق المقترن بالتجربة الميدانية، إذ حاول الكاتب أن يسلط الضوء على علاقة (الربيع العربي) بالوضع في البلقان، وأحسب انها دراسة جديدة لم يتناولها باحث آخر، فيعود بالقارىء إلى إتفاقية (دايتون*) للسلام في البوسنة، والتي عدّها الكاتب، المفتاح الفعلي للدخول في أجواء العولمة السياسية والإقتصادية التي يشهدها عالم اليوم .

     وتتلخص رؤية الكاتب، بأن المخطط الغربي عمل على خلق بؤرالصراع في أطراف المنطقة العربية، في الدول التي تحكمها أنظمة إسلامية (أفغانستان، الشيشان، البوسنة، كوسوفو) وتأجيج عوامل التناقض والإحتراب فيها بين القوميات والاديان والطوائف،وأستدراج قوى (الإسلام السياسي) للدخول بقوة لحلبة هذا الصراع، لخلق المبررات في إستهداف البنى الإقتصادية والإجتماعية في هذه الدول وصولا للغايات ذاتها في منطقة أخرى مجاورة (الشرق الأوسط)، ويعتقد الكاتب كذلك ان من بين المرامي الاخرى الأساسية، العمل على إستهداف الدين الإسلامي برموزه ومقدساته .

ولكي يصل بالمتابع لهذه النتائج، قدم الكاتب جهداً طيباً في تتبع بدايات (الربيع) في بلدان ومدن اوربية (بودابست، براغ، وارشو، فرنسا، المانيا)، ومن ثم (الربيع العربي) الذي تشبّه بالأحداث التي سبقته، عبر سلسلة من الإحتجاجات والتظاهرات المطالبة بالحرية وحقوق الإنسان، والعدالة الإجتماعية، بمجابهات حادة مع سياسات الإستبداد والديكتاتورية والحزبية الضيقة ، والإنغلاق الفكري .

وقدم لنا الكاتب توضيحا لأسباب إختياره معاهدة (دايتون) عنواناً لدراسته، فهي برأيه، من أخطر الإتفاقيات الدولية الموقّعة في القرن العشرين، لأنها مهّدت الطريق لنهج العولمة، وشرعنت سياسة التدخل، وأجازت تحطيم سيادة الدول، وفتحت الطريق نحو محاكمة رؤساء الدول خلافا لمبدأ الحصانة المتعارف عليها دولياً، وخرق قاعدة التوازن في العلاقات الدولية والمحكومة بمبادىء القانون الدولي العام .

في (دايتون) تمت التسوية، ونجح (الراعي) الأمريكي في فرض سياسته على الأرض وتم إقتسام الارض بين الأطراف التي قاتلت من أجلها .إن مايريد الكاتب الوصول إليه من إستنتاج، بصدق وواقعية، وهو العارف بلغة وتاريخ بلدان الأزمة، والشاهد الميداني على أحداثها من مصادرها الأصيلة، هو القول، بأن الإتفاقية وما تضمنه من إحتلال مقنن، وضعت حجر الأساس لإحتلال العراق عام 2003، وكانت المهر المقدّم لعقد نكاح (الربيع العربي) على سنّة الولايات المتحدة ورسولها حلف الناتو، وما تمخض عنه من نتائج كارثية، وعلى حد تعبيره (الطامة الكبرى)، بصعود القوى الظلامية والرجعية التي تلبست بثياب الدين،وخطفت ثمار الربيع العربي، بالقفز الى السلطة في تونس ومصر (قبل التصحيح)، وليبيا، تزامنا مع سيول من الدماء والحرائق غير المنقطعة في العراق وسوريا واليمن، تستند الى عقيدة مريضة، وفكر ظلامي متشدد، إستهدف الحياة والوجود الإنساني .

إن المشهد المقبل كما يراه الكاتب، فيه الكثير من الضبابية والتشوش، وخطابه وإن تضمن إشارا ت للتنبيه، إلا انها تدل على كثير من مخاوف ومخاطر تحيق بهواجسه التي تريد الحفاظ على المشروع الوطني، وبقدر إخلاص الكاتب الى وطنيته وإنفتاحه على التجارب الإنسانية، فإنه قلق على مستقبل تعبث به الإرادات الدولية والإقليمية، على وفق مخططاتها الشريرة بإعادة تشغيل سيناريو (دايتون) من جديد في المنطقة .

وفضلا عما قدمه الدكتور جعفر من قراءة متأنية للتاريخ القريب، ورؤى ذات دلالات عميقة لمستقبل المنطقة، فانه أضاف الى بحثه ببلوغرافيا بأسماء الأعلام، من سياسيين وقادة دول،فإختصر الجهد والوقت في السؤال لدى القارىء، عن دور كل منهم في الأحداث التي تناولها، معززة بالأرقام والتواريخ، ولغزارة المعلومات فيها، فإنها لوحدها، تعد مرجعا مضافا لما قدمه من جهد أكاديمي رصين يستحق التقدير والقراءة .

 

جمال العتابي

......................

* دايتون: إحدى مدن ولاية أوهايو الأمريكية التي تم فيها توقيع الإتفاقية بين أطراف النزاع في البوسنة والهرسك بإدارة الرئيس الامريكي كلنتون في 25/تشرين الثاني/ 2005

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم