صحيفة المثقف

مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب" لمالك بن نبي بين السيرة الشخصية والتاريخ وفلسفة الحضارة (2-4)

2bobaker jilali- مذكرات شاهد للقرن 20 "الطالب" للتاريخ

حرص الإنسان منذ وُجد أوّل مرّة على تخليد ما يحدث له وما يُحدثه هو، فيُدوّن ما ينتجه عقله وما تصنعه يده، من خلال وسائل شتى، وبأسلوب مباشر أو بأسلوب غير مباشر، وتطور التسجيل المخلّد بتطور وسائله وأساليبه في المكان وعبر الزمان، وبفعل تطور البناء الحضاري وتراكم المنتجات الحضارية عبر تاريخ الإنسانية الطويل، حيث سجّل الإنسان أفكاره وسائر أعماله خاصة تلك التي تتمتع بالأصالة والإبداع، في حال الحرب وفي السلم، عند القوّة وفي حال الضعف، في كل الأحوال وفي جميع مجالات الحياة من غير استثناء، سجّل انتصاراته وانكساراته، سجّل ثقافاته وسائر مظاهر هذه الثقافات، من تفكير متنوع وعلوم مختلفة وعقائد متعددة وألوان كثيرة من الفنون والسياسات وكذلك التقنيات والصناعات.

خلّد الإنسان ما أبدعه على الحجر والشجر والمعادن وعلى كل ما صنعته وأخرجته يده بهدى العقل من الحجر والشجر والمعادن ومما تدّخره الطبيعة، طبيعة البشر والطبيعة الخارجية الموضوعية، وكان الهدف من التدوين تخليد مآثر البشر وتكريمه، لتستمر الحياة الإنسانية في اتجاه العطاء والتفوق والتألّق حضاريا في الجانبين النظري والعملي، الروحي والمادي.

جاء الدور في ميدان تخليد أعمال البشر على التاريخ أو التأريخ وعلى أهله في حفظ الماضي الذي كان بالأمس حاضرا ينعم بالحياة، وفي صون المواد التاريخية على اختلاف أنواعها ومجالاتها، التي هي مآثر وأمجاد وبطولات البشر، وكذلك مطبّاتهم وهناتهم وسقطاتهم، وصار التاريخ ذاكرة الإنسان، تاريخ الشعوب والأمم والأوطان، وتاريخ الأفراد من تاريخ الجماعات، وتاريخ أمة يعني ذاكرتها التي تحدد ماضيها، وأمة بدون ماضي فهي بدون جذور ومن غير روح وليس لها هوية، فالتاريخ سجل الماضي وذاكرة الشعوب وروح الأمم وهوياتها، وأمة من غير تاريخ لا ذاكرة لها ولا روح، فهي أمة في سبات بل ميتة، من هنا سجّل الإنسان ولازال يسجل ما يصدر عنه في حياته الفردية والجماعية.

صار التاريخ يلازم جميع جوانب حياة البشر، فُرادى وجماعات، تاريخ العلماء وتاريخ الفلاسفة وتاريخ الفنانين وتاريخ الساسة وتاريخ المخترعين والمبدعين وتاريخ الرحلات وغيرهم كثير، وكذلك تاريخ العشائر وتاريخ القبائل وتاريخ الأمم والشعوب وتاريخ الدول وغيرها كثير، كل ما يقع في ميدان حياة الإنسان الفرد أو الجماعة يشمله التاريخ، ومن أهمية التاريخ في حياة الإنسان وحاجته الملحّة إليه، ودوره في حفظ الماضي في الحاضر وبناء المستقبل، وضمان حاجة الإنسان للإنسان من خلال وصل السابق بالراهن وربطه باللاحق، لهذه الأهمية نما فعل التأريخ وتطوّر لكون الإنسان أولاه بعنايته واهتمامه منذ القديم، فنمت مع ذلك حياة الإنسان وتطوّرت.

ومن نتائج العناية الخاصة التي أولى بها الإنسان التاريخ أن أوجد فنونا فكرية وأدبية وفنية كثير ومتعددة طابعها روحي ومادي تصب في التاريخ، فهي تمثل مرجعياته ومستنداته، تعينه ويستند إليها عند الحاجة باعتبارها مصادر مباشرة وغير مباشرة، لا يمكنه الاستغناء عنها في حصر وضبط وتحديد الحوادث الماضية والذكريات زمنيا ومكانيا، من أجل دراستها وتحليلها وتفسيرها واستثمارها في الحاضر ولبناء المستقبل، من هذه الفنون الفكرية والأدبية والفنية الشعر بجميع فنونه وأغراضه، والنثر بكافة ألوانه وميادينه، وسائر الفنون الأخرى التي عرفتها حياة الإنسان.

لعلّ أبرز الفنون الفكرية والأدبية وأقربها للتاريخ، التي يجد فيها المؤرخ ضالته فن التراجم والسيّر باعتبارها لونا فكريا وأدبيا يتناول التعريف والإحاطة بحياة رجل أو أكثر، إحاطة قد تطول وقد تقصر، تكون عميقة أو سطحية، دقيقة واضحة أو عامة غامضة، كافية أو ناقصة، معيبة بالأخطاء أو صحيحة تنسجم مع العقل والذوق السليمين، بنت الواقع والمألوف أم من الخيال والوهم، وتكون التراجم ذاتية أو غيرية، ذاتية ما يكتبه الكاتب عن ذاته عرضا لمذكراته وسردا للأحداث التي عاشها وعرفتها حياته، مثل ترجمة عباس محمود العقاد لحياته في كتابه "أنا"، وترجمة أحمد أمين لحياته في كتاب "حياتي"، وترجمة لويس عوض لحياته في كتاب "مذكرات طالب بعثة"، أما الترجمة الغيرية فهي ما يكتبه الكاتب عن غيره سردا للأحداث التي عاشوها وعرفتها حياتهم، مثل تراجم عباس محمود العقاد لحياة النبي محمد عليه الصلاة والسلام ولحياة صحابته في "العبقريات".

ولا يوجد فرق لغوي بين السيرة والترجمة ولا في الحال والعمل والغاية، ففي الحالتين يكتب الكاتب مذكراته الشخصية أو مذكرات غيره، على طريقته وبأسلوبه وبحسب عصره وإمكاناته وحسب رغبته، وإذا كان كل من الاستعمال التاريخي والاصطلاح الفكري والعلمي يقرن السرد المعمّق والطويل بالسيّر ويربط العرض القصير والمختصر بالتراجم، فهذا لا يفصل بين الاثنين في الجوهر والدور والهدف، فكلاهما فعل تاريخي يربط الماضي بالحاضر ويقف في وجه نسيان الإنسان لماضيه المُشرق أو المشئوم، لبناء الحاضر وللاستعداد للمستقبل.

استهلّ الراوي كتابه مذكراته شاهد للقرن بتقديم شاذّ عن المألوف لدى الكتاب، هو عبارة عن قصة خيالية مفادها أنّ القدر ساق له الكتاب فوجده جاهزا بجنبه وهو يصلي بالمسجد ليكون مرجعا تاريخيا لأبناء الجزائر في الحقبة بين 1905 سنة مولده و1935 سنة انقطاعه عن الدراسة، ويظهر ذلك في مقدمة القسم الأول"الطفل" وفي مقدمة القسم الثاني"الطالب" فيقول:"ليست الغاية من هذه المقدمة تقديم كتاب للقارئ، كما هو مألوف، إنّما أردت أن أكشف الظروف المثيرة التي ألقت إليّ بهذه المخطوطة فاتجهت لنشر قسم منها في هذا الكتاب"9 .

نشر الجزء الأول من مخطوطه الذي أهداه له القدر ليهديه من جهته إلى كل جزائري يهمّه تاريخ الجزائر على أن ينشر الجزء الثاني فيما بعد، وفعلا نشر الجزء الثاني بنفس المقدمة، وتمّ جمع القسمين معا في كتاب واحد، ولعلّه يؤكد من خلال هذه المقدمة الخيالية الهادفة على ضرورة إسهامه في التأريخ من خلال مرحلة طفولته ومرحلته الدراسية بأوربا، نظرا لأهمية هذه المرحلة من التاريخ وخطورتها على الجزائر وعلى العالم الإسلامي وعلى الإنسانية جمعاء.

تميّزت المرحلة بالاستعمار الفرنسي الذي غرس أنيابه وجذوره في مستعمراته ينهش خيراتها ويقلع مقوماتها ويدفع بها نحو خراب العقول ودمار الحقول، وعالم عربي وإسلامي ممزق الأوصال ومشتت القوى ومفكك العلاقات الأسرية والدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وعالم تدفعه التقلبات السياسية والعسكرية والاقتصادية بحثا عن السيطرة والنفوذ في اتجاه حرب شاملة مدمرة.

وجاءت مذكرات شاهد للقرن بقسميها "الطفل" و"الطالب" تصور لنا الحياة في صورة بحر هائج أمواجه عالية عاتية تتلاطم والعالم فيها سفينة ترفعها الأمواج إلى أعلى عليين ثم تنزلها بعدما كانت في أعلى عليين إلى أسفل السافلين، والإنسان في العالم بين قويّ مستبد متسلط وضعيف مقهور متهيّب، وكانت فعلا الحقبة الزمنية منعرجا كبيرا وحساسا وخطيرا في تاريخ الإنسانية، انقسم العالم إلى معسكرين شرقي وغربي، واستفاد عدد من الدول من الحرب فأصبح يقود العالم في اتجاه العولمة باسم هيئة الأمم المتحدة بدل عصبة الأمم، وتحقق وعد بلفور المشئوم وانغرس الخنجر اليهودي الصهيوني في الجسم العربي الإسلامي، وصار الإسلام متهما انتقاما للحروب الصليبية، ومازالت آثار وتداعيات تلك الحقبة التاريخية تتوالى حتى الآن.

يعدّ القسم الأول من المذكرات "الطفل" فعلا كتاب تأريخ ليوميات الجزائري في الشرق الجزائري تحت الاستعمار، ففيه التاريخ ببعده الثقافي والأنثروبولوجي الذي تحول فيما بعد إلى ثورة عارمة شاملة مسلّحة خطط لها ونفذها أبناء نوفمبر المجيد، فمن ملامح تاريخنا ببعده الأنثروبولوجي والثقافي توظيف الأسطورة التي تتحول إلى واقع.

ومثل القسم الأول نجد القسم الثاني من المذكرات "الطالب" يؤرخ بحقّ لفترة على مدى تسع سنوات سبقت الحرب العالمية الثانية وكانت حافلة هي الأخرى بالأحداث والتحولات غيّرت وجه الحياة في العالم بعد ذلك، وكان صاحب المذكرات يهدف من وراء هذا العمل التأريخ إذ يقول: "وربما يعجب هنا أولئك المثقفون الذين أصبحوا لا يدركون لغة الشعب الجزائري المسلم، إنني لا أكتب هذه المذكرات من أجلهم، ولكن للشعب عندما يستطيع قراءة تاريخه الصحيح، أي عندما تنقصي تلك الخرافات التي تعرض أحيانا أفلاما كاذبة، والتي سيكون مصيرها في صندوق المهملات مع مخلّفات العهد الاستعماري."10

يصف الصدّيق "الطفل" أسطورة البطل التي تحوّل إلى "مصطفى بن بولعيد" وإلى "العربي بن مهيدي" وإلى "أحمد زبانة" بقوله: "كنا نختلط بتلك الجماعة المؤلفة من مزارعين فقدوا صنعتهم، فلم لهم مكان في حقولهم بعد أن طردهم الاستعمار واستولى على أراضيهم، ثم إنّ المدينة لم تُؤوهم بعد فيها... أما قسنطينة المدينة فكانت تقدم صورا أخرى، فمع عمي تابعت الاتصال بذلك الجانب الفاتن: العيسوية العلية والموسيقى، وأيضا جانبها البطولي. ففي ذلك العصر كان الحديث كثيرا عن مآثر شاب خارج عن القانون ولجأ إلى أودية وممرات، وادي الرمل. كان يدعى "بوشلوح"، لقد كان بطلا يملء خيال المراهقين قبل نومهم. لقد جندت له الإدارة أفضل رجالها خشية أن تملأ المدينة أسطورته البطولية، غير أن "بوشلوح" كان دائما يحبط خططهم، إذ حوصر مرة في فندق فتسلل هاربا من نافذته عبر مجرى للماء يأخذ مياه المدينة إلى أسفل وادي الرمل، ومن هناك اختفى بأعجوبة. كانت هذه الأسطورة تذكي خيالي وتغذيه...وفي يوم تلقينا بأسى أنّ "بوشلوح" وقع جريحا في يد الإدارة، إنما الذي كان يعزينا أنّ المفتش "بوناب" الذي جرحه قد دفع ثمنا لذلك حياته، لقد أثارت محاكمة "بوشلوح" الشعور في قسنطينة حين انتشرت كلمته إلى رئيس المحكمة الذي نطق بحكم الإعدام "إنكم تحكمون على المقعد الذي أجلس عليه، اما أنا فإنكم لا تستعطون أن تحكموا علي."11

وفي السياق نفسه لكن هذه المرة مع الحياة السياسية والاجتماعية يروي الصدّيق: "ففي يوم كان أحد المنتخبين الأوروبيين يقدم تقريرا للمجلس حول سرقة بقرة تخص أحد المستعمرين الفرنسيين، ويختم تقريره بقوله: بالطبع فإنّ السارق أحد سكان البلاد الأصليين ( (Indigene، فانبرى له خطّاب الطالب في السنة الرابعة، وكان يجلس في مقاعد المستمعين في المجلس وصرخ: ولم لا يكون السارق فرنسيا؟."12 كان للحادثة تأثيرها الفعلي في نفوس أبناء قسنطينة وأبناء الجزائر عامة، وتحوّل كل من يسمع كلام "خطاّب" في الجزائر إلى "خطاب" بداخله فجواب الطالب العفوي يحمل دلالة كبيرة ومغزى بعيد، تجسّد خطاب "خطاّب" بعد سنين إلى رصاصات مدوية في جبال الأوراس في الساعة الصفر من أول نوفمبر المجيد سنة 1954.

ومثلما أرّخت المذكرات في فصلها الثاني "الطالب" للمرحلة للعقد الذي سبق الحرب العالمية الثانية، بتناولها أحداث سياسية وعسكرية وغيرها مثل وصف بدأ محور برلين روما والحرب الإسبانية، وسجّل مواقف الطلبة الجزائريين من ذلك ومواقفه مما يحدث في الجزائر وفي فرنسا وفي العالم ككل، وسجّل بوصف دقيق كل مظاهر الحياة في مدينة تبسة جغرافيا تغيّر المناخ وسياسيا مع تطور الأحداث في العالم وقربه من الحرب الشاملة، واجتماعيا ازدياد درجة الفاقة وثقافيا، "لم تبق في المدينة أسرة تستطيع أن ترتب لطالب "جواني" وجبات الطعام، لأنّ الحرائق الكبرى في الغابات حول تبسة قبل الحرب العالمية الأولى، تسببت في تغيير المناخ الذي تطورإلى جفاف أفقر- بسنين كسنّي يوسف- كل العائلات التي تعيش من الفلاحة، ثم لم يعد التطور الذي ألغى العادة المألوفة إلى أن يعوضها بعادة جديدة."13

ويدافع صاحب المذكرات عن الأفكار التي يؤمن بها في هذا الجو الإيديولوجي والفكري والديني المشحون، الذي اختط بمآرب الاستعمار وبالمصالح الخاصة لدى القائمين بالإصلاح وممثلي الحركة الوطنية، مثل المركز الاجتماعي المرموق والمنصب السياسي العالي والمال والشهرة وغيرها، " أما الأفكار التي كنت أحاول نشرها فكانت في تعويض فلاحة القمح والشعير بفلاحات أخرى، مثل التين الشوكي وشجر الصبّار التي تتمشى مع تغير المناخ، لكنني ما كنت أجد لها أذنا صاغية غير أذن "حشيشي مختار" ربما لأنه- مع التزامه الإصلاحي- بعي واعيا لنوعية المشكلات في البلاد."14

ويصف الراوي طبيعة الإصلاح والأفكار التي يقول بها دعاة الإصلاح ويصف ما كان يجري من محاضرات ومناقشات وحوارات في المؤتمرات والندوات حول النهوض بالأمة، نجده في كل مرّة يوجه نقدا لذلك ويقلل من شأن الحراك الإصلاحي ومن دعوات السياسيين والمناضلين في الأحزاب والمنظمات والجمعيات للنهوض بالجزائر لتتحرر من وضعها المشئوم ، ويؤكد ذلك بقوله: "ويجب أن نقول الحقيقة للتاريخ: إنّ الوطن لم يكن يبحث عن أفكار تقنية، ربما كنت الجزائري الوحيد الذي لا ينام من أجلها، وربما كانت الجزائر حينئذ في منعطف سيبعدها حتى عن الأفكار ولدت على أرضها، فتراها في تلك الفترة بالذات تولي ظهرها للأفكار الإصلاحية حتى في تلك اللحظة التي يتوجها المؤتمر الجزائري الإسلامي."15

وتؤرخ المذكرات في جزئها الثاني "الطالب" لكل الأحداث التي تحدث بباريس مثل التظاهرات التي كان ينظمها اليهود بقيادة "برنارد لوكاش" زعيم التنظيم اليهودي العالمي "ليكا" " التي تجمع تحت رايتها اليهود لمواجهة الخطر الهتلري والخطر العنصري، الذي بدأ يظهر أثره في جانب من الرأي العام الفرنسي، على أبواب الحرب العالمية الثانية."16

وتؤرخ المذكرات لمشاركات صاحبها ونضاله في الحركة الوطنية بفرنسا، خاصة عندما تتاح له الفرصة للتعبير عن مطالب الجزائريين في الحياة الحرة والعيش الكريم وفي تقرير المصير والحق في الاستقلال، ومن مشاركاته تلك التي أسهم بها عندما كان مديرا للمركز الجزائري الإسلامي، ففي الوقت الذي كانت فيه المناضلون الجزائريون في الجزائر وخارج الجزائر منقسمين إلى وحدويين ومنشقين، وفي الوقت الذي دوى فيه صوت "هتلر" و"موسيليني" في العالم ينذر بانفجار الحرب مع أزمة تشيكوسلوفاكيا يصف الراوي في مذكراته الأوضاع العامة والخاصة بالجزائر وبفرنسا وحتى في العالم.

ففي خضم التحولات الجارية، وفي وصفها يقول: "وبلغت الأزمة أوجها يوم 27 أيلول "سبتمبر"، فنظمت ذلك اليوم الحركات اليسارية تظاهرة دعي إليها النادي فكنت ممثله، وبدأت في القاعة المكتظة الخطب حسب التقليد المألوف، فأتى دوري فتلخص خطابي في اقتراح: يجب على هذا المؤتمر للقوى التقدمية أن يوجه اليوم برقية إلى الحكومة يطالبها بمنح شعوب الشمال الإفريقي حقوقها، حتى تدخل المعركة من أجل الديمقراطية شاعرة بكرامتها لا بوصفها مرتزقة. في آخر الجلسة قرأت على الحاضرين لائحة التوصيات، فلم أجد فيها اقتراحي ولا مجرد التلميح إليه، اقتحمت المنصة لألفت النظر إلى هذا النسيان، ولم أصرح بأنّه تناس، فهاجت القاعة وخصوصا السيدات تهتف لي."17

ووصفت المذكرات الأحداث الدولية ومدى تأثيرها على الشعوب المستعمرة، مثل ما وقع في الجزائر قبيل وبعد اندلاع الحرب العامية الثانية، على الرغم من أنه كان يعلّق عليها آمالا كثيرة وكبيرة لتخرج الجزائر من الوحل، وفي هذا يقول الراوي: "ودقت ساعة الحرب، فأتاني "خالدي" بخبرها في الصباح: إنّ الجيش الألماني عبر حدود بولونيا في الساعة الخامسة من صباح اليوم. لم أكد أصدّق لطول انتظاري ولكن شرع البوليس في التفتيش ذلك اليوم، فسلّمت محفظة تضم كل أوراقي لأم الدكتور خالدي، وذهبت مع زوجي تلك العشية بمنشور عن قضية فلسطين، فدفنّاه في علبة معدنية خلف البيت على وادي الناقوس، حتى يبقى للتاريخ...ومنذ الغد بدأت الأسعار في السوق والبضاعة تختفي، ودخل هكذا العالم في الحرب العالمية الثانية."18

يمكن القول بأنّ مذكرات شاهد للقرن "الطفل" و"الطالب" معا هي شهادات للتاريخ، اختلط فيها السياسي بالديني بالأخلاقي بالاجتماعي بالاقتصادي بالتربوي بالحضاري، شهادات لحقبة هامة وحساسة وخطيرة وإن كانت قصيرة في عمر الجزائر والأمة الإسلامية والعالم، فهي سبقت الحرب العالمية الثانية وأعقبتها تحولات جذرية صاغت العالم سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا صياغة جديدة، شهادات حول الاستعمار الفرنسي ومخططاته وجرائمه في الجزائر وفي مدن فرنسا مع كل جزائري يريد الانتفاضة في وجهه الخفي، وشهادات حول الحركة الوطنية وانقساماتها، وشهادات حول الحركة الإصلاحية ودعاتها، وعلى رأسهم جمعية العلماء المسلمين الذي كان يهمّه أمرها، وشهادات حول الأحداث التي شهدها العالم قبيل الحرب العالمية الثانية، فالكتاب بحق وثيقة تاريخية ذات أسلوب تميّز بالدقة والوضوح والتسلسل، وذات بعد محلي جزائري وإقليمي عربي إسلامي وعالمي إنساني، يُقرأ من خلالها تاريخ الجزائر وتاريخ العالم العربي والإسلامي وتاريخ أوروبا الحديثة وتاريخ العالم أجمع.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم