صحيفة المثقف

أطفالنا وصحتهم النفسية

الاميرة كيت ميدلتون، أميرة  كمبردج وزوجة الأمير وليام، أعلنت انها ستتولى رئاسة تحرير صحيفة ذا هافينجتون بوست يو.كيه الإلكترونية لمدة يوم في هذا الشهر للمساعدة في زيادة الوعي بقضايا الصحة النفسية للأطفال ، ميدلتون

كما قال قصر كنسينجتون في بيان له " اتخذت من الصحة النفسية للأطفال محورا لعملها في السنوات القليلة الماضية. وهي إنها سعيدة لأن هافينجتون بوست ستساعد في إلقاء الضوء على هذه القضية المهمة ".

حاولت باتخاذي لهذا الخبر أن أوضح أهمية العناية الصحة النفسية للطفل، فقد تكون التغذية مهمة في بناء صحة الطفل وقد تكون مفردات العناية الاخرى كالملابس الجميلة الغالية الثمن مهمة إيضاً ولكنها من المحتمل أن تخفي في داخل جيوبها طفلاً يعاني من مرض التوحد Autism أو تسريحة جميلة التي تخفي دماغ مشبع بالحيرة والاضطرابات الحسية والعقلية والمعرفية النفسية الكبيرة التأثير على العائلة بأكملها .

وإذا سلمّنا بما يقوله العالم سيغموند فرويد،1856   - 1939، رائد التحليل النفسي، حول نظريته في التحليل النفسي أن " الطفل يولد وهو مزود بطاقة غريزية قوامها الجنس والميول الى العنف. تدخل هذه الطاقة في صراع مع المجتمع، وعلى أساس طبيعة الصدام وشكله تتحدد صورة الشخصية فيما بعد. كذلك "إن الطاقة الغريزية التي يولد الطفل مزودا بها تمر بأدوار محددة بحياته. كما أن النضج البيولوجي هو الذي ينقل الطفل من مرحلة الى أخرى، ولكن نوع وطبيعة المواقف التي يمر بها هي التي تحدد النتاج السيكولوجي لهذه المراحل".

أو حتى ما طرحه اريك أريكسون،  1902 - 1994، في نظريته للنمو النفسي والاجتماعي والتي تعتبر تطور الانسان نتيجة طبيعية للأحداث الاجتماعية والثقافية، محدداً لها ثمان مراحل تختص بنشوء الطفل معتبراً أن كل مرحلة عبارة عن أزمة نفسية تتطلب الحل قبل الوصول إلى المرحلة اللاحقة، الاربعة منها الاولى قد تكون الاهم في تكوينية الطفل :

" الثقة في مقابل عدم الثقة (0-2 سنوات)، الاستقلالية في مقابل الشعور بالخجل والشك (2-4 سنوات)، المبادأة في مقابل الشعور بالذنب (4-6سنوات)، الاجتهاد في مقابل الشعور بالنقص (6-12سنوات) " . أي بعد أثنتا عشرة عاماً تكون مراقبة النمو للطفل معبراً عن ذاته ومتوجهاً بقوة لمرحلة المراهقة، في المرحلة السابقة كانت الأزمة في الشعور بالتكامل وبناء الثقة بالنفس، وعند عدم عبور تلك الازمة بنجاح ؛ تأتي أزمة المراهقة التي ستكون حرجة للغاية وتكابدها الكثير من الإضطرابات النفسية بلا هوية واضحة .

يختلف أطفالنا عن أطفال العالم، فطوال عقود من الزمن لم نمنح أطفالنا تجارب جميلة تحملهم على مجارات أطفال العالم، على الرغم من أن هناك، فلتات، في النبوغ تظهر بين الحين والآخر لأطفال عراقيون عبروا حاجز الذكاء في دول أخرى، وهذه علامة جيدة بتوفر الارضية المناسبة لتكوينة أطفالنا، أي من المفرح جداً أن ترى طفلاً أو صبياً عراقيا قد تفوق بنسبة الذكاء على أقرانه من أطفال دول أخرى فالشعب العراقي بصورة عامة يتمتع بالذكاء، ففي تقرير أظهرته الخريطة التفاعلية التي نشرها موقع TARGETMAP لمتوسط الذكاء في العالم " أن العراقيين من الشعوب الذكية حيث احتل العراق المركز الأول عربياً والمركز الـ 21 عالمياً على مقياس الذكاء IQ،ولكن هذا الذكاء يبقى ناقصاً في حدود إمكانية مواجهته للإضطرابات النفسية و الاجتماعية التي ترافق اليوم حياتنا بكل صورها، كل المجالات التي يمر بها الطفل منذ ولادته ومروراً بنشأته وحتى مراهته وتعليمه تعاني من ضغوطات هائلة تتمخض عنها نماذج منهم من الصعوبة التعويل عليهم في بناء المستقبل مطلقاً بل أن نظرة واحدة للمستوى التعليمي والأخلاقي لبعض صبيتنا وهم النسبة الاكبر طبعاً، تشعرك بالتشاؤم حول المستقبل وكيف سنبني قادته إذا لم نستطع نحن ذلك الآن !

التحديات الاقتصادية والامنية التي تواجهها الاسرة العراقية، إلا ما ندر، وإستسلامها لتحديات التربية التي دخلت كعناصر، سلبية في أغلب الاحيان، كالانترنت والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي، وضعف قدرة الوالدين على مراقبة تصرفات أبنائهم في كافة مراحل نموهم حين أصبح هناك أولياء أمور صغار في السن لم يخوضوا غمار الحياة وهناك آباء لايمتلكون المعرفة الكاملة بأصول التربية الصحيحة أو ان هناك آباء مراهقون حتى، كل ذلك وعوامل أخرى أدخلت أطفالنا في دوامة من العنف النفسي وحتى الجسدي تسبب في تخريج نماذج مشوهة أخلاقياً وهم ليسوا سوى ضحايا للعنف الاسري ونواتج للطلاق ومنهم من الايتام ومنهم من هم ضحايا الكوارث الطبيعية وكوارث الارهاب وما تسبب من موجات نزوح كبيةر كان الاطفال من تحمل الثقل الاكبر من عناوين العنف فيه لمحدودية إحتمالهم لنواتج هذا النزوح من الجوع والعطش والبرد وما تسببته الحرب على الارهاب من رسم صور قاتمة في عقولهم الصغيرة للمستقبل الذي ينشدون .

اطفالنا عانو أشد المعانات فإذا لم تطحنهم الأزمة الاقتصادية وعدم قدرة آبائهم لتوفير الحياة الحرة الكريمة لهم ؛ كان الارهاب من تسبب في رسم تلك الصورة، فالمشاهد المروعة رسمت ملامحها على وجهوهم وبواطن عقولهم يومياً في الشوارع العامة والازقة وتسببت في إنحراف شديد في الخط البياني لتربيتهم وإخلاقياتهم كذلك فأن ظروف العمل القسري التي يكابدها البعض من قبل آبائهم تسببت في إندماجهم مع شريحة مجتمعية تفوقهم عمراَ أكتسبوا منهم إخلاقيات الشارع وتعرضوا معها حتى للعنف الجنسي سبقه العنف الجسدي للضغط عليهم في مجال العمل، شجعت ميولهم الكبير الى العنف ووطدت في داخلهم اساليب تفريغ عجيبة للطاقة التي تتجلجل في نفوسهم بتصرفات بعيد عن أخلاقنا وبعيدة عن كل سلوك قويم .

أطفال الشوارع ما هم نتاج حي لسياسات حكومية متخبطة في مجال الطفل وثقافته، فلا إحصائية واضحة عن أعدادهم ولكن هناك أعداد هائلة من الايتام من كلا الجنسين يجوبون الشوارع بأعمال صغيرة بحثاً عن فرص العمل أو الاستجداء، وهؤلاء معرضون لكل اشكل الاستغلال لحاجتهم للقمة العيش، ولو توفر مقياساً لقياس مستوى المشاعر السلبية في داخلهم لكان في أوجه الآن، حقد وإنتقام وغيرة شديدة من أقرانهم ممن أتيحت لهم الفرص للعيش في رغد واضح تحت رعاية كبيرة للأسر الميسورة الحال، بدأ الخلل في تلك الحالة التي أفرزتها الفوارق الطبيقية بين الاطفال وتوسع الفجوة بينهم.

مقطع فيديو مؤلم تناقلته مواقع التواصل الاجتماعي لطفلين في أحدى المحافظات وهم يبتون ليلتهم في علبة كبيرة من الكرتون ! وغيرهم ممن هربوا من بطش الارهاب مع ذويهم في شعب الجبال والصحاري تكلست في عقولهم توجهات سلبية ليس من السهولة بمكان ازالتها ـ ابتعدوا عن مقاعد الدراسة، بل أن المتسربون من مقاعد الدراسة وحسب تقرير أعدته "اليونيسيف" بالتعاون مع وزارة التربية في بغداد، ووزارة التربية في اقليم كردستان، وبالاشتراك مع وزارة التخطيط، واطلعت عليه "طريق الشعب" حنها، ان "نسبة الطلبة خارج المدرسة بلغت 20 بالمئة، اي قرابة 1.2 مليون طالب وطالبة".

وتلك مقدمة خطيرة على الخلل الكبير في بناء مجتمع المعرفة، فمئآت الالاف من الأميين ستضاف لسجلاتها، حينها سنكون بحاجة قدرات مالية وبشرية كبيرة لإعادة تأهيلهم معرفياً في المستقبل.

إذا كنا نبحث عن العصابات الجرمية في المستقبل، فها هم أمامنا يجوبون الشوارع بلا وعي كامل لأفعالهم وبلا رقابة حكومية حقيقية لتوجهاتهم، تنشط في داخلهم الرغبة في الانتقام من المجتمع تتحول الرغبة تلك في البداية الى تصرفات سلبية مثل : التدخين بأنواعه ومشاهدة الافلام الإباحية والتعرض لأقرانهم وبالسرقات البسيطة والتواجد الكامل في الطرقات ومقاه الكبار، بل حتى تكون واضحة في تعاملهم مع الاخرين بعنف كبيرة حتى أولئك الاكبر منهم سناً، فتمنحه تلك التصرفات بعضاً من الثقة السلبية بالنفس تلك التي لم يستطع احد قريب في العائلة من منحها له إيجابياً فيكون بعد حين يافعاً ومن ثم فتىً ومن ثم شاباً بلا هدف ولاطموح فاقداً لهويته في صراع تحديدها فيعمد الى تكوين هويته بتجربة عدة نماذج من الشخصيات فما تفلح معه إلا تجربة هوية العنف ونزعة السيطرة لتتنامى في داخله يركز ذلك الحاجات المفقودة لديه والتي لم يستطع أحد توفيرها، العالم أريكسون يتوقع أن لو تم توفير 70% من الحاجات لكان هناك إعتدال في شخصية الطفل فكيف بنا ولدينا أطفال لم يتحقق لهم سوى 1% فقط بل ربما لم يتوفرهم لهم سوى الأوكسجين .

تلك الحاجات المفقود للطفل في مرحلة ما من عمره نقدرها بين 12-18 عام، تدفعه للحصول عليها بالقوة من الآخرين، فيعمل على سلب إحتياجاته تحكمة نزعة العنف والطاقة الموجودة لديه وهنا نبدأ نحن، أو نكون سبباً في ذلك، في تحديد مستويات العنف لديه وحينما يندمج مع أقران له ليكونوا عصابات المستقبل وليضيفوا هماً أمنياً واجتماعياً كبيراً على الحكومة، وسيكونوا عبئأ على التنمية المستدامة المنشودة مستقبلاً .

 وفي حال عدم تمكنه من ذلك فيأتي حينها الإرهاب ليطوعه في صفوفه ويستثمر كل عناصر الغضب في نفسه وكل مكونات الحقد ضد مجتمعه، لدينا اليوم عشرات الآلاف من الاطفال تدربهم التنظيمات الإرهابية في معسكرات عديدة على الاعمال الارهابي وتغسل أدمغتهم وتملي عليهم رسائل تكفير المجتمع لتدفع بهم بعد حين في اتون معاركها الخائبة، وفي المستقبل القريب ستكون التنظيمات الارهابية موجود يحملها اليوم، فكراً وعقيدة، أولئك الاطفال النائمون في معسكراتها الآن .

علينا أن نعيد رسم سياساتنا الستراتيجية بشأن أطفالنا وأن نعيد التخطيط النفسي لمستويات صحتهم النفسية في جلسات نفسية طويلة، يجب أن نطور فرق كبيرة من العلماء النفسيين تجوب البلاد من شمالها الى جنوبها تستبين أحتياجات اطفالنا ومستويات صحتهم النفسية، لجان عليا لمراقبة مستويات الذكاء ومحاولة أستقطاب اطفالنا المتسربون من مقاعد الدراسة، هناك الكثير من البلدان نجحت في ذلك بعد دراسات عميقة وقدمت لهم مستقبل واضح المعالم تطور فيه مساهمتهم البناءة في صناعته وشجعتهم على الابتكار والتطوير وتجاوزت بذلك عقد كثيرة تواجهها بلدان العالم الثالث، قد خصصت لأطفالها ميزانيات مهولة، كانت ستصرف أضعافها لو لم تكن عملت ذلك اليوم .

لازالت الفرصة متاحة أمامنا لأعادة جدولة أفكارنا في مجال الطفل، ولكن علينا أن نركز بذلك وأن ننشيء مراكز تطوير على قدر عال من التطور لإستغلال الطاقات وأن يكون القائمين عليها ممن يتمتعون بالخبرة العالية في هذا المجال من التربويون المشهود لهم بالنزاهة والشرف والعلمية . حمل ثقيل جداً على قلوب غضة ؛ يجب أن تحسن مباضع النفسانيون من إزالته بكل حرفية وبلا جروح وأن تقتلع من صدورهم وعقولهم كل الأورام الخبيثة . أملاً في أن يعودوا الينا . وسيعودون إن شاء الله .. حفظ الله العراق .

 

زاهر الزبيدي

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم